22 ديسمبر، 2024 7:31 م

نينا بتروفنا : الأحلام المستحيلة لشاعر هائم

نينا بتروفنا : الأحلام المستحيلة لشاعر هائم

حسب الشيخ جعفر ، شاعر مبدع ، وربما أهم شاعر عراقي في الجيل التالي للجيل المؤسس للشعر الحر أو بتعبير أدق ، شعر التفعيلة (بدر السياب ، عبدالوهاب البياتي ، بلند الحيدري ، نازك الملائكة ) ، ويتميز عنهم بتناول موضوعة الجنس ، بأعتبارها اعلى (قيمة ) في الحياة ، والخمر وسيلة لأستعادة الذكريات الحميمة لألوان من الجنس ، كفعل غريزي ، لا يرتبط بأي مشاعر رومانسية أو قيم روحية .ولو حذفنا ثنائية الجنس والخمر من شعر حسب ، لما بقي منه شيء سوى ذكريات الطفولة في العمارة ووصف الطبيعة فيها . ورغم أنني مدمن على قراءة قصائده الجميلة ، الا أنني لا أتذكر له أية قصائد أخرى – بعد عودته من موسكو – تعبر عن الواقع العراقي ، كما لا تعكس حياته الحقيقية في روسيا ، أو أي جانب من جوانب الحياة الروسية الطافحة بالنشاط الثقافي بشتى ألوانه وأشكاله .

كنا مع حسب ضمن عدد كبير من طلبة البعثات ، الذين أوفدتهم حكومة ثورة 14 تموز للدراسة في الأتحاد السوفييتي ابتداءً من اكتوبر عام 1959 . درسنا في السنة الأولي في الكلية التحضيرية لجامعة موسكو ، ثم تفرق بنا السبل ، حيث توزعنا على الجامعات والمعاهد في أكثر من مدينة ، ولكن اغلبنا كان في موسكو ولينينغراد ( بطرسبورغ حالياً ) . كان حسب طالباً خجولا ومنزوياً ، ولا أعرف كيف صادق– كما يذكر في قصائده ومذكراته ورواياته ، عشرات الحسناوات الروسيات ، وهو الذي كان يغض الطرف عن الجنس اللطيف حياءً وخجلاً ؟

مذكرات حسب الصادرة في بعداد عام 1986 تحت عنوان ” رماد الدرويش ” مكرسة بأسرها لعلاقاته الحميمة بعدد كبير من الفتيات والنساء الروسيات . ويخيل للقاريء انه يقرأ يوميات دون جوان أسمر ، تسعى حسناوات موسكو اليه طوعا لوسامته الفائقة وسحره الجذاب الذي لا يقاوم . نظرة خاطفة منه كافية لأستسلام أي ( طريدة ) كانت وهي علاقات من صنع الخيال ، وأشبه بأحلام اليقظة . ولا تمت للواقع الروسي ، الا بأوهى الصلات .

ولكن كتاب ” رماد الدرويش ” يظل عملاً ممتعاً بفضل لغة حسب الشاعرية الرائعة.

أما رواية ” نينا بتروفنا – من أيقظ الحسناء النائمة ” الصادرة في بغداد عام 2014 فهي نسخة محورة من ” رماد الدرويش ” ومحاولة في كتابة رواية طويلة ، أقتداءً بالشعراء الروس ( بوشكين ، ليرمنتوف ، باسترناك ، مارينغوف ) الذين كانوا شعراء وروائيين في آن واحد .

حسب يتخفى في هذه الرواية وراء الراوي – وهو عراقي مقيم في موسكو ، يعمل مترجما في احدى دور النشر السوفيتية . ويلجأ حسب الى حيلة فنية ، وهي العثور على مخطوطة لشخص آخر . يقول حسب في مفتتح الرواية : ” هذه يوميات أو مذكرات حقيقية كتبها في موسكو قلم لا أعرفه ، وهي تعود الى أواخر الستينات من القرن العشرين ، وقد أعدت كتابتها موسّعا مستفيضاً حتى أضحت رواية يمكنني القول إنني كاتبها الآخر . وسيعرف القاريء كيف وجدت سبيلها إليّ ” . هذه الديباجة أصبت كليشة مستهلكة من كثرة ورودها في استهلال عدد كبير من الروايات الأجنبية والعربية.

البناء الفني لرواية ” نينا بتروفنا ”

.

دعنا نرى كيف عالج حسب موضوعه ، وهل استطاع ان يحوّل تلك اليوميات أو المذكرات الى عمل روائي ؟.

في (كافتريا) احدى الصحف الموسكوبية ، جلس الرواي مع صديق له الى مائدة يجلس اليها شاب ثالث لا يعرفه ولم يلتق به في حياته . وعلى حين غرة يدعوه هذا الشاب ، الى حفلة عائلية يقيمها احتفاءً بعيد ميلاد زوجته في شقتهما . واذا عرفنا مدى حذر الروس ، وخاصة في الحقبة السوفيتية من الأجانب .فإن هذه الدعوة المفاجئة لأجنبي الى حفلة عائلية خاصة ، تبدو في غاية الغرابة .

بطلة الرواية ( ناديا) زوجة صحفي روسي صديق للراوي ( المترجم العراقي ) وتتمنى ان يتزوجها، وفي الوقت نفسه تشجعه على اقامة علاقة حميمة مع أمها ، والأم بدورها تدفع ابنتها الى احضان الراوي . صحيح ان الرواية مزج بين الخيال والواقع ، ولكن الخيال المقنع هو ما يمكن أن يحدث في الواقع . وسلوك ناديا وامها ، لا تنسجمان مع طبيعة المرأة أبدا ، خاصة اذا عرفنا ان البنت موظفة والأم طبيبة محترمة ..

الرواية غير مقسمة الى فصول ، بل تتألف من نص واحد متصل وطويل جداً ، على مدى 394 صفحة ، تتضمن يوميات لا تختلف الا في بعض تفاصيلها مثل زمان ومكان الحدث . يوميات متماثلة. لقاءات مع ناديا او امها في شقة الراوي ، أو في شقة بطلة الرواية ( ناديا ) او شقة امها .

الصحفي اندريه زوج نادية تطلب من الراوي أن يصطحب زوجته الى

السينما أو المسرح ، واحيانا حين يدعو المترجم ناديا وزوجها الى شقته ، يتأخر الصحفي عمدا ، وهو يعرف أن زوجته في أحضان الراوي . وليت المؤلف اكتفي بوصف العلاقات المتشابكة بينه وبين اندريه وناديا وامها ، فسريره لا يخلو من امرأة فاتنة في كل ليلة . فهو يقيم علاقات حميمة كثيرة عابرة ، يبدأ كل لفاء بالأكل واحتساء أفخر أنواع الفودكا اوالويسكي اوالنبيذ المعتق ، وينتهي في السرير .

” نينا بتروفنا ” رواية تفتقر الى عمق الرؤية الفنية ، وبراعة البناء الفني ، فهي تجمع بين عدد كبير من الشخصيات – النسائية غالباً – على نحو لا يعطي كل شخصية حقها في النماء . السرد ينزلق على السطح من دون أي محاولة جادة للغوص في اعماق الشخصيات الاساسية.

وقد أقحم المؤلف في الرواية مناقشات أدبية وأقوالا لكبار الكتاب والشعراء ، لا تتناغم مع نسيج الرواية . وهو يطلق على تولستوي لقب كونت حينا ، واقطاعي حينا آخر . ولكن تولستوي لم يكن اقطاعيا ، بل وزع الأرض التي ورثها على فلاحيه ، ولم يكن يمتلك سوى ضيعة ” ياسنايا بوليانا ” ، وقد اضطر في شبابه الى بيع بيته ، حين اراد اصدار مجلة . اما دوستويفسكي فيسميه المؤلف بالمصروع . اراد المؤلف ان يكون ساخراً ولكن السخرية بعيدة عن موهبة حسب . واطلاق نعوت من قبيل الإقطاعي والمصروع في غير محلها . كان تشيخوف يقول : ” اذا كانت في القصة ثمة بندقية معلقة على الجدار ، فلا بد أن تطلق النار لاحقاً ” . بمعنى أن لكل تفصيل في الرواية وظيفة فنية وتشكل جزءاً من النسيج العام للرواية . ما علاقة الكونت أو الاقطاعي أو المصروع بالمغامرات النسائية لمترجم عراقي ؟

تنتهي الرواية بموت الراوي في حادث مروري كما في الأفلام الميلودرامية . وكتب حسب خاتمة للرواية تحت عنوان ” إضافتي ” يقول فيها : ” مات الفتى -–يقصد الراوي -–في حادث اصطدام مروع , وكان مسرعا بسيارته الى لقاء نينا بتروفنا وكانت نادية معه في السيارة وقد ماتت قبله بساعتين . هذا ما اخبرني به نينا بتروفنا نفسها وقد التقيتها مصادفة في بارك غوركي بعد الحادث بثلاثة ايام ، وهي التي اعطتني هذه المذكرات ، وقد تركها الفتى عندها قبل الحادث بيوم واحد وقد احتفظت بها طويلا قبل ان اعيد كتابتها “.

لاحظ ايها القاريء المصادفات المتلاحقة في هذه الاضافة ولا أطيل على القاريء، .

فالرواية من الفها الى يائها مفاجآت غير مقنعة من هذا النوع ، يصعب تصديقها .

.

شطحات خيال جامح

يقول الراوي أنه كان يعمل مترجما في إحدى دور النشر السوفيتية ويمتلك شقة خاصة به وسيارة ، ويشتري الهدايا الثمينة بالعملة الصعبة لعشيقاته من مخزن ” بيريوسكا ” المخصصة للأجانب. وهذه كلها اشبه باحلام يقظة . لقد عشت في الظروف نفسها، وفي الفترة ذاتها التي عاشها الشاعر في موسكو في الستينات من القرن العشرين . وكان بعض أصدقائي يعملون بصفة مترجمين في دور النشر السوفيتية ، ووكالة تاس ، والطبعة العربية من جريدة ” أنباء موسكو ” . كانوا يسكنون في شقق زوجاتهم أو صديقاتهم وبعضهم لديه غرفة أو شقة صغيرة مخصصة من قبل الجهات التي يعملون بها ، وكانت اجورهم تكاد لا تكفي لسد رمقهم ، ولا أحد منهم يمتلك شقة بإسمه ، أو سيارة . ولم تكن لديهم أية عملة صعبة لشراء هدايا ثمينة من محزن الأجانب . فمن أين حصل بطل رواية ” نينا بتروفنا ” على العملة الصعبة التي يصرفها بسخاء . فهو يرتاد المطاعم الراقية المكلفة ، ويحتسي مع عشيقاته أفخر أنواع المشروبات الأجنبية .

