7 أبريل، 2024 7:48 ص
Search
Close this search box.

نينوى السياسة والانسان

Facebook
Twitter
LinkedIn

ثلاثون شهرا وأم الحضارات نينوى قابعة تحت الاحتلال بعد ان جاءها الظلام من المسخ الذين أنتهجوا الموروثات الانشطارية للدين والعقيدة وبعد ان تخلى عنها وباسوء هزيمة ذليلة عرفتها الحروب على مدى تاريخها من يدعون انهم اتباع الحق بموروثات اخرى للدين والعقيدة في حين اخذ جهلاء الحداثة والمهنية يتبعون ارباب الشرع الجديد الذين اطلقوا عليه “فن الممكن” تحت عباءة الديمقراطية يتلاعبون في الفكر والثقافة والارادة الوطنية ليبعثروا مجتمعا حضريا كانوا يعيشون وهم غافلين تماما من ان دهرا سياتي عليهم ستكون لغة المعتقدات المزخرفة , المكونات والاحزاب والطائفة والقومية هي اللغة السائدة ويغيب عن ذاكرتهم انهم عاشوا الالاف من السنين قبل كل تلك المعتقدات الدخيلة وانهم اصحاب القوانين والشرائع التي لا تفرق بينهم في الحقوق والواجبات وانهم علموا الانسان ما لم يكن يعلمه وانهم من اخترع الكتابة والفن والثقافة حتى ارسوا وارتقوا حضارة حفرت ذاكرة خالدة في الارض التي لازلنا نعيش عليها ولم نفنى .
الاستدلال والاستغراق في المراجعات المتوارثة قد اظهرت باننا امة تعني باللغة اكثر مما تعني بالانسان وشعب يكثر من الكلام والتاويل وفقهاء القيل والقال وكتاب عن فلان وعن فلان حتى اذا وصلنا عبر تلك السلسلة الى الاصل نرى ان الامور قد تشابهت علينا ولم نعد نعرف للحقيقة اي بيان ونحن ايضا شعب يمتلك فقدان للذاكرة خرافية تنسى وبلا حسبان وقد اثر هذا المنهج الزخرفي على الحياة المجتمعية والاقتصادية والسياسية والواقع الذي نرزخ تحته وهو متأصل بشكل ايديولوجي وربما بايولوجي بحقيقة ما تراكم علينا من مترديات وتناقضات لا نملك الشجاعة الفكرية ولا الارادة الحرة لكشفها والتمرد عليها ومن ثم الانقلاب عليها , فمن الثوابت الوطنية المتاصلة لدى الشعوب على اختلاف اجناسها هو الدفاع عن تراب الوطن وارضه الطاهرة حتى وان لم يكن هناك دوافع دينية او مذهبية لأن تحرير الارض من اي مغتصب يرتقي ليكون أسمى من ذلك , كون الارض مرتبطة بمكنون الانسان نفسه وبتحرير ذاته من المحتل مهما كانت الاصول التي يعتقد بها , وبالتالي هو يعيد هويته التي يحاول المحتل ان يطمسها بطرق شتى كاللغة والمعتقد والملبس , واستعادة الارض لوجستيا هي المرحلة الاولى فقط من مفهوم التحرير وهو نصر يتقدم معركة اخرى اعقد واصعب من المعركة التقليدية وهي تحرير الانسان نفسه والارتقاء به الى الارادة الحرة والوعي الحضاري الذي يبعد تدوير الوهم العقائدي المقدس في حلقات الصراع لاستحصال المصالح السياسية والاقليمية وطموحاتها البعيدة المدى من ان تخرق النسيج المجتمعي لتعكس المعادلة مرة اخرى بالاتجاه الذي تخطط له , قد تبدو هذه المعركة فائقة التعقيد كونها تتعامل مع المجتمع بحيثيات مختلفة ولكن لكل معركة جنودها ومحاربيها ومجاهديها الذين يمكن تعبئتهم ليخرقوا حواجز الاستعباد التي طغت على الانسان وجردته من ان يكون انساناً .
من هنا نستطيع ان نفهم حقيقة المزايدات الوطنية في الاحداث التي تجري على اهم معركة مفصلية في وجود العملية السياسية التي تأسست بخليط من اوراق عشوائية اخذت تحرق وجود الدولة وكيانها لتبعثرها الى كيانات متصارعه على مصالح معلومة وبمرجعيات لها دور كبير في تفتيت الانتماء الحقيقي لوطن اسمه العراق وقد تعاظمت تلك الكيانات في سلطتها التي تغلفها مرة بوازع ديني او مكوناتي او طائفي او قومي ولكن النتيجة التي نراها ونحن نكشف الغطاء بأسم المنطق والحقيقة بانها اصبحت تهدد الوجود الانساني بحد ذاته , وكل هذا يتم تدبيره وفق مشاريع قد اعدت من اكثر من جهة لتتناغم وان كانت ناشزة في اضعاف الغيرة والارادة العراقية وتجرها الى مسميات اصبحت تطلق اعلاميا بدون خجل ولا استحياء لتعلن ان العراق بقعة جغرافية تتبع لذلك الوليّ او السلطان