23 ديسمبر، 2024 9:39 ص

نينوى والعراق ما بعد داعش .. عوامل انتشار التطرف والطريق الى الحل

نينوى والعراق ما بعد داعش .. عوامل انتشار التطرف والطريق الى الحل

تتكون هذه الورقة من مبحثين:
الأول يتناول العوامل التي ساعدت على ظهور داعش، وكيفية علاجها لحصر الفكر الإرهابي التكفيري الإقصائي في أضيق الأماكن تمهيدا لاقتلاعه نهائيا من الأذهان والعقول وكذلك لتوفير أرضية أمنية ومؤسساتية قادرة على حماية البلد وأبنائه من أي مؤثرات تخريبية أجنبية أو محلية.
ولأن الموضوع شائك والقناعات والآراء حوله متضاربة ويتحمل سجالا طويلا ويستلزم مواقف وقرارات حاسمة وحساسة؛ لذلك فإن الضرورة الحيوية تدعو إلى تنظيم مؤتمر وطني في الموصل يضع الجميع أمام واجباتهم الوطنية. وقد خصصنا المبحث الثاني لهذا الغرض.

ثقافة التكفير وظاهرة الإرهاب في نينوى .. لماذا؟
أصبح التكفير والإرهاب ظاهرة تشغل العالم شرقا وغربا، وقد تناولته دراسات عديدة يطول التفصيل فيها، لذلك لن أفصل هنا في الجذور الدينية والفكرية لهذه الظاهرة وإنما سأفصل عوامل استشراء الظاهرة عندنا في نينوى.
انفردت الأجهزة الأمنية لوحدها بمطاردة الإرهابيين في الوقت الذي نأت بقية مؤسسات الدولة بنفسها عن التصدي لهذه الظاهرة رغم أن ذلك من صميم واجباتها، ولا نستثني من ذلك مؤسسة المساجد والجوامع التي تدار من قبل دائرة الوقف الحكومية، ما أدى إلى إصابة المجتمع أفرادا ومؤسسات بالشلل التام إزاء ما يحدث. ونستعرض في الفقرات التالية الأدوار الغائبة لهذه المؤسسات.
الحكومة المحلية:
لأغراض سياسية وانتخابية أحجمت حكومة نينوى المحلية السابقة والحالية – محافظا ومجلسا – عن تداول ثقافة التصدي لقوى الإرهاب وذهبت في ذلك إلى حد إطلاق تسمية مسلحين بدلا من إرهابيين على من يحارب الدولة ويغتال رجال الأمن ويفجر العبوات والمفخخات ضد الأفراد والعجلات والمؤسسات والقرى والأحياء السكنية.
بل وصل الأمر إلى توظيف القناة الفضائية التلفزيونية الحكومية في الموصل من أجل إشاعة الكراهية ضد الأجهزة الأمنية وإثارة مشاعر السخط ضدها.
هذا الأمر أوصل رسالة صارخة إلى رجال الأمن أنهم غير مُرحب بهم وأنهم يقاتلون دفاعا عن مدينة ترفضهم ويستشهدون من أجل مواطن يبخس دماءهم ولا يقدر تضحياتهم.
قطعا؛ ليست هذه هي مواقف ومشاعر الجميع تجاه الجيش وجنوده. الاغلبية مع الجيش والامن لكن مشاعرهم مكبوتة واصواتهم مخنوقة مما سهّل للأصوات المسمومة أن تنفرد لوحدها امام الرأي العام ولا اصوات غيرها.
لذلك يجب ان لا يتكرر هذا. وعلى الدولة ان تتخذ اجراءات حاسمة في هذا الصدد ونقترح لذلك خيارين:
الاول: اضافة شرط فيمن يترشح للانتخابات او يتولى المسؤوليات القيادية ان يكون له موقف واضح من التكفير والارهاب وان يكون ولاؤه للبلد محسوما.
ثانيا: وهو الاكثر نجاعة ان يتم تعيين المحافظ مركزيا من قبل بغداد لضمان ولائه للبلاد وسلامة موقفه وتفكيره من ثقافة التكفير والارهاب.
وفي الحالتين يجب ان يتمتع المحافظ بصلاحيات واسعة على جميع المؤسسات الحكومية بما فيها الجامعة لضمان مشاركتها في اشاعة الثقافة المتضامنة مع اجهزة الامن وكذلك مشاركتها في تنوير المجتمع ضد التكفير والثقافة الوهابية البعثصدامية.
كما يجب ان يخوّل المحافظ بتعيين رؤساء الدوائر والقائم مقامين ومدراء النواحي لضمان قيام ثقافة مشتركة امنيا وفكريا وحضاريا.
وبالتأكيد فان تحقيق ذلك يستلزم تجميد العمل بقانون المحافظات رقم 21 لسنة 2008 او تعديله.

