يثير مقال الكاتب داود البصري على موقع كتابات (الجمعة 11 كانون الاول) الموسوم بـ”هادي العامري يهدد حلف الناتو”، عددا ليس بالقليل من الاسئلة والمغالطات واسف بحجم التحامل ولغة التخوين ومنطق الامس المجتث من خارطة الاسى العراقية، او قل ما “عفى عنه الدهر”!
يبدأ المقال بفرضية يطرحها العنوان، ولا يستدل عليها في مجمل ماورد في المقال، بل تتشابك لغة التخوين والسباب لتهبط الى وضاعة التعبير وهي تجتر الاحداث والاشخاص والاتهامات والوعيد والافتراضات لتضعها في قارورة تبدو اكثر سمكا من نظارة صاحبها، يغلب عليها الانطباع والقبليات الذاتية اكثر من واقعية التحليل المستند الى ابسط مقومات الموضوعية.
ولان اتهامات المقال اكثر من ان تحصى للرد، ولا متسع لتصديع الرأس بدوار الرغبات التي تكسرت بعودة الامس، ارى من الضروري ان نقف عند بعض المفردات الاساسية للايضاح وليس الرد، فحجج المقال تحمل من التناقض ما يكفل تهافت فرضيته ذاتيا.
1
هادي العامري، الرجل الذي ترك بريق السياسة ووافر المقاعد المكيفة ليلتحق بجبهات القتال ضد زمر داعش التي احرقت الحرث والنسل، يبدو الاختلاف او التشكيك حول موقفه منطلقا من ثلاث فرضيات اساسية:
الفرضية الاولى: عدم احقية القتال في الجبهات ضد تنظيم داعش، ذلك ان الاخير يمثل مشروعية حقيقة بالدفاع من مبادئ يعتقد البعض بها ويؤمن بسلوكيات التنظيم، ويبدو الجدال حول تلك الفرضية فاقدا لمشترك النقاش.
الفرضية الثانية: ان وجود النائب في تحت قبة البرلمان اوجب من حضوره في الجبهات مقاتلا وقائدا في الذود عن بلاده، ولا ادري ان كان اكثر من 300 نائب استطاعوا ان يزحزحوا الغزاة شبرا واحدا، وهل جربنا ذات يوم فائدة الشجب والاستنكار والامتعاض واشد عبارات الاسف والوعيد في اعادة واحدة من حقوقنا!؟ ثم ما ترجمة القسم بالدفاع عن حدود البلاد وارضه، هل يمثل ذلك بالمكاتب الوفيرة واربطة العنق الانكليزية!!
الفرضية الثالثة: ان مكاسب الحرب والقتال اكثر جلبا للشهرة من دور البرلمان وان حضور الاشخاص هناك مدعاة لتلامعهم بغية كسب الاصوات والحصول على مكاسب سياسية، وارى ان افتراضا كهذا يوجب ان يحافظ الشخص على نفسه واهله اولا ومن ثم البحث عن تلك المكاسب، فحيث يعزف الرصاص لغته الخاصة لا تكون الصدور محرم بعضها دون الاخر عن مرماه، بل تكون الرصاصات الاكثر حظا –كما يقول شاعر البصرة كاظم الحجاج- هي التي تستقر في صدور الاخرين! هذا المنطق وذلك الفضاء لا يدع متسعا للشك ان ثمة رغبة دنيوية وراء تجشم عناء الموت وهو في كل احواله ختام القصيد.!
اذن لماذا يترك هذا الرجل مقاعد البرلمان الوفيرة ليفترش وابناءه وخالص احبته وابناء جلدته وحزبه تراب المعارك؟!
2
نظرية التخوين بتحقيق مآرب ما يريده الايرانيون من اطماع وتوسعات تهدف لحفظ امبراطورية فارس، ومع جل التحفظ حول تلك الفرضيات مع تقدم النظريات السياسية ولغة تداخل الامن الدولي والعمق الاستراتيجي وسواها، يوجب على الجميع ان يتنصل عن تلك اللغة ليعود الى منطق الحقائق في ان ايران اليوم هي قوة عظمى تملك من الترسانات الحربية ما يقلق الدول العظمى وهي جار يمتد على طول المساحة الشرقية للبلاد، وهي كذا مصدر لايواء عشرات الاف بل الملايين من اللاجئين ابان فترة القهر والظلم البعثي وهي متنفس العراق الوحيد حين خنقت الاخوة العربية وليد الحكومة الجديد بعد 2003.
