23 ديسمبر، 2024 5:33 ص

هجرة الشباب الهروب من الخوف والوصول الى المستقبل المجهول

هجرة الشباب الهروب من الخوف والوصول الى المستقبل المجهول

في دراساتٍ علمية واجتماعية وإحصائية سابقة، أجرتها دوائر عراقية مُتخصصة منفردة أو بالتعاون مع مكاتب الأمم المتحدة وخبرائها، فقد كانت كُلّ المُؤشرات تدُلّ على أنّ الشباب أو أرباب الأسر العراقية ، وحتى حدود سنوات نهاية سبعينات القرن الماضي كانوا يقفون في آخر التسلسلات من سجلات الدول الطاردة للخبرات والكفاءات، ناهيك عن العمالة التقنية، وذلك لأسباب عديدة تقع على رأس أولوياتها اصطباغ الحياة السياسية وتابعتها الحياة الاقتصادية والاجتماعية بالاستقرار شبه التام، واستحواذ سوق العمل العراقي على أغلب أعداد وطاقات خريجي الكليات والجامعات والمعاهد، فضلاً عن تمكن الاقتصاد العراقي المقبوض بيد الدولة بشكلٍ جادّ من تحقيق طفرات إلى الأمام وبوتائر تنموية متسارعة، وعلى نحوٍ خاص في القطاع الصناعي، الذي وصلت درجة نُمُوه السنوية بحدود 7 بالمئة وهذه بحد ذاتها من الوتائر الحسنة والمقبولة والجيدة، بحيث أدّت التخطيطات العلمية والمدروسة لكل من وزارة التخطيط و وزارة الصناعة بكُلّ ما تمثله كوادرها في الخبرة الوطنية، فضلاً عن فعالية المراقبة والمتابعة لبرامج التدريب والتأهيل، قد مكنّت الناتج الصناعي العراقي (الكمّي والنوعي) من الإحلال محل الاستيرادات .

وهذه القفزة بحدّ ذاتها هي القاعدة الأساس في انطلاق قاعدة صناعية متينة و رصينة.

واستخدام سياسة التقشف في القطاع المدني التنموي، وإثر دخول العراق الكويت سنة 1991 والآثار العسكرية المتدهورة التي نتجت عن هذا الدخول، ومن ثمّ دخول العراق تحت طائلة العقوبات الاقتصادية الدولية، فقد جاء التأثير هذه المرّة شديداً وقاسياً وعنيفاً على قطاع الشباب العراقيين الذين وجدوا أنفسهم في ظلّ نظامٍ سياسي مُحاصر واقتصادي مديون ومنهك وصناعة لا تجد بين أيديها مواد أولية خام ودخل إيرادات من تصدير النفط وانفاق ريعه مرهون لدى الأمم المتحدة والقوات الدولية، فضلاً عن انهيار قيمة الدينار العراقي الشرائية إلى درجةٍ متدنية تكادُ لا تُصدّق.

ومن هنا بدأ العدّ التنازلي في حسابات عقول الشباب وفي تصرفاتهم وتخطيطاتهم للتفكير في هجرة البلد ومُغادرته والتفتيش عن أماكن أخرى من العالم تكون أكثرُ مناسبةً للسكن فيها والإقامة بين ظهراني أهلها، وفي تلك الحقبة وعلى نحوٍ خاص كانت للشباب القدرة على الانتقاء والاختيار في أمكنةٍ أكثر أمناً وأسهل منال للتفتيش عن العمل ، فضلاً عن حالة الاستقرار والرفاهية التي تتمتع بها بعض الدول العربية ودول الإقليم المجاورة وفي كثير من دول أوروبا وأميركا الشمالية، ومع كُلّ تردّي الوضع الاقتصادي في تلك الفترة ، إلاّ أنّ الحالة الأمنية السائدة وقتها كانت تُعطي الترجيحات لدى قطاع الشباب أملاً في إمكان تحسُن الحالة الاقتصادية في جعل التردُد في ترك الوطن يفوزُ على غيره من الخيارات.

وبحُلول سنة 2003 وقيام التحالُف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية بالحرب على العراق وابتداء التخلخُل في البنية التحتية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية يأخذ دور الصراع العنفي والاقتتالي، فضلاً عن توسع قاعدة الصدام ما بين رافضي الاحتلال والقوات الامريكية ودخول الحالة أطوار شديدة العنف في المواجهات ، ناهيك عن قيام سلطات الاحتلال بحلّ مُؤسسات كثيرة – أمنية وعسكرية و ثقافية و إعلامية – قد دفع بمئات الآلاف من الشباب ومن الرجال القادرين على العمل والموظفين إلى النزول إلى الشوارع بدون عمل تتقاذفهم المقاهي ويقتلهم الفراغ والبطالة وتنهشهم الأفكار المُتضاربة التي أخذت تتناقلها الصحف و وسائل الإعلام والفضائيات من كلّ حدب وصوبٍ، فصارت وسائل الإعلام هي سيدة الموقف والعنصر الفاعل في تسيير عقول الشباب ومن هم في حكمهم ، كُلّ ذلك جاء متوازياً مع تدمير البنية التحتية لمستلزمات التنمية، مع توقف شبه تام لعجلة الصناعة المدمرة وانتشار الفوضى وسيطرة قعقعة السلاح على ما عداها من وسائل الحوار والتفاهم، ليفيق الجميع في يومٍ ما من أثر الصدمة الهائلة وقد وجدوا أنفسهم يقبعون على بقعة أرضٍ كانت إلى ما قبل فترة وجيزة تسمى بالوطن ..!

أمّا اليوم فقد شاهدوا بأمّ أعينهم أنّ ما حلّ بالبلد من خراب وما يمكن أن يحلُ به لاحقاً كما أثبتتهُ دلائلُ الأيام الفائتة و اللاحقة من سيطرة الخوف وسيادة لغة الرصاص والمُفخخات ، قد غدا أمراً واقعاً لا مفرّ منه في حساب مئات الآلاف من أبناء الأسر شباباً ذكوراً كانوا أم إناثاً ومن مختلف الملل والقوميات والطوائف.

ووفق ذكرنا سابقا، فقد كان لطبقة حملة الشهادات والمُؤهلين من خريجي الدراسات العُليا وفيهم الأطباء والمهندسين والإداريين وخريجي الأقسام العلمية في كليات التربية والعلوم الرغبة في الإصرار على الهجرة بأسرع ما يمكن وكلّما توافرت الفرص المناسبة، حتى صارت دول الجوار (الأردن وسوريا ومصر وتركيا) الوجهة الأولى والملجأ المناسب والمستوعب لمئات الآلاف من الشباب في سعيهم المُستميت للتفتيش عن عملٍ والقبول بالحدود الدنيا من الأجور والرضا مجبرين بكل ترديات وسائل العيش وأبوابه، إلى حدّ مستوى الكفاف ..!!

كما نجد ضمن تلك الشريحة من الشباب المفتشين عن عمل، من كان صاحب طموحٍ لا يُحدُ مُذ حسم أمره أن يجعل من التجربة الأولى في دولٍ قريبةٍ خطوةٍ أولى ورقماً أولي، دعاهُم بعد مزيدٍ من التفكير والجُرأة والدُخول في معترك المغامرة بخطواتٍ أبعدُ مدىً ليقتنصوا الفرص في الهجرة إلى دولٍ من مثل أوروبا وامريكا وبعض دول منظومة الاتحاد السوفياتي (سابقاً) لأجل الدراسة أو لأجل الإقامة والمعيشة والاستقرار المؤقت والدائم.

ويظل المواطن العراقي من الشباب يعيشُ ما بين قوانين سائبة وفالتة في برامج توظيف وتأهيل وطنية، وبين طموحات الأفراد في مُستقبلٍ آمن ومُّرّفه، ومن طرفٍ آخر فإنّ موضوع الهجرة في يحتاجُ من مُنظمات الأمم المتحدة أن تعطيه دوراً أكيداً وفعّالاً في إحصائياتٍ منتظمة ودقيقة في توثيق طبقات المهاجرين ومواقع توطنهم الجديد ومناطق نزوحهم من العراق جُغرافياً مع التغيرات السنوية الحاصلة على مواقفهم ، كي يتمكن الجميع من التعرف على إخوة وأنسباء وأصدقاء ومعارف توازعوا بين أربعة أطراف المعمورة ، وهذا ليس على منظمة دولية لها كوادرها وميزانياتها العظيمة المالية والإدارية, بمُستحيل…