وبعد الانقلاب العثماني عاد الثلاثي انطون – روز- نقولا إلى مصر “فقد حان الوقت للعمل، عادوا إلى مصر لأنها كما قال نقولا “الوطن الذي قضينا فيه زمن الشبيبة وهو المركز الاوسط لجميع العالم العربي”. لكن نقولا كان من بين الثلاثة الأكثر تغيّرا فقد تلقن في امريكا الكثير من الفكر الاشتراكي.. عبر زملائه من المفكرين العرب في “الرابطة القلمية” ومنهم امين الريحاني وميخائيل نعيمه وغيرهما. واصدروا معاً ومعهم فرح انطون وروز مجلة الجامعة ومجلة السائح والتقوا مع طلائع الفكر الاشتراكي الامريكي .. الذين واجهوا بضراوة وحشية الاحتكارات الامريكية الناشئة عبر اعتصار دماء وعرق الكادحين الامريكيين ويكتب أمين الريحاني موجهاً حديثه إلى مدينة نيويورك قائلا “احشاؤك من الحديد وفيها عقدة ، وصدرك من الخشب وفيه سوسه، وفمك من النحاس وعليك صدأه، جبينك من الرخام وفي جماله جموده.
ويلٌ لأبنائك، تشربين ذوب الابريز وتأكلين معجون اللجين وتنقلين اجنحة العلم وتلبسين الفاخر من الحرير والنادر من الحلي وقلبك قار يشتعل .. ويلٌ لأبنائك وعشاقك” (قدري قلعجي- السابقون- ص 43) أما نقولا حداد فيتحدث عن الحضارة الامريكية مقدما منها نماذج ذات دلالة.. فيقول “سيدة غنية دفعت” ألف ريال رسوما جمركية لملابس استوردتها من باريس، وسيدة اخري انفقت علي ملابس كلبها ورياش غرفته نحو الف جنيه” (نقولا الحداد- الاشتراكية).
وهكذا فإن هذه المجموعة من المفكرين العرب الذين كانوا شبه اشتراكيين قد تحولت خلال فترة بقائها في المهجر إلى الاشتراكية الجادة من خلال طلائع النضال الاشتراكي الأمريكيين، وقد اقامت هذه المجموعة وخاصة نقولا حداد علاقات وثيقة مع اوجين دبس أحد مؤسسي الحزب الاشتراكي الامريكي، وأوجين دبس (1855- 1926) هو واحد من أهم القادة البارزين في الحركة العمالية الامريكية وقد اتخذ مواقف اممية شجاعة خلال الحرب العالمية الاولى، وعندما قامت ثورة اكتوبر وجَّه دبس تحية حارة إلي قادتها، كما شارك دبس في تحرير المجلة الاشتراكية الامريكية الشهيرة آنذاك “نداء إلي العقل” وقد وجه لينين تحية حارة إلي دبس في رسالته المعنونة “إلي العمال الأمريكيين” والتي قال فيها إن دبس من اخلص زعماء البروليتاريا الامريكية. وإن دبس أكد انه يفضل أن يعدم رميا بالرصاص علي أن يمنح صوته في الكونغرس بالموافقة على اعتمادات الحرب الراهنة، تلك الحرب الاجرامية والرجعية. ذلك أن دبس لا يعرف إلا حربا واحدة عادلة وشرعية ومقدسة من وجهة نظر البروليتاريا، وهي الحرب ضد الرأسماليين . أي الحرب من أجل تحرير الانسانية من عبودية العمل المأجور. وأن قيام ويلسون زعيم اصحاب المليارات الامريكيين بزج دبس في السجن بعد أن طرده من البرلمان لا يدهشني ، لكن استبداد البرجوازيين بالعناصر الأممية المخلصة وبممثلي البروليتاريا الثورية المخلصين لن يثمر شيئا” (لينين – رسالة إلي العمال الامريكيين- دار التقدم – موسكو 1968.)