اذن لماذا يكون هادي العامري عميلا لايران؟ اذا تساوق ما يريده العامري مع ما تريده امريكا في الخلاص من داعش فهل يعني ذلك ان يكون عميلا لامريكا مثلا؟ وهل يبدو الانسان مسؤولا عن مشاريعه ورغباته الوطنية اذا صبت في مصالح دول الجور؟ وهل ثمة من يختلف بان الخلاص من داعش رغبة دولية انفقت الدول عشرات الملايين ولا زالت لاجلها.
ان ايران تتقن الكيفية التي تحفظ بموجبها حدود بلادها، وهي اكبر من ان يعتدى عليها، بل تتقن فن الحوار والدبلوماسية طويلة النفس التي حققت لها مكاسب التطوير الذاتي بالاستفادة من خبراتها المحلية وحصار الدول العظمى الاقتصادي عليها، وباتت تحوي من العقول والكفاءات ما لا يدركه عقلنا المعبئ بالزيتوني وبشعارات البعث باتهام الاخرين دون وجه حق!
نعم ثمة ما يوجب الاشارة اليه هنا، ان منطق العرفان بالجميل يوجب ان يتقدم الشعب بالشكر الجزيل لما قدمته ايران لابناء الحشد والجيش من اسلحة ادامت زخم المعركة وما تجشمته من عناء الاستشارة بطليعة كوادرها..
هل يتوجب على هادي العامري ان يحمل سلاحه بوجه الايرانيين ويرفض ما يقدمونه من معونات دون مقابل لافراده المقاتلين في سوح الجبهات ليكون وطنيا عروبيا عدنانيا اصيلا؟ ام يتوجب ان يفترش رصيف البيت الابيض مستجديا تطبيق بنود الاتفاقية الامنية والتفضل بتزويد البلاد بالطائرات المتعاقد عليها ليكون بذلك سياسيا محنكا ترفع له قبعات العروبة؟
3
لازال الحشد الشعبي يثير حفيظة الكثيرين، بدءا ممن يتعفف ان يذكرة علانيا، واخر يجهل انتصاراته فينسبها لغيره وثالث يكيل له التهم جزافا بسرقة حاجيات وفق منطق معطوب ورابع يبخس حق ابناءه واستحقاقاتهم ليرميها قرابين في حظرة الاخ الشمالي تزلفا، وخامس وسادس وعاشر…
وبين كل هذا، ترى اولئك الصبية شيبا وشبابا يتقافزون الى الموت في مشهد لا تحده مفردة او تحويه صورة، وما دليل قوافل الشهداء التي طرزت جدران مناطق الوسط والجنوب الا خير دليل على ان سالكي هذا السبيل ليسوا طلاب دنيا كما نزعم لنبدأ بتطبيق فرضية التخوين والعمالة والمكاسب وسواها، هم اسطورة فعلية اكبر من ان يعيها عقل متآمر، وحيث ان السلوك يكون على وفق منطق التكليف، فان تكليف الاخرين بنزع التكليف عنهم، اي ان ابناء هذا الحشد وسواهم يؤدون واجبا لا ينتمي الى فهمنا المتواضع، وواجب الحكومة ومختلف المؤسسات بما فيها البرلمان انما القيام بتكليفهم ازاء هذا الوجود، مع التأكيد ان تلك المسيرة مستمرة سواء قام الاخرون بتكليفهم ام لا..!
الحشد الشعبي مؤسسة رسمية لها هيكل رسمي وهي مرتبطة برئاسة الوزراء وتأخذ اوامرها مباشرة من القائد العام للقوات المسلحة وهي بذلك شأنها شأن المؤسسات الامنية الاخرى، ما يميزها هو اعتقاد افرادها وارادتهم، وقصة العشق التي يحيون فصولها كل يوم، حين يزف الاخ اخاه شهيدا والصديق صديقه ثم يعود ليحمل السلاح مرة اخرى… فمن يريد ان يرى تلك الفصول عليه ان يرفع عدسة نظارته السميكة ويجلي بعضا من كلس الماضي ثم يطالع بقلبه هذا السفر.