جامعة الموصل:
رغم كونها المؤسسة الاكبر حجما والاعلى كسقف ثقافي في نينوى الا ان جامعة الموصل تعاملت مع احداث المحافظة وكأنها جرت وتجري في كوكب آخر.
عشر سنوات والارهاب والتكفير يجتاح نينوى ويشيع فيها الموت والدمار دون ان تتحرك هذه الجامعة لتنظيم اي فعالية علمية تدرس أو تناقش ما يجري.
فالجامعة كمؤسسة ثقافية هي معنية بكل هذا الخراب، إذ تضم في هيكليتها كليات واقسام متخصصة بدراسة هذه الظاهرة يتحتم على كل منها أن يتناولها من منظور اختصاصه.
ونظرة سريعة يمكن أن تبين قدرات هذه الجامعة على تقديم الدراسات والاحصاءات والتحليلات العلمية الدقيقة للظاهرة، فلدينا كليات الحقوق, العلوم السياسية, الدراسات الاسلامية, الآداب بأقسامها المختصة مثل قسم الاجتماع وقسم علم النفس وقسم التاريخ، ويضاف اليها مركز دراسات الموصل.
وعلى الرغم من هذه القدرات لم نشهد اي فعالية بحثية او حلقة نقاشية او ندوة حوارية حول كيفية استشراء ظاهرة التكفير والارهاب في الاوساط الموصلية.
واليوم, وبعد تحرير الموصل فاننا لا نتوقع ان تغييرا سوف يحدث. وانا اكاد اجزم ان جامعتنا (جامعة الموصل) ستتابع نهجها السلبي الانهزامي السابق ما لم تصدر توجيهات صارمة تحيل هذه المؤسسة الى خلية نحل تغطي الموضوع بحثا وتحليلا كل حسب اختصاصه. ولا بأس من اتخاذ اجراءات تشجيعية لتمييز وتكريم الانشطة المتميزة والشجاعة.

خطبة الجمعة:
لخطبة الجمعة خصوصا وللجوامع والمساجد عموما اثر كبير جدا على الافكار يفوق اثر كبريات القنوات التلفزيونية. وقد اخفقت الدولة في توجيه هذا المنبر الحيوي من اجل حفظ السلم الاجتماعي وحماية العقول من الافكار الهدامة التخريبية.
ليس هذا وحسب وانما وصل الامر الى تحويل الجوامع والمساجد من دور عبادة الى اوكار للتخريب واماكن لخزن وتداول معدات الاجرام والتخريب ومضافات لاستقبال الارهابيين.
لكن الاخطر في هذا المفصل هو خطبة الجمعة التي اذا ما احسنا توظيفها فإننا سننتقل بها من عامل للتخريب الى عامل فعال في التنوير واشاعة ثقافة الاعتدال وايصال الخطاب التنويري الى اقصى الاماكن, وبالذات الاماكن النائية والتي ينعدم فيها اي تواجد حكومي واقصد بذلك القرى والارياف والبوادي.
ولتحقيق هذا الهدف لا بد من اتخاذ اجراءات تذهب في اتجاهين:
الأول فني ويدرس كيفية نشر الافكار المطلوبة بشكل اكثر اتساعا واعمق تاثيرا.
اما الاتجاه الثاني فيهدف الى تحديد نوع الخطاب وماهية الافكار المطلوب ايصالها الى العقول، ويبحث ايضا في اللغة الافضل من حيث المعنى والمبنى لتكون اكثر قبولا واسرع انتشارا.
ولا بأس من تركيز المواضيع الحيوية على شكل اناشيد او مقاطع شعرية سهلة الحفظ والترديد.

