23 ديسمبر، 2024 1:08 ص

هارون: الكاظم حجة الله على الخلق.. لكن الملك عقيم

هارون: الكاظم حجة الله على الخلق.. لكن الملك عقيم

عاش الامام موسى بن جعفر الكاظم بن الامام جعفر الصادق (عليهما السلام) مدة إمامته بعد أبيه في فترة تتّسم عادة بالقوّة والعنفوان وهي فترة صعود الدولة العباسية وانطلاقتها، واستلم شؤون الامامة في ظروف صعبة وقاسية، نتيجة الممارسات الجائرة للسلطة العباسية وعلى رأسها المنصور الدوانيقي، ورغم ذلك جسّد دور الامامة بأجمل صورها ومعانيها.

احتل الامام الكاظم مكانة مرموقة على صعيد معالجة قضايا العقيدة والشريعة في عصره. وبرز في مواجهة الاتجاهات العقائدية المنحرفة والمذاهب الدينية المتطرفة والأحاديث النبوية المدسوسة من خلال عقد الحلقات والمناظرات الفكرية مما جعل المدينة المنورة محطة علمية وفكرية لفقهاء ورواة عصره يقصدها طلاب العلوم من بقاع الأرض البعيدة فكانوا يحضرون مجالسه وفي أكمامهم ألواح من الأبنوس (نوع من الخشب) كما ذكر التاريخ.. وقد تخرّج من مدرسة الامام الكاظم والتي هي استمرار لمدرسة والده الامام الصادق (ع) الكثير من العلماء والفقهاء في مختلف العلوم الاسلامية آنذاك..

عاصر الامام موسى بن جعفر من خلفاء العباسيين “المنصور” و”المهدي” و”الهادي” و”هارون الرشيد”، حيث اتسم حكم “المنصور العباسي” بالشدّة والقتل والتشريد وامتلأت سجونه بالعلويين حيث صادر أموالهم وبالغ في تعذيبهم وتشريدهم وقضى بقسوة بالغة على معظم الحركات المعارضة… اما في زمن ولده “المهدي العباسي” فقد خفّف من وطأة الضغط والرقابة على آل البيت مما سمح للامام موسى بن جعفر (ع) القيام بنشاط علمي واسع في المدينة المنورة حتى شاع ذكره في أوساط الأمة.

خلافة “الهادي العباسي” هي الاخرى اشتهرت بالشراسه والتضييق على أهل البيت وشيعتهم وتوعد الامام الكاظم وهدده مراراً لكن لم تسنح الفرصة له بذلك إذ مات بعد وقت قصير، فانتقلت السلطة الى “هارون الرشيد” الذي فاق أقرانه وأسلافه إجراماً وممارسة الضغط والإرهاب ضد العلويين.

رغم أن عصر الامام موسى بن جعفر قد اتسم بموجات رهيبة من الاتجاهات العقائدية المنحرفة التي لا تمت إلى الاسلام بصلة، كما تميز بالنزعات الشعوبية والعنصرية والنحل الدينية، الاسلام بريء منها كل البراءة. حيث تصارعت تلك الحركات الفكرية تصارعاً بعيد المدى أحدث هزاتاً اجتماعية خطيرة لكن صيت الامام الكاظم قد ذاع بين الناس لما يتحلى به من شخصية فذّة لامعة وتناقلوا فضائله، وتحدّثوا عن علمه الغزير، ومواهبه العالية.

وكان يذهب الى فكرة إمامته وأحقيته في الحكم والسلطة ليس كبار المسؤولين في بلاط “هارون” مثل: علي بن يقطين، وابن الأشعث، وهند بن الحجاج وأبو يوسف محمد بن الحسن وغيرهم من قادة الفكر الإسلامي.. فحسب بل وحتى “هارون الرشيد” نفسه الذي كان يؤمن بأن الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) هو أولى منه بهذا المنصب الهام في الأمة الاسلامية كما أفشى بذلك لابنه “المأمون”.

نقل “المأمون العباسي” كنت عند أبي “هارون” في احد الايام وتعجبت كثيراً من إكبار أبي لموسى بن جعفر وتقديره له. فقلت لأبي: يا “أمير المؤمنين”، من هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه؟ ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟

قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده فقلت: يا أمير المؤمنين، أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟.

فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الميامين) مني ومن الخلق جميعاً، والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم (كتاب – قادتنا كيف نعرفهم ج6، ص305، وعيون أخبار الرضا، ج1، ص91.).

رغم وقوف “هارون” على مقام الامام الكاظم، إلا أنه لم يرقَ له أن يرى في المجتمع من هو أفضل منه.. والجماهير وسائر الأوساط الشعبية والخاصة تؤمن أيضا هو أولى بالخلافة منه، وإن الامام (ع) يفوقه علماً وفضلاً وحكمة وثقة.. والمسلمين قد أجمعوا على تعظيمه، فتناقلوا فضائله وعلومه، وتدفقوا على بابه من أجل الاستفتاء في الأمور الدينية.

فعصف بقلب “هارون” الحقد والخوف من الامام موسى بن جعفر فأودعه السجن لمرات عديدة في البصرة وأقام عليه العيون لرصد أقواله وأفعاله عسى أن يجد عليه مأخذاً يقتله فيه. ولكنهم فشلوا في ذلك فلم يقدروا على ادانته في شيء، بل أثّر فيهم الامام الكاظم عليه السلام بحسن أخلاقه وطيب معاملته فاستمالهم إليه، مما حدا بـ”هارون الرشيد” الى نقله من سجن البصرة الى سجن “السندي بن شاهك” بغية التشديد عليه والقسوة في معاملته.

انتقل الامام موسى بن جعفر من ظلم “هارون” الى ظلام السجون، ولعل هذه المحنة التي عاناها بعزم وصبر من أقسى المحن وافجعها التي؛ ألمّت به فتحملها وكظم غيظه في صدره صابراً مجاهداً في سبيل الله, وقضى (ع) زهرة شبابه في ظلمات السجون (حوالي 14 عاماً) محجوباً عن أهله وشيعته، محروماً من نشر علومه على الناس جميعاً. فكان شبيه عيسى بن مريم في تقواه وورعه وصلاحه .

اجتهد “هارون” في ظلم الامام الكاظم وأمعن في التنكيل به خوفاً من تسلمه الخلافة، علماً أن الامام موسى بن جعفر لم يكن يبغي الحكم والسلطان، ولم يكن يبغي الجاه والمال، وإنما كان يبغي نشر العدل والحق بين الناس، ومقاومة ظلم أولئك الحكام وجورهم واستبدادهم بأمور المسلمين.. حتى أعيت “هارون” فيه الحيلة ويئس منه فقرر قتله.. فأمر بدس السم له في الرطب فاستشهد الامام الكاظم سلام الله عليه في 25 من شهر رجب سنة 183 هـ ودفن في مدينة الكاظمية المقدسة شمالي بغداد، ومرقده ملاذاً لجميع الأحرار والشرفاء فيما لا ذكر لهارون الرشيد لا من قريب ولا من بعيد سوى عند ذوي النفوس الحاقدة على الاسلام والمنحرفة عن الدين والملة، وهو الذي قال:

النَفْسُ تَطْمَعُ والأَسْبابُ عاجزةٌ والنَّفْسُ تَهلِكُ بَيْنَ اليأَسِ والطَّمَعِ

** من وصايا الامام موسى بن جعفر الكاظم:

1- أوصى بعض ولده: يا بني إياك أن يراك الله في معصية نهاك عنها. وإياك أن يفقدك الله عند طاعة أمرك بها.

2- إياك الكسل والضجر فإنهما يمنعانك حظك من الدنيا والآخرة.

3- إعمل الخير إلى كل من طلبه منك فإن كان من أهله فقد أصبت موقعه، وإن لم يكن من أهله كنت من أهله.

 

[email protected]