ما من شك أن مستقبل الأمم مرتبط بمثقفيها وعلمائها ومبدعيها وليس بما تستورده من خبرات وتجارب وأجهزة تكنولوجية حديثة.والمجتمعات المدنية الحضارية تستثمر عقل وفكر الإنسان وليس عضلاته، لأن المستقبل هو للعقول والأدمغة المفكرة وليس للعضلات الاستعراضية ، كما أن رقي الأمم وتطورها العلمي والثقافي والمعرفي يعتمد بالأساس على حجم رصيدها من العلماء والخبراء ورجالات الفكر والثقافة والإبداع في الحقول العلمية المختلفة ، ولكن لا يمكن لهؤلاء جميعاً أن يعيشوا في ظل القهر والقمع والاضطهاد والبطش ولا يمكن لجهودهم أن تعطي ثمارها الا في أجواء من الراحة والهدوء والاطمئنان النفسي والحرية الشخصية والديمقراطية والأمن الاجتماعي والوظيفي ، وحرية الرأي والتفكير والتعبير.
لكن للأسف أن أوطاننا العربية من محيطها حتى خليجها فقدت الكثير من عقولها وأدمغتها المفكرة وكنوزها العلمية التي تركت أوطانها وهاجرت منها نتيجة غياب الحريات، ومحاكم التفتيش عدا محاولات قهر وقمع الخطابات الإبداعية الحقيقية وعمليات التكفير إلى جانب الملاحقات والمطاردات السلطوية ضد رجالات الفكر والثقافة والعلم والأدب والتنوير وتضييق الخناق عليهم ، بينما الدول الغربية فتحت أحضانها وقلوبها لهذه العقول المهجرة والمهاجرة، واستقبلت أصحابها بكل ترحاب للعمل في جامعاتها ومراكز الأبحاث فيها ، وأغرتهم بالمراكز والأموال. وفي واقع الحال، أن الكثيرين منهم يحلمون بالعودة إلى أوطانهم وبلادهم لكنهم يخافون من أقبية الاعتقال والتعذيب.
إن أمة لا تحترم علماءها ومثقفيها ومبدعيها لا تستحق الحياة ، وأن الحكومات التي تطارد وتحاصر الفكر الديمقراطي العقلاني المتنوّر وترضخ لمطالب المافيات التكفيرية ولفقهاء الظلام ، وتصادر الكتب وتمنع المطبوعات وتسحب كتاب (الأيام) لعميد الأدب العربي الراحل طه حسين من المنهاج الدراسي الثانوي ، لا يمكن أن تكون ولا بحال من الأحوال حكومات بشرية، وأن ما تتعرض له الثقافة الديمقراطية الحقيقية المعبرة عن الطبقات الشعبية وطموحاتها الروحية الإنسانية من محاولات
قهرية وقمعية ما هو الا خدمة لأعداء الحرية والنور والمعرفة والإبداع.فلتتعلم الحكومات والمؤسسات والدوائر في الوطن العربي الكبير كيف تحترم وتقدّر العقول والأدمغة المفكرة ، وكيف تحترم انجازاتها الإبداعية والحضارية الثمينة ، فتفتح لهذه الأدمغة كل المجالات وتهيء لها الظروف الإنسانية لتعطي وتبدع وتقدم بكل ما في استطاعتها للوطن والمجتمع والجماهير.