الاعلام:
صحف عديدة كانت تصدر في مدينة الموصل لكن أيا منها لم تقدم خطابا تنويريا او متصديا للأفكار الهدامة.
ولم تنشر تلك الصحف بالمطلق اي مقال يدين التكفير والارهاب باستثناء مقالات كاتب هذه السطور. واكتفت الصحافة الموصلية بتغطية الانشطة الرياضية وفعاليات الدوائر الحكومية وادانة ما هو مدان تقليديا مثل الفساد المالي والاداري وسوء الخدمات .. الخ.
وعنما نقول ادانة الفساد فالمقصود هو فقط إدانتهم للفساد دون العمل على كشف ملفات الفساد والفاسدين.
وعلى هذا الطريق سارت القناتان الفضائيتان المحليتان في الموصل؛ بل كان دورهما اسوأ من دور الصحف بكثير، ففي الوقت الذي تنوعت الكتابات صحافيا؛ اقتصر الخطاب تلفزيونيا على اتجاهين:
الأول تبنته الفضائية الموصلية الخاصة، وهو خطاب ساذج إما لتلميع صورة من يدفع اموالا للقناة وإما لتشويه صورة المسؤول او السياسي الذي لا يدفع.
اما الاتجاه الثاني فقد مارسته فضائية (سما الموصل) وهي للأسف قناة حكومية حيث تركز خطابها على النيل من الاجهزة الامنية وتعظيم اخطائها وبنفس الوقت السعي لتبرير الاعمال الارهابية إما على انها ردود فعل بحجة التهميش والاقصاء, وإما بتقديم الفاعلين على انهم ثوار يبحثون عن حقوق مشروعة.
وفي جميع الاحوال فان الفضائيتين وللأسف الشديد ابتعدتا عن تقديم اي خطاب يدين التكفير والارهاب.
لذلك لا بد من إلزام جميع المؤسسات الإعلامية بأداء دورها الصحيح في نقل الحقيقة فقط والالتزام بأخلاق المهنة اضافة الى واجبها الوطني كمؤسسات عراقية موصلية معنية بأمن وهموم الامة.

المثقفون:
خذل المثقف الموصلي اهله عندما احجم عن تناول هموم بلده ومواطنيه وحصر نشاطه في قوقعة الادب والابداع الفني المجرد من اي التزام.
لم يكتف المثقف بالابتعاد عن الشأن العام السياسي والفكري الشائك وانما عايش سباتا وركودا موروثا مركزا على الابداع الشكلي فقط لا غير.
نعم هناك حركة شعرية وادبية لكنها مكتفية بالتغني بالأجداد وامجادهم وغير معنية بهموم الانسان وتحديات الوطن. حتى أن مواضيع ليس فيها حرج كالمرأة والطفل والفقر ومواضيع اخرى مطروحة بسخونة كالعلمانية والديمقراطية والفدرالية وحقوق الانسان قد ابتعد المثقفون عن تداولها رغم انها مطروحة للنقاش دائما من قبل المنظمات غير الحكومية. واستطيع القول ان رجال الدين تناولوا هذه المواضيع افضل من المثقف وبعضهم قدم خطابا شجاعا لم يتجرأ المثقف على تقديمه.
لا بد للدولة من تشجيع المثقف على اداء دوره الحيوي من خلال اقامة المسابقات الادبية والنقدية وتقديم الهدايا التشجيعية والمكافآت المالية للأنشطة التي تخدم المجتمع والدولة.