او الملك او الرئيس , وهذا مايحصل اليوم في معركة نينوى فبدلا من ان يكون هناك توحيد في الخطاب وسموّ بالوحدة الوطنية نرى وبوضوح ان كل الجهات تحرف المشهد بما يتوافق مع مشاريعها واهدافها , وغاب عن المشهد تماما ان تكون لمعركة التحرير هوية واحدة , وصارت نينوى ميدان صراع لمن يستحوذ عليها وعلى ما تحتويه من موارد مادية واثرائية وكيف يمكن ان يهيمن على الساحة السياسية لما بعد المعركة , هذا هو الواقع لا يمكن نكرانه ولا المزايدة علية بخطابات سياسية مزخرفة اصبحت مكشوفة تماما ولا تحتاج الكثير من الرؤية والتنظير لكي نقع على العلّة وتجربة العراق الجديد هي اعظم شاهد وتذكرة للعراقيين لعلهم يستفيقون , فمن غير المالوف ان يتفق الجميع ان ما بعد المعركة والتحرير اخطر من قبلها وان هناك الكثير من المخططات التي ستجرنا الى الخراب والله اعلم بما ستؤول اليه الامور ما خفي منها وما ظهر وتبقى الاسباب مجهولة لتلك الحقيقة وستكون كل الاجراءات معتمدة بالاساس على الافعال وعلى ردة الافعال التي ستظهر بعد دحر الارهاب وتأمين المناطق المحررة , وفي كل الاحوال سيكون الانسان الذي بقى تحت سيطرة الارهاب معنويا وماديا ومنهجيا بعيدا كل البعد من ان يكون ضمن المحاور التي ستعتمدها الستراتيجيات للفترة القادمة “ان وجدت” وستستمر الاوراق التي تحرق مشروع الدولة في غيها ولن تكون قادرة على دراسة وفهم الحالة الانسانية والاجتماعية وتعقيداتها التي تعقب اي احتلال ولن تكون في اجنداتها اي مشروع وطني موحد يمكنه من تسيير المجتمع باتجاه وهدف وغاية رشيدة وان ترسم الاليات المنهجية لاستحضار المعرفة والتعليم والثقافة والتنوير والابتعاد عن المفاهيم الآسنة والعقيمة التي غطت بظلامها العقول واستغلت السذج من العامة ليكون الفرد مطية تتلاعب به وكأنه عبدا مملوكا يسير حيثما يأمره مولاه , يطيعه ويسلم له تسليما , تابع ناعق بلا وعي ولا ادراك هذا ما تسعى اليه كل سلطة وما اديم هذه السلطات الا من هذه الاتباع .
حروب كثيرة مرت على حقب التاريخ كانت كارثية على كثير من الشعوب التي ما ان نفضت من ثيابها غبار المعارك حتى عكست المعادلة باتجاه السلام الفكري والثقافي وكانت ايقونتها في احداث اي تغيير هو الانسان وقلع الغل الذي يضمره تجاه اخية الانسان وهذا بالطبع كان بآليات مدنية جديدة تستنهض التعايش والتاقلم وتبعد التمسك بالمعتقدات التي لا انجاز يحسب لها سوى انها تنتمي لعصور غابرة قد خلت , ورغم الخراب الذي خلفته تلك الحروب الا انهم قد ادركوا ان قيمتهم المادية والمعنوية مرتبطة بالقيم الانسانية السامية التي لاحدود لها اذا ما اخذت مسارات المعرفة والعلم , وقد بدأوا فعلا في الاجيال اليافعة من الشباب لخلق نهضة انسانية بعد ان وجهت الدفة الى التعليم والصحة والخدمات ومرتكزة على تنامي الاقتصاد المحلي , وهذا بدوره خلق جوا من الاستقرار الاجتماعي المتفاعل مع الدولة , وهي بذلك قد انتصرت فعلا في المعركة الاساسية التي ادركت بأنها من اولوياتها المقدسة بدلا من تشتيت الاولويات باتجاه مقدسات لا خير يأتي منها ولا نفع فيها كالزعامة والسلطة وما اكثرها في العراق وما اعظمها , وعلى النخب الثقافية والفكرية أن تتفهم دورها وان تكون الملهم الاوحد لتنمية الانسان بمعزل عن الخراب الذي احدثته كل الافكار الهدّامة التي ابتلينا بها عبر تراث موبوء بالتطرف وغسل العقول وحجزها في دوامة الاعتقاد والاستعباد والالهاء والتضليل , وسيكون الشعب العراقي بعد عملية التحرير امام تحديات قاسية وخيارات هجينة وغريبة وسيبقى الانسان قائما عندما يستنهض الواقع ويعيد الصياغات والمراجعات ويقوم بالتمرد على حقبة من الزمن قد استكانت عقولنا في كهوف الخرافة والغيبيات وان يشرع في الانطلاق مستلهما الحضارات الاصيلة من سومر وبابل ونينوى التي ارتقت وتالقت بها عراقية الانسان .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب