23 ديسمبر، 2024 12:20 ص

ها لكعك من ها لعجين

ها لكعك من ها لعجين

يقولون ان فهم السؤال هو نصف الجواب ويقال كذلك ان التعرف على المشكلة وتعريفها بشكل دقيق هو نصف حلها لذا فأن من المفيد تشخيص المعوقات التي تعترض قدرة العراقيين لتطبيق نظام سياسي ديمقراطي سياسي حديث لكي نستطيع تكوين صورة كثر مصداقية وعقلانية للمستقبل. يذكر ان جميع الحجج التي تساق بخصوص عللنا السياسية لا تاخذ بالحسبان الظروف الموضوعية التي سأتطرق اليها  وانما غالبا ما تركز على شخصنة المشاكل او ارجاعها الى احداث أنية او عوامل متغيرة لذا فأن جل التحليلات بهذا الخصوص تسقط ضحية هذا التبسيط ومن ثم يغلب عليها التفاؤل و اللاواقعية. التحليل السليم لهذه المشكلة يستوجب منا ان نستحضر او نتعلم (ولو بشكل سريع جدا) من تجربة المجتمعات الديمقراطية المتقدمة و مراحل التطور الاجتماعية والثقافية والسياسية التي مرت بها في تأريخها الحديث واذكر بالذات عصر الحداثة. 
بتقديري اننا لم نصل بعد الى عصر الحداثة في الوقت الذي اضحت شعوب كثيرة الان في مايسمى  بعصر ما بعد (اكرر ما بعد) الحداثة. ولكن دعونا نوضح اولا ماذا نعني بالحداثة؟ لكي نفهم معنى الحداثة علينا ان نفهم ألفرق مابين المجتمعات التقليدية و المجتمعات الحديثة (المتطورة). و كما كنت قد كتبت في وقت سابق فأن الاولى تدور حول نفسها, بمعنى أن الخلف يقلد السلف بطريقة تفكيره وقيمه وعاداته واساليب عمله وملبسه وحل مشاكل الحياة اليومية. المجتمعات التقليدية هذه تتصف بألتحجر وبالممانعة ضد اي محاولة للتغيير والتغيير اذا حصل فأنه يتم بشكل بطئ جدأ والمجتمعات هذه لاتقيم وزنأ للفرد و للحريات الفردية. ألمجتمعات الحديثة من جانب أخر تتسم بالتغير الدائم والتفكير العقلاني و العلمي  في ألادارة و السياسة و الاقتصاد بدلا من البحث عن حلول لمشاكل الحاضر في ثنايا الماضي.
الحداثة انعطاف تارخي كبير في تاريخ البشرية وفهمها يتم ايضا من خلال فهم اركانها الرئيسية الثلاثة وهي الثورة الصناعية و الرأسمالية و بناء الدولة القومية الحديثة وهي اركان متداخلة فيما بينها و اثرت على بعضها بشكل متبادل (ديالكتيكي). سوف احاول المرور بشكل سريع على هذه الاركان وتأثيرها على العلاقات البشرية و قيم وتقاليد الافراد والجماعات وطرق تفكيرهم ومعيشتهم العصرية. الثورة الصناعية تفهم دائما من خلال الاختراعات الصناعية و التحولات المادية و الاقتصادية التي رافقتها والتي كانت جزئا من نتاجاتها. لكننا في التحليل السياسي يجب ان نركز هنا على العواقب الاجتماعية والثقافية والسياسية التي ترتبت عليها والتي خلقت واقعا جديدا يفصل المجتمعات الحديثة عن مراحلها التاريخية القديمة وخاصة مرحلة الاقطاع الذي كان يتسم بأقصى درجات التقليدية. فتطور المجتمعات صناعيا وتغير بناها الاقتصادية ادى ايضأ الى تغيرها وتطورها اجتماعيأ وهذا بدوره ادى الى تطور هويات الافراد وأنتماءاتهم.  حركة التصنيع ونمو المدن العملاقة ادى ال حركة التحظر او  نزوح الناس من القرى والارياف الى هذه المدن من اجل العمل والحصول على خدمات وحياة افضل. ذلك اعطى مساحة واسعة من الحرية للافراد بتجاهل وتجاوز الانتماءات والعادات والقيم القديمة التي كانوا يتمسكون بها سابقا لانها لم تعد تناسب نمط الحياة الجديدة في بيئتهم الاجتماعية الجديدة التى اضعفت الضغط الذي كان يمارس عليهم من قبل الاقارب او القبيلة او القوى الدينية المحلية. فبعدهم عن مناطق سكناهم الاصلية جعلهم بعيدين عن الرقابة واعطاهم حرية اكبر لتطويع او تغيير عاداتم وبعض قيمهم و طريقة ممارستهم لمعتقداتهم الخ. كما ان انتشار المدارس  والنشاطات الثقافية اسهم في انتشار العلم والمعرفة وخلق وعي جماعي جديد حرر الناس من البقاء رهائنأ  في اطار الماضي واسرى قيم و تقاليد اكل الدهر عليها وشرب ولم تعد لها وظائف ذات اهمية في الحياة المعاصرة.
الركن الاساسي الثاني هو الراسمالية كايديولوجية ونظام اقتصادي. دعنا ايها القارئ من كونك اشتراكيا او ذا فكر يساري او غيره فالموضوع هنا يتعلق بفكر اقتصادي يقدس العقلانية في التفكير والتفكير الخلاق و بكل جديد ولايعير اهتماما للتقليد الا بقدر فائدته وجدواه الاقتصادي. للراسمالية فلسفة مركزية قوامها تحقيق التراكم المالي والتوسع والتطوير وبان من لا يتقدم يضمحل. كل ذلك هدفه غزوا الاسواق وتحقيق اكبر الارباح وهذا الامر, من بين امور اخرى, ادى الى التقدم التكنولوجي بسرعة و بتراكم رؤوس الاموال وتضاعف حصة السلطة المركزية من الضرائب التي اخذت تستخدمها لتطوير الصناعة العسكرية وبناء الجيوش و ترسيخ الدولة القومية الحديثة.
وبناء الدولة القومية الحديثة, و هو الركن الثالث للحداثة, خلق هوية جديدة تقدمت على جميع الهويات الاخرى. أنها هوية جامعة ومظلة ينضم تحتها جميع الافراد والجماعات بمختلف خلفياتهم الدينية والجغرافية والطبقية. أنها هوية المواطنة. وهذه الهوية ترسخت ولم تع موضوع اختلاف والسبب يعود الى ان مفهوم المواطنة خاصة في الانظمة الديمقراطية الراسخة في اوروبا الغربية ينبع من حقيقة ان علاقة الفرد بالوطن ماهو الا خلاصة تصوره لما تعود عليه هذه الرابطة من نفع (منظور المنافع المتبادلة للطرفيين أي الوطن والمواطن), فهو امر يتعلق بالأخذ والعطاء, الحقوق والواجبات, واجب التزام المواطن بالقانون يقابله حق حماية الدولة للمواطن. المواطنة اذأ هي رابطة او شبة معاهدة بين طرفين وليست مشاعر وعواطف. لقد تعزز مبدأ المواطنة من خلال تطور الحقوق المدنية (مثلا مبدأ المساواة امام القانون) والسياسية (حق التعبيرو تاسيس الاحزاب وحق الانتخاب الخ). والاجتماعية (حق العمل والتعليم والرعاية الاجتماعية حقوق التعويض عند البطالة وغيرها) حتى وصل الامر في بعض الدول ان يكون المجتمع, من خلال مؤسسات الدولة, مسؤلا عن المواطن في الكثير من شئونه من المهد الى اللحد. كل ذلك عزز شعور الناس بالانتماء و بالآمن والطمأنينة والحياة الحرة الكريمة.
أين نحن من كل ذلك؟ مالفرق ان حكم عراق اليوم فلان او علان؟ كيف نؤسس نظاما سياسيا حديثا ونحن غارقين في متاهات الجهل و التخلف.  الديمقراطية ليست لعبة قذرة كما تلعبها الطبقة السياسية الفاسدة في عراق اليوم. انها رمزا لتحرر الفكر الانساني من طغيان التسلط الديني و الاجتماعي و محرابا للعدل والمساواة و رمزا لاحترام ادمية الانسان وحقوقه وبالتالي احتراما لخالقه. كيف نبني نظاما سياسيا حديثا ونحن مكبلين  بالادعية الصفراء واسرى الخرافات و تراهات الماضي المختلق. صدقوني لن تحدث المعجزات مادمنا نستهزأ بالفكر الانساني النير وبدلا عن ذلك نستشير ونطلب نصح الاموات ونستجير بهم ومن العقول الظلامية نستلهم “العبر” ونجعلهم اوصياء على الشعب وعلى حساب عقول العراقيين الكفوئة والمتنيرة.

نعم التغيير ممكن فيما لو تمكنا من كسر القيود الاجتماعية والثقافية و الدينية التي تقف حجرة عثر امام التطور و الحداثة.