وللذهاب نحو مواقف شجاعة وقرارات جريئة ادعو الى تنظيم مؤتمر وطني عراقي موسع يعقد في الموصل يمهد الارضية اللازمة لتحقيق المعالجات التي اقترحناها.

نينوى ما بعد داعش .. كيف ننهض
هذا شعار اقترح ان يكون عنوانا لمؤتمر نعقده كعراقيين وكموصليين نناقش خلاله مشاكلنا بوضوح وشجاعة ونبحث عن الحل الافضل. ولكي يكون المؤتمر مثمرا يجب مراعاة ما يلي:
1- أن لا يتحول هذا المؤتمر إلى مهرجان للخطب والقصائد الرنانة.
2- تكون الدعوة للمؤتمر عامة للجميع بدون استثناءات أو تحفظات.
3- إنشاء موقع الكتروني للمؤتمر على الانترنت ليطلع الجميع على تفاصيل المؤتمر ومضامين اوراق العمل قبل ان تبدأ فعالياته وجلساته مع تخصيص هاتف لتمكين الراغبين بالمشاركة من الاتصال وتنظيم حضورهم وتفاعلهم، ثم نشر المقررات والتوصيات على نفس الموقع.
4- حضور الحكومة المركزية والرئاسات في بغداد بثقل كافٍ وحكومة إقليم كردستان، وممثلي القوى السياسية، لضمان نجاح المؤتمر وتنفيذ مقرراته. ولا بأس من حضور ممثل الأمين العام للأمم المتحدة.
5- تقسيم نشاطات المؤتمر على شكل أوراق عمل للقطاعات المختلفة وتتم مناقشتها في ورش عمل. ومن الضروري أن تمسك أوراق العمل وتدار من قبل أكاديميين لضمان رصانتها وموضوعيتها.

6- تخصيص ورقة عمل لمناقشة ملف المتضررين الفعليين من قانون الاجتثاث وقانون المساءلة والعدالة لإنصافهم وإسقاط حجة المظلومية والتهميش الطائفي.

من الضروري مناقشة اشراك البعثيين كأفراد مواطنين في واجب الدفاع عن الوطن والمجتمع وانصاف من تضرر منهم احقاقا للحق؛ ولا يعني هذا فتح الابواب لعودة البعث ثقافة وتنظيما الى الحياة السياسية.
اقول ذلك بعد ان ثبت ان كثيرا ممن هم غير بعثيين؛ بل ومشاركين في العملية السياسية ويشغلون مناصب رفيعة ويتمتعون بامتيازاتها، قد انحدروا الى خانة الارهاب وارتبطوا بعلاقات مشبوهة مع مشاريع التآمر على العراق وتقسيمه. وليس بين هؤلاء من هو بعثي.
7- من الضروري أن يخرج المؤتمر بتوصيات باتجاهين:
أ – تبني الحكومة والبرلمان إصدار القرارات والتشريعات اللازمة لضمان تطبيق توصيات المؤتمر.
ب- مراجعة الخطاب السياسي والاجتماعي والديني (الدعوي) لإسقاط شعارات المظلومية والتهميش.

خاتمة:
ختاما نشير الى نقطتين:

اولا: هذه دراسة اولية يمكن تطويرها والبناء عليها وصولا الى مستوى اكثر شمولا من حيث الموضوعات والأهداف والآليات.
ثانيا: ضرورة الاختصار منعتنا من التغطية التفصيلية لجميع المحاور على امل استكمال ذلك خلال النقاشات والحوارات مع المختصين وأصحاب الشأن في المؤتمر.

* قائم مقام قضاء الموصل السابق