ما ابعد هذه الصورة المتخيلة عن واقع الجنس والحب في عاصمة الإشتراكية في الستينات . وصف الواقع السوفيتي على هذا النحو ، يذكرني بما كتبه ليف تولستوي في مقدمته الرائعة لأعمال موباسان الروائية والقصصية : ” إن الكاتب الذي يصف الشعب على النحو الذي فعل موباسان ، والذي لا يصف بتعاطف الا ” الأفخاذ والنهود ” والخادمات البريتونيات فقط ، يقع في خطأ فني كبير ، لأنه يصف الموضوع من جانب واحد فحسب ، هو الجانب الممل ، الجانب الحسي ، ويهمل تماماً الجانب الأكثر أهمية – الجانب الروحي الذي يشكل جوهر الموضوع ”

ويقول ايضاً : ” ان الشعب الفرنسي لا يمكن أن يكون على هذه الصورة التي يصفونها . واذا كانت ثمة فرنسا التي نعرفها بأبنائها العباقرة الحقيقيين ، وبتلك الأنجازات التي حققها هؤلاء العظماء في العلم والفن والحضارة والتكامل الأخلاقي للأنسانية ، فأن الشعب العامل – الذي حمل ولا يزال يحمل على أكتافه فرنسا التي تعرفها بأناسها العظماء – يتألف ليس من البهائم بل من أناس يتحلون بصفات روحية عظيمة ” .

وبطبيعة الحال لا يمكن مقارنة رواية ” نينا بتروفنا ” بنتاجات كاتب عظيم مثل موباسان . ومع ذلك أقول أن الواقع السوفيتي لم يكن على النحو الذي يصفه المؤلف..

رب قائل ، ان الواقع شيء والرواية شيء آخر ، وهذا صحيح . فالرواية وان كانت تنطلق من الحياة اولاً ، الا انها تمتزج بالخيال على نحو لا يمكن للمتلقي أن يميز في الرواية بين الحقيقة والخيال . ولكن الرواية ينبغي أن تتسم دائما بالصدق الفني ، وأن يكون منطقيا ومقنعا . واذا كان التأريخ يحدثنا عما حدث ، فإن الأدب ، يصوّر ما كان يمكن أن يحدث . وثمة خطر جسيم يلازم نسج الأكاذيب ، فقد لا يصدقك الناس

.

الإروتيكا الغائبة عن الواقع السوفيتي

خلال الندوة التي جرت عبر الجسر الفضائي بين لينينغراد وبوسطن في 17 يوليو 1986 تحت مسمى ” نساء يتحدثن الى نساء ” بمشاركة ممثلة منظمة ” النساء السوفيتيات” لودميلا إيفانوفا ، قالت مشاركة أمريكية في الندوة : ” بسبب الحرب في افغانستان على النساء في الاتحاد السوفيتي التوقف عن ممارسة الجنس مع ازواجهن ، عندها لن يذهبوا الى الحرب . فردت عليها إيفانوفا قائلة : ” لا يوجد جنس في الاتحاد السوفيتي ، بل هناك حب. وخلال حرب فيتنام لم تتوقف النساء الأميركيات عن معاشرة أزواجهن “.

وقد أثار رد ايفانوفا موجة عارمة من التعليقات في الأعلام السوفيتي . وذهب الجزء الأول من الجملة : ” لا يوجد جنس في الأتحاد السوفيتي ” مثلا . بالطبع كان هناك جنس كأي بلد آخر في العالم . ولكن الغالب على العلاقات العاطفية بين الجنسين كان الحب الحقيقي المتبادل . كان النظام السوفيتي متزمتاً حداً ، لا مشاهد قبلات في الأفلام او وصف صريح للعلاقات الحميمة بين الجنسين في الروايات . وكان ثمة حذر من الأجانب زرعه النظام في النفوس . ولم يكن من السهل ان يقيم الطالب الأجنبي علاقة حميمة مع فتاة سوفيتية الا بعد لقاءات عديدة حيث يتعرف كل منهما على الآخر جيدا ،وينشأ بينهما علاقة حب ، لذا فإن إيفانوفا قالت عين الحقيقة .

المرأة السوفيتية بالأمس والروسية اليوم تتمتع بكامل حقوقها اسوة بالرجل .ولكن النظرة الشبقية المتخلفة الى المرأة كوعاء ولعبة للرجل لا تقتصر على المتزمتين ، بل تشمل – ويا للمفارقة – بعض كبار الشعراء ..