وقد اشترك دبس مع موريس هلكويت وفيكتور بيرجر في تأسيس الحزب الاشتراكي الامريكي عام 1901) كما تتلمذ نقولا ايضا على يدي هنري جورج صاحب واحد من أشهر الكتب الاشتراكية في ذلك الحين وهو “التقدم والفقر”. وكان هنري جورج أحد قادة حركة عمال المزارع التي شاركت في انتخابات الكونغرس عام 1878 وحصلت على مليون وخمسين الف صوت”. وهكذا عاد نقولا حداد متمتعا بفكر اشتراكي رصين. وغني عن القول أنه خاض معركته متحصنا بالنفوذ الفكري لفرح انطون وإلى روز زوجته الحبيبة التي أهداها كتابة “علم الاجتماع” قائلا :”إلى روز شريكتي في الحياة وفي الفكر أهدي هذا الكتاب”.
وإذا كان فرح انطون قد تحصّن بالانضمام لحزب الوفد واصدر له جريدة الاهالي ثم جريدة النظام وعندما توفى انطون كان سعد منفياً في جبل طارق ومن هناك ارسل برقية عزاء إلى شقيقته روز قائلا “حضرة السيدة الفاضلة روز حداد صاحبة مجلة السيدات والرجال بمصر- لقد أحزنني خبر وفاة شقيقك الفاضل فرح انطون فقد كان كاتبا مجيدا وله في عالم الصحافة أثر محمود فأُعزي في فقده الفضل والادب واعزيكم وجميع أهله وذويه احسن العزاء – سعد زغلول. وقد نشرت جريدة المحروسة الوفدية – هذه البرقية قائلة أن فرح انطون “كان من كبار الكتاب السعديين وكانت له في خدمة القضية الوطنية آثارٌ محمودة ومواقف مشهودة ” (المحروسة 2-3-1923) أما روز فقد كانت هي ايضا وفدية. وعندما اعادت طبع مسرحية السلطان صلاح الدين التي كتبها فرح انطون أهدت الرواية “إلى روح الوطنية المصري. إلى الرئيس العظيم سعد وكفى بسعد دلالة على النبل والوطنية والتضحية، ولو كان أخي فرح حياً لكان يقدم ولاشك هذه الرواية إليكم رمزاً لاحترامه لشخصكم العظيم ولولائه للأمة المصرية النبيلة” (فرح انطون – السلطان صلاح الدين ومملكة اورشليم- الطبعة الثانية – 1923- ص2)
لكن نقولا حداد لم يفعلها ولم يكن وفديا وما اوردت ما سبق عن علاقة فرح روز بالوفد وبسعد ألا لأظهر الفارق بينهما وبين نقولا الذي ظل مشاركا معهما في الكتابة كل في طريقه، ولكن تجمعهم روح الوطنية المصرية والولاء للشعب المصري ورفض الاحتلال البريطاني، وتفرقهما النزعة الاشتراكية الحاسمة التي تمنع على صاحبها من أن يكون وفديا. فقد استلهم نقولا في كتاباته عن الاشتراكية ما تلقنه في أمريكا وأيضا حركة الثورة المصرية التي تموج بنضالات عمالية وفلاحية. فكتب في شجاعة وجرأة داعيا للاشتراكية ومهاجما في عنف النظام الرأسمالي. وعندما انطلقت جموع العمال والفلاحين لتمارس الفعل الثوري إلى أقصى مداه ضد تحالف الثالوث – الاحتلال- القصر الملكي- كبار الملاك العقاريين كان من الطبيعي أن تلهم المثقفين المصريين ذوي الاتجاه الاشتراكي القدرة على أن يرددوا افكارهم بصوت مرتفع.. وكان صوت نقولا حداد هو الاعلى والاكثر عمقاً والاكثر معرفة بمعنى الاشتراكية وبتعبيرها عن مصر الثورية.. فكان القائد في هذا المجال.. وكانت كتاباته الاشتراكية الملهم لكثيرين. والآن لنستعرض بعضاً مما عثرنا عليه من كتاباته عن الاشتراكية. ونواصل.
نقلا عن المدي