6 فبراير، 2025 12:24 م

نيتشه والموسيقى

نيتشه والموسيقى

نيتشه فيلسوف المطرقة، شاعر وفنان، مروض الكلمات والأفكار، عاشق للفن والموسيقى، فيلولوجي في دراسة النصوص اللغوية والعناية بأصل الأشياء، شاعر رقيق المشاعر، إنساني مفرط في إنسانية، صاحب ذوق لما هو جميل ومخالف، نوع من العبقرية الغربية الفذة في واقع هيمنة الفكر العقلاني، في قوة الجدل والمنطلق، من الفلسفة السائدة الخاصة بالمثالية الأفلاطونية والعقلانية. يعود نيتشه في فلسفته إلى التراث اليوناني السابق على سقراط، زمن الحكمة وثقافة الإغريق القدماء، تلك الروح التي ألهمت الناس في الإبداع والمرح من قيمة الثقافة اليونانية في النشاط الفني، وفي ذلك الاعتدال والانسجام بين الروح الأبولونية والروح الديونيسوسية، ثنائية قائمة وأساسية، وعليها تنتشيالنفس في صفائها ومرحها حيث تولدت الفنون من خلال الوحدة بين القوتين، بعيدا عن هيمنة المعرفة الخالصة والروح العلمية التي جعلت من المنطق والعقل أدوات في تحقيق النظام والانسجام في الكون والحياة، النشوة في عالم ديونيسوس تعني غياب الحواجز والحدود والشعور بالامتلاء، إقبال على الحياة في تحرير الغريزة وفك القيود على الذات نحو الفرح والغبطة بالوجود، والفن الابولوني ينطوي على الرقي والنظام،ويعكس العقل المنطقي للبشر، يروم النظام والاعتدال .

معالم التفكير في الفن والجمال مضادة لما رسمه سقراط في الفضيلة والمعرفة والأخلاق .تكريس الهيمنة للعقل والجدل والمنطق في فلسفة أفلاطون، وذلك التحالف بين سقراط ويوربيدس ضد المأساة، ونواة الحياة الفعلية المتعلقة بالشعر والتمثيل والموسيقى، نواة الحياة الفنية المليئة بالملاحم والحكايات من الأسطورة. إننا لا نعانق الأشياء، ولا نتبع خطى الزمن والسير مع دينامية الحياة إلا بفعل ما تمنحنا إياه الموسيقى والفن عموما. بفعل الموسيقى يتخلص التراجيدي من الواقع وألم الحياة، يكون الإنصات للوجود أقوى، في عمق التجربة الوجودية الخاصة بالإنسان، البطل التراجيدي في مواجهة قوة الآلهة. الموسيقى ترياق يسري في شريان المستمع، دواء للأعصاب المتوترة، تقودنا النغمات والأصوات نحو المجهول، وترفعنا نحو السمو والصعود، الأنغام الحزينة بمثابةصوت الحزن، والأنغام السعيدة بمثابة صون الفرح. الإنسان اليوناني في رغبته الاستكشافية من خلال الفلسفة اكتشف المبدأ الأصيل في تفسير الأشياء، اهتدى إلى فكرة جوهرية في الفهم أن الوجود شيء رهيب وعبثي، ولا يقهم هذا النوع من العبث إلا بالموسيقى الهادفة. الفن الوسيلة الممكنة لمواجهة الوجود المأساوي والغامض، الفن والرقص مع الحياة، لولا الموسيقى لكانت الحياة غلطة كما يقول نيتشه، مكامن الغلط يوجد في الحياة الخالية من الموسيقى، يشدو المستمع بالأصوات النقية والمعبرة عن إرادة القوة، المانحة للفعل القوة والمعبرة عن طموح الإنسان في التعبير عن الإحساس وأسمى المشاعر النبيلة، هذا القلق الذي ينتاب الذات من الوجود والعدم، القلق في مواجهة الموت الرهيب، الحياة تستحق أن يعيشها الإنسان بمتعة،والغرائز لا يمكن كبتها وكبحها، بل تكمن القوة في اندفاع الإنسان بإرادته نحو بناء الأشياء ونحتها، فهو يطبعها بطابعه الخاص من خلال الكلمة والرمز، والقدرة على إدراك الأشياء وهضمها دون التعالي على الوجود.

الموسيقى  فن يختلف عن جميع الفنون، مزج بين الحس والخيال، تعبير عن الحرية والضرورة أو تعبير عن المتناهي واللامتناهي.الموسيقى مهمة في الاحتفال التراجيدي، لذلك كتب نيتشه مولد التراجيديا من رحم الموسيقى ، التراجيديا بوصفها جنس أدبي ذات خصائص وقواعد معينة، تتضمن مشاعر الخوف والشفقة،وتطرح الفكرة مجموعة من التناقضات عن الأشياء من خلال شخصية البطل التراجيدي في الحياة، نهاية مأساوية تثير فينا الرغبة نحو تصحيح أهدافنا وتصوراتنا، وتدفعنا للعيش في كنف الوهم والحقيقة، والسبيل نحو تحررنا من المعاناة والألم عندما نتلمس قيمة ما يحمله البطل التراجيدي من نهاية وسقوط في الألم. التراجيديا والإحساس المرعب، وفي التراجيديا يتبلور سؤال الوجود وتناهي الموجود، هوميروس الشاعر اليوناني الأعمى الذي تفنن في كتابة الإلياذة والأوديسة، ما خلفه الشاعر من أناشيد وأشعار لا زالت تغدي المخيال الشعبي، وتفعل فعلهافي السرديات والقصص الشعبية لما تحكيه من مغامرات وبطولاتولعنة الآلهة. مادة التراجيديا الأسطورة، فن تأكيد الحياة، والفن شرط أساسي للحياة، وسبب أفول وموت التراجيديا يتعلق باختلال العلاقة وانفصالها كذلك بين أبولو وديونيسوس، أي غياب التوازن والانسجام بينهما مما يجسد سيطرة الروح العلمية، وهيمنة فكرة المنطق والجدل من خلال رؤية مثالية للحياة والوجود. هيمن عالم المثل وسادت الفكرة أن الأسطورة ضد العقل، وخير دليل على ذلك فكرة أناكساغوراس عن البدايات الأولى التي تعني أن الأشياء كانت مختلطة مع بعضها ثم جاء العقل وخلق النظام. الحياة ليست صورة جامدة وليست للحياة قواعد صورية يتمثلها الإنسان في شكل قوالب ومبادئ خالصة، الحياة لا تخلو من ألم ومعاناة، ولا تخلو من نشوة ومتعة، إدراك العالم عن طريق الموسيقى عندما تخفف من الألم ونتحرر من ذواتنا.

يرسم الفن طريقا آخر يعيد فيه الإنسان الوهج للذات بعيدا عن صنم العقل، التراجيديا ونشأتها الأولى من خلال الرقصات والابتهاج بالحياة والحفلات الغنائية والتمثيل حتى صارت فنا قائم الذات. نعيش الحدث بشكل درامي، يظهر الخوف والشفقة، ويتحول الرعب والخوف إلى أفكار نستوعبها ونتمثلها، ونعيش معها، وندرك بالتالي أوجه الحياة المختلفة، في صميم الحياة يتحول الخوف والألم إلى لذة وشعور بالوجود، تجربة حية في صميم هذا النوع من الجنس الأدبي الذي انحل بفعل الضربات العنيفة من القيم الإرتكاسية المناقضة للحياة، عالم المثل وعالم الفضيلة والقيم المسيحية، قيم الضعف والخنوع، نفي للقيم الجمالية