يبدو أن عربة التونسي محمد البوعزيزي التي أطلق صاحبها الشرارة الأولى لانطلاق “الربيع العربي ” أصبحت ملهمة للكتاب والفنانين , في نصوصهم وأعمالهم الفنية والسينمائي العراقي هادي ماهود واحد من الفنانين الذين حركت تلك العربة مخيلتهم فكان فيلمه الروائي القصير “العربانة” الذي أنتجته شركة الماهود وبطولة جمال أمين وطه المشهداني و نجم عذوب وعدد آخر من الممثلين , وبالطبع لا توجد أية علاقة بين العربتين , لكن يبدو أن الفكرة الرومانسية العامة للعربة كإطار لوضع بائس ,متهالك , استفزته فصاغ رؤية خرج بها في هذا الفيلم , فالعربة هي عين المخرج وعدسة الكاميرا التي تلامس دقائق الأشياء وتفاصيل الحياة اليومية ومن خلال سيرها تتدفق صور الواقع المتردي , يقول ماهود “يبدو أن عصرنا الراهن هو عصر “العربة”، لأن هذه العربة هي التي فجرت “الربيع العربي”، وهي التي أسهمت في تغيير بعض الأنظمة العربية، فضلاً عن ذلك أنا شخصياً أشعر بأن الوطن هو عبارة عن “عربة” دائماً يقودها المجانين وبالتالي تؤدي إلى كارثة “
لكن عربته لم يقدها مجنون , كما أشار, الا في الهيئة الخارجية وبالتالي لم تؤد الى كارثة بدليل إنها وصلت في نهاية المطاف الى مكان يمرح به أطفال يحملون البالونات الملونة في ترميز واضح لغد أبهى وأجمل منسجما مع رؤية متفائلة كون أن الفيلم يأتي ضمن الإستعدادات لبغداد عاصمة للثقافة العربية , ولو نظرنا الى العمق لوجدنا أن رؤية المخرج التقت بإطروحة المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما بكتابه المثير للجدل” نهاية التاريخ” الذي شببه به التاريخ كما لوكان قطارا مؤلفا من عربات خشبية تجرها جياد متجهة الى المدينة عبر طرق مختلفة منطلقة من قلب صحراء , فبعض العربات تصل بسرعة لأنها حددت وجهتها بدقة وأخرى اختارت طريقا يمر بمنعرجات فتأخر وصولها , وغيرها ضل الطريق واستغرق بحثه عن الطريق الصحيحة وقتا , وفي النهاية تصل جميع العربات الى المدينة رغم أن وصولها جاء بأوقات مختلفة ,هذا الوصول هو بالنسبة لفوكوياما هو وصول الى الديمقراطية الليبرالية ومن ثم نهاية الرحلة التي هي نهاية التاريخ بعد انهيار الماركسية بتفكك “الإتحاد السوفيتي” ودخول المعسكر الإشتراكي في النظام الحر فالديمقراطيات الحديثة ,التي وصلت اليها عربات فوكوياما , أغلقت التاريخ فلاجديد بعدها لأنها تعيد توزيع الدخل وتتحمل المسؤولية عن الرفاهية الإجتماعية ,الا يعني مشهد البلونات واللقطات الملونة ترميزا لهذه الرفاهية بعد السواد الذي غلف أحداث الفيلم ؟
والذي جعلني أستحضر هذه النظرية التي جوبهت بانتقادات واسعة هو فكرة العربات التي تنطلق لتصل هدف محدد يشكل مطمحا , وبدلا من إنطلاق عربة ماهود من قلب الصحراء ,كما يفترض “فوكوياما” انطلقت عربته في أرض خضراء وصفت ب”أرض السواد” لكثرة الشجر بها والخيرات لكن تلك العربة لم تمر الا بمشاهد بائسة تدل على مجنون آخر قادها , أرض السواد, الى ماوصلت اليه منتقدا النظام الديكتاتوري حالما بنظام ديمقراطي ليبرالي وهو بذلك يلتقي بأطروحة فوكوياما .
والفيلم حقق عند عرضه في مهرجان الخليج السينمائي الأخير نجاحا لافتا فحاز على جائزة لجنة التحكيم وسيشارك بمهرجان الفيلم العربي في مالمو السويدية نهاية الشهر التاسع فهو تجربة تستحق التأمل ويشكل اضافة لسينمائي مجتهد قدم الكثير في هذا المجال وعاد الى العراق من استراليا ليكون هذا فيلمه الأول الذي ينتجه داخل بلده .
يبدأ الفيلم بلقطة طويلة تظهر ثياب سود معلقة على حبل اشارة الى الموت والحزن -صورت معظم لقطاته بالأبيض والأسود- ومن بعيد تظهر عربة يقودها شخص أشعث , -أدى الدور الفنان القدير جمال أمين- في صمته غموض -يؤكد المخرج انه كان يطلق همهمات لكن يبدو انه حذف الهمهمات وجعل الأداء تعبيريا من حيث أن السينما لغة الصورة – حين تقترب العربة يظهر جندي منكوس الرأس يبدو انه خرج من معركة خاسرة , يجلس بشكل متعاكس مع سير العربة وكأنها تجره جرا الى المجهول , ومن بعيد يظهر بالون ملون وطفل يتابع حركة العربة وبيده كتاب وكلها رموز تدل على خصوصية المكان الذي يجري به الحدث ,فالعربة رمز لوطن مثقل بالأزمات والحوذي المجنون لمن يقود الوطن والكتاب رمز لإرث حضاري وعمق معرفي والبالون أمل بغد أبهى ومالى ذلك من صور تشكل رموزا في طريق مرور العربة منها رسام يضع أمامه لوحة غير مرئية على حامل وينظر بدهشة ,فتاة تصعد نخلة ,قطيع أغنام , فتاة تضع المساحيق على وجهها وتسمع حضيري أبو عزيز يردد”على درب اليمرون أريد أكعد وأنادي” , من بعيد ترتفع أهة طويلة نخال أنها صوت مطرب , لكن الكاميرا حين تتحرك نلاحظ إنه يقف على حافة مقبرة ونساء يبكين ويعادل الصورة ببالون أحمر , فيخفف المخرج من قتامة المشهد , تشق العربة طريق القطيع بشكل معاكس اشارة الى التمرد على روح القطيع التي تحكم الشعوب التي تسلم أمرها لقادتها , أطفال يلعبون يمر قطار ,اشارة لحركة الزمن, تقترب الكاميرا من وجه الجندي يرى أطفالا يلعبون تتحول العصي بأيديهم ,بمخيلته ,الى بنادق فتسحبه ,عبر الفلاش باك, الى ساحة معركة ,قتلى , دخان , نواح نساء يندبن “اليوم الوالي مضيعينه” , تواصل العربة سيرها تمر بمراسيم تشييع جنائزية مجموعة تحمل جنازة شهيد ملفوفا بالعلم العراقي , ينطلق صوت شيخ “نجم عذوف “يتقدم الجمع وهو الشخص نفسه الذي كان يطلق على شرفة المقبرة الآهات , يرتفع صوته بلحن جنائزي ويردد “لا اله الا الله ” يضع المشيعون الجنازة على الأرض بحركة عبثية ويواصلون سيرهم وكأنهم يلقون عبئا ثقيلا , ليواصلوا حياتهم ,تعترض الجنازة طريق العربة , تحمل الجنازة , يظهر بالون لكن لونه هذه المرة ليس أحمر بل أصفر اشارة كدر والم وشحوب , تستمر العربة في سيرها تواجه مجموعة عربات فارغة يمر موكب حسيني صوت”جينه نمشي لكربلا مضيعينة” يظهر الشيخ يحمل علما ويسير من ضمن الموكب وكأنه هو الإنسان العراقي يمشي بكل مايحمل من إرث مأساوي , ففي كل مشهد حزن نراه حاضرا , وقد وفق المخرج في هذه الدلالة مثلما وفق “نجم عذوف” صوتا وأداء تعبيريا , تظهر امرأة حزينة تجلس على نهر وتضع شموعا على فلين وتتركها في الماء وهي مرتبطة بإرث ومعتقدات شعبية ونذور , تسقط الشمس شيئا فشيئا عند الغروب الذي يمتزج بغروب العربة وغيابها وخروجها عن الكادر ,فيلف المكان صمت عميق , وفجأة ترتفع بالونات حمر ليتغير ايقاع الفيلم , يظهر أطفال اشارة الى وجود الأمل لكن هذا الأمل جاء بعد غروب العربة .
لقد جاء الفيلم على هيئة نص شعري من خلال تدفق الصور المثقلة بالرموز والمشاهد واستحضارتاريخ المكان متفننا في زوايا الكاميرا بخفة ورشاقة – صور الفيلم عمار جمال – ليعطي درسا في الإختزال ,وقد أبدع الممثلون جمال أمين، وطه المشهداني ونجم عذوف وبقية الممثلين في استنطاق الصورة عبر الأداء التعبيري وساعدت المؤثرات الموسيقية التي وضعها الفنان سامي نسيم في استحضار روح المكان وجعلنا الصورة تنطق في عمل شعري قال الكثير على مدى دقائق معدودة عن الزمن العراقي الصعب .