فهل تلوم هادي العامري ان شغفه الوجد على كبر سنه فهام وبنوه تاركا زخارف المناصب وبريقها؟
4
العامري لم يكن عراب دم كما يود البعض ان يركب لصورته اطر على مزاجاته، فهو مدافع لا يتقن فنون التحذلق بالقول، يحمل اخلاق فلاح، لا يعرف اللف وصريح اكثر مما يوجب على السياسي ان يكون، واكثر من ذلك فهو لا يتقن فن التغني بالامجاد الذاتية، لذا تجد حقه وحق تشكيله عرضة لاطماع باعة القول.
العامري اداري ناجح، حققت وزارة النقل في عهده ما لم تحققه من قبل، استطاع بذكاء متفرد ان يحل اشكالية الخطوط الجوية العراقية مع الكويت لينهي ازمة عمرها بعمر الحرب وطيش الطغاة، بعد ان كانت الخطوط الجوية على وشك ان تهيكل وتسبدل عنوانها الحقوقي تهربا من العقوبات، ثم تدرجت لتمتلك نحو 30 طائرة جلها من الطراز الحديث وفتحت خطوطا ملاحية جديدة وصلت اوربا.
لماذا يتعفف البعض ان يذكر مزايا العامري؟ او ان يقارنه بمن جاء خلفا له؟ واين اصبحت وزارة النقل وكيف صارت الخطوط الجوية العراقية وقد منعت المؤسسات الدولية العراق من دخول اوربا لمدة 6 سنوات على الاقل.. هل يفرض الحق والانصاف ان نصمت؟ ثم ماذا لو كان ذلك قد حدث في وقت العامري؟ ربما حينها ستكون طموحات ايران التوسعية ورغبة الجنرال سليماني وراء ذلك؟ فالحمد لله!!
5
هل يدرك كاتب المقال، ان جماعات الضغط هي واحدة من تكوينات المجتمع بمختلف اشكاله المتخلفة والمتحضرة والمتقدمة!! وان سياسة البلدان تتجاذبها اطراف عدة وتتوزع ادوارها بحسب مشروعية هؤلاء وموقعيتهم!!
اقول ذلك كمقدمة لما يتهم به العامري وقادة الفصائل المنضوية في الحشد الشعبي في تهديدهم العدوان التركي لاستباحته حرمة البلاد وسيادته، بعد ان جربوا مواقف رئاسة الوزراء المتلكئة ومواقف الخارجية العراقية الاكثر تلكئا وخزيا، فماذا ترانا نفعل؟
الا يجدر بكل غيور ان يتوعد كحد ادنى؟؟! الا يجدر بمؤسسة الحشد الشعبي كجماعة ضغط ان تمارس دورها برفع سقف المطالب لتعطي الحكومة مساحة تفاوض اكبر؟ هل يجدر بالعامري وفصائل المقاومة ان لا يتحدثوا عن موضوع شغل الدنيا وأرق الكون ام ترى ان مواضيع اخرى اهم من ذلك؟
ربما تختلف وجهة النظر ازاء الرؤية الى تركيا ذاتها؟ وان قورنت بدخول الايرانيين خلال مراسم الاربعين مع فارق الدخولين، ومع كل ما قدمته وزارة الداخلية من استهجان واستنكار وغرامات ورفض وتجريم وكل ما قدموه الايرانيون من اعتذارات رسمية وقاموا به من خدمات جليلة دون مقابل، فالمسألة تلك تبقى مسالة انتهاك لا تغتفر فيما يعد الدخول التركي بدباباته ومدافعه مزاحا ثقيلا من الجار الشمالي يتوجب على الحكومة استيعابه ومع عنجهية القادة الاتراك ورفضهم الانسحاب فان اي صوت للشجب او الادانة مرفوض بل المقبول ان نتوسل ثم نتوسل ثم نتوسل حتى تنفذ الحجة، لنبدأ مرة اخرى بالتوسل!
وبذلك، فالحق –كل الحق- ان تتقدم بابشع التهم لمن يخالف منطق الاستعباد فلا يجيد لغة التوسل؟