22 نوفمبر، 2024 6:09 م
Search
Close this search box.

هاجر قبل الاحتلال …. هاجر بعد الاحتلال

هاجر قبل الاحتلال …. هاجر بعد الاحتلال

قراءة في المجموعة الشعرية التي صدرت للشاعرة امل الجبوري في العام 2008…
تتبدل المفاهيم والافكار والرؤى والانطباعات بتبدل الازمان، وهذه من البديهيات الكبرى، لكن الذي يجعلني ابدأ بهذه البديهية، اختيار الشاعرة كلمة (هاجر) كعنوان لديوانها الشعري (هاجر قبل الاحتلال … هاجر بعد الاحتلال) والتي قد تقرأ لدى البعض كفعل وليس كاسم، والاختلاف بين الامرين كبير للغاية، فيحصل لبس لدى المتلقي البسيط، منذ الوهلة الاولى.
اختيار اسم (هاجر) زوجة النبي ابراهيم جاء للتعبير برمزية عالية عن وضع المرأة في مواجهة وضع صعب للغاية، فاذا كان الله في المرة الاولى قريبا ولم يترك هاجر لوحدها كما فعل زوجها في وادٍ غير ذي زرع، فان الله في الفترة ما قبل الاحتلال او في الفترة ما بعد الاحتلال كان غائبا عن محنة المراة العراقية وهي تعاني الحرب، والعنف، والخوف، ونقص في الاموال.
نجحت أمل الجبوري في توثيق اخطر ما مر به العراق خلال فترتين زمنيتين مختلفتين، الفترة ما قبل الاحتلال والفترة ما بعد الاحتلال، من خلال المقارنة التي تجسدها في اكثر قصائد هذا الديوان الشعري، ومتلازمة ثنائية لا تقبل الفصام. فجاءت ستة وخمسون قصيدة تصف الحالتين بلغة شعرية وخيال عميق.
قبل الخوض في تفاصيل القصائد، لابد من تثبيت حقيقة مهمة، ان ما جرى في العراق لغاية العام 2008 كانت كافية للشاعرة لتصدر احكامها الصريحة والضمنية، لتجري مقارنتها بين عالمين مختلفين، لكن تجمعهما عناصر مهمة، وكلها تتعلق بالشاعرة كانسانة لها وجود ومشاعر وقلب ينبض ويرتجف لما يحصل للاشياء الجميلة من حولها. ولهذا يمكن اعتبار هذا الديوان الشعري بمثابة توثيق (ينتمي الى الادب النسوي) لمرحلتين مهمتين في تاريخ العراق الحديث، على المستوى الحسي والانساني. فالمرأة تتفوق على الرجل في تصوير الاشياء بعاطفة اكبر دائما. وهذه ميزة تحتسب للادب النسوي في العراق.
جميع المفردات التي عنونت بها الجبوري قصائدها كانت تحمل صورتين، صورة ما قبل وصورة ما بعد الاحتلال. وجاءت بتراتبية عالية فهي بدأت بعنوان بلدي قبل الاحتلال، وبجملة شعرية واحدة (جواز سفر ممنوع من السفر)، ليتحول بلدي بعد الاحتلال الى
جواز سفر لخادمة فلبينية
مختوم بالاحمر
غير صالح للعراق
NOT VALID FOR IRAQ
ليأتي الدين في الترتيب الثاني لدى الجبوري، فالدين قبل الاحتلال، وبجملة واحدة ايضا (كان يقف خائفا مرتبكا امام عتبة الدولة… لكن الاحتلال غير من وضع الدين، فبدلا من أن يقف خائفا مرتبكا امام عتبة الدولة، اصبح الدين بعد الاحتلال:
البس الدولة
سدرة سوداء والبس الدستور عباءة السيد
الذي اختبأ في اللغة الفارسية.
أما اذا اخترنا بعضا من العناصر الخاصة بالشاعرة مثل الروح، القلب، الجسد، والقلب، فنجد مثلا في قصيدة روحي قبل الاحتلال:
كانت موؤودة في مدافن البعد،
حبلى بالمخلص في انابيب عاقرة.
وروحي بعد الاحتلال
صارت تتوارى بين جدران المنطقة الخضراء
صارت غطاء سماء مقفلة على التحسر.
اما جسد الجبوري قبل الاحتلال:
حشوة يورانيوم لاسلحة مطلقة
كان ذخيرة لحروب قادمة
كان رغيفا
ساخنا يبحث عن معدة خاوية.
ليتحول هذا الجسد بعد الاحتلال الى (معوق نصف ميت يكره لهاثه الاخير).
وكلما تعمقنا في قراءة المقارنات الثنائية نجد تحولات اكبر، فالشرف قبل الاحتلال (كان ان تعبد القائد، وتحب الحزب، وتلعن امريكا والحصار)، ليتحول الشرف بعد الاحتلال (أن تلعن الطاغية، وتعلن برائتك من الحزب، وتصفق بالورد لامريكا والجدار). وهنا نلاحظ تحول تام من النقيض الى النقيض، مع ملاحظة ان مفردة امريكا كانت تقترن بالحصار قبل الاحتلال، لتقترن بالجدار بعد الاحتلال، وكلاهما مر، وصعب، وموحش في وجدان الجبوري.
واذا اصابت الجبوري في كل الثنائيات التي اوردتها في ديوانها، الا انها في قصيدة الموت بعد الاحتلال اقحمت وبطريقة لا تخلو من التعسف (زواج المتعة) كما في النص التالي:
الموت بعد الاحتلال
ختم أحمر على فم
مدينة أصيبت بانفلونزا الطائفية
الموت دكتاتور البلاد الاوحد
وزواج المتعة
الذي ورث كل زواجات المسيار في عمر البلاد.
أما بغداد فلابد لها ان تكون بغداد حاضرة قبل الاحتلال وبعد الاحتلال، ولتكون الاشد تحولا فقد كانت قبل الاحتلال
كانت وحشتي التي اعود اليها
أخبئ ديني السري في مكتباتها
أعود وأسند راسي الى كتفها فتقرأ ملامح تعبي
وتدثرني بنسيم حدائقها فاحلم بين عينيها
بحماقتي
وقصيدتي
ودمعتي التي سبقتني اليها.
لتصبح بغداد بعد الاحتلال
منطقة حمراء
تلبس عمامة ووجه ملثم يأكل أهلها
ومنطقة خضراء
تلعن انهزام المرتزقة
ومعسكر أزدهار
يعلن خراب البلاد
ومعسكر شرف
يعلن سقوط الشرف
ومعسكر حرية
يعلن عبوديتنا ضمن قانون طوارئ لا ينتهي الا بموت العراق.
في النهاية تعلن الجبوري بان هاجر ليس امامها سوى احتلال، وليس ورائها سوى احتلال، وما بينهما تلك الحرية اللقيطة.
لنتوقف هنا، ونطلب بكل تواضع ان تكمل الجبوري مقارناتها بعد ان غرق البلاد بالفساد، وبداعش، وبعد خراب البصرة.

أحدث المقالات