بعد أيام تحل ذكرى الاحتلال الأميركي للعراق. ذكرى لا يتعظ بها مستبد أو يتدبر خطورة الطغيان في تقويض الاستقلال الوطني.
بعد أيام تحل ذكرى الاحتلال الأميركي للعراق. ذكرى لا يتعظ بها مستبد، أو يتدبر خطورة الطغيان في تقويض الاستقلال الوطني، وكيف يفشل رهان الطغاة على إطالة أعمار الدكتاتوريات بحجة الإرهاب الداخلي، أو الإعداد لمواجهة عدو خارجي، فيؤدي سوء الإدارة إلى استعمار لا يصون العِشْرة السابقة مع طاغية لا يجيد إلا عناد شعبه.
ومن المفارقات أن يطلق يوم احتلال العراق، 9 أبريل 2003، على حي أو شارع في بغداد، ربما سارعوا إلى توثيق اسم “حي 9 نيسان” في حياة صدام حسين، ردا على عناده واعتزازه بالنعرة الوطنية بعناد يستقوي بالدبابة الأميركية. ومن المفارقات أيضا أن يستنكر معمر القذافي، في مؤتمر القمة العربية بدمشق (مارس 2008) بعد 15 شهرا على شنق صدام، قدوم “قوة أجنبية تحتل دولة عربية وتشنق رئيسها ونحن نتفرج عليهم ونضحك”، وحصار ياسر عرفات قبل أن “يقتلوه ويسمموه”.
وفي ما يشبه نبوءة لم تؤخذ على محمل الجد، وجّه القذافي تحذيرا إلى المشاركين في اجتماع القمة من دوران كأس الإعدام على أيدي الأميركان، ولم يستبعد أن يأتي الدور “عليكم كلكم”، واستخفوا بكلامه ضاحكين، فأتبع مؤكدا “إي نعم… نحن أصدقاء أميركا قد توافق أميركا على شنقنا في يوم ما”، فصفقوا له، ليس استحسانا لكلامه، وإنما لأنه أنهى كلامه بهذه الجملة فأعفاهم من فائض الرعونة.
وفي العام 2011 سيلحق القذافي بصدام، مع اختلاف في تفاصيل إخراج مشهد وحشي خلا من الكبرياء. ما كان القتلة آدميين في تمثيلهم بجثته، على وقع هتاف “الله أكبر”، وما كان الكائن المتألّه قد أدرك كارثية النهاية، ولكنه تنازل فمسح الدماء عن وجهه، ونظر إلى يده وعليها الدم، غير مصدق أن تكتمل تراجيديا كان بطلا لها.
تتلكأ حركة التاريخ أحيانا، ولكن لها اتجاها واحدا. وحين قال أرنولد توينبي إن إسرائيل لن تبقى أكثر من مئة عام؛ فلأنها كيان عنصري غير طبيعي مضاد لمنطق التاريخ الذي لم ينصر إلا أصحاب الحق في الحرية.
وما كان يليق بشارل ديغول، الذي ذاق مرارة احتلال النازي لبلاده، أن يستكثر على الشعب الجزائري حقه في الحرية. أنكر الجنرال صيرورة التاريخ، وحتمية زوال كل استعمار، وأنكر مشاركة الجزائريين في تخليص فرنسا من قبضة النازي، وأنكر وعد فرنسا للجزائر بالاستقلال بعد انتهاء الحرب الأوروبية عام 1945.
وحين انتفض الجزائريون في العام نفسه في مظاهرات سلمية تهتف بالحرية، لم يتردد الجيش الاستعماري في ارتكاب مذابح بلغ ضحاياها 45 ألف شهيد، في مدن قسنطينة وقالمة وسطيف. أنكر الجنرال أن ما تشهده الجزائر ثورة انطلقت في أول نوفمبر 1954، وخاطب جيشه عام 1959 قائلا “إننا نعيش تمردا دام خمس سنوات، وخسارتنا للجزائر كارثة لنا وللدول الأوروبية”، وتأخر قوله “فهمتكم” حتى عام 1962.
كان الجنرال عنيدا، ولكن الحاكم غير الجنرال يكون ضحية للتضليل، فحتى عام 1776 ظل الملك جورج الثالث يستند إلى أوهام الإمبراطورية، ولا ينصت إلى هتاف المشتاقين إلى الاستقلال على الضفة الأخرى للأطلسي، ورأى أن جيش الإمبراطورية قادر على قمع “العصيان” في أميركا، ولم يجرؤ رجال الملك على مصارحته بثورة “الاستقلال” بقيادة جورج واشنطن، ولكنهم أسمعوه ما يريد سماعه، وبالغوه في التضليل وأفهموه أن الثورة ليست إلا تمردا يسهل سحقه. شيء من هذا التضليل تعرض له صدام حسين وكان سببا فيه أيضا.
يسجل قائد فيلق الحرس الجمهوري العراقي الثاني الفريق الركن رعد مجيد الحمداني في كتابه “قبل أن يغادرنا التاريخ” هشاشة العراق قبل احتلاله، في حين كان “الكل في مزاد كبير لعرض القوة ولا أبرئ نفسي من هذا”. ويروي أنه دعي يوم 30 ديسمبر 2002 إلى لقاء صدام، بحضور أكثر من 30 من كبار الضباط، وقبل بدء الاجتماع أبلغهم عبده حمود سكرتير صدام بأن الرئيس “متعب ومرهق بالموقف العام، لا تذكروا أية مشاكل”. ثم أنصت إليهم القائد فسمع خطابا حماسيا حول الولاء والإخلاص والاستعداد للقتال، وقال صدام “إننا لا نريد هذه الحرب، ولكن إذا فرضت فإننا سنركّع أميركا، وندمر جيوشها على حافة الصحراء… أنا متأكد من انتصارنا ومن تركيع أميركا إذا جاءت بجيوشها؛ لأنه لم يبق لله جيش يقاتل في سبيله سوى جيش العراق”.
وفي يوم للغضب، الثلاثاء 7 مارس 2017، استدعت ذاكرة المصريين أحداث يناير 1977، وقد استقرت في الوجدان العام باسم “انتفاضة الخبز”، رفضا لقرار رفع الدعم عن السلع الأساسية، واعتراضا على اعتبارها “انتفاضة حرامية”، وهو توصيف أطلقه أنور السادات الذي رضخ لإرادة الشعب. وفي “ثلاثاء الخبز”، تداعت الجماهير، من غير اتفاق، للتظاهر في أكثر من محافظة، اعتراضا على تخفيض حصة الفرد من أرغفة الخبر.
إشارة دالة تدعو للتأمل، وإن استهان بها متثاقفون اتهموا الشعب بالصمت على انتقاص الحريات وتعطيل البعض من مواد الدستور، فكيف ينتفض من أجل الخبز؟ ناسين أن ثورة 25 يناير 2011 أطلقت في يومها الأول شعار “تغيير – حرية – عدالة اجتماعية”، إلا أن الإرادة الشعبية جعلت الصيغة الأخيرة للشعار “عيش – حرية – عدالة اجتماعية”. لا يحمل الخبز إلا في مصر اسم “عيش”، ومن أشهر أنواع القسم أن يكون على “العيش والملح”. ولعل انتفاضة الثلاثاء رسالة تحذير تقول إن هناك آمالا لا تخبو في الرهان على ما تبقى من أحلام الثورة المجهضة، وإن الجماهير لا تخرج إلا إذا فقدت الأمل، أو واجهت موتا مؤكدا؛ فتكون الشجاعة أولى من ذل انتظار النهاية.
الرسالة الأكثر أهمية، في هذه الانتفاضة الرمزية، أن أحدا لا يملك حق الكلام باسم الشعب، ولا الوصاية على ما يريد، في التوقيت الذي يقرر فيه أن يقول: لا.
نقلا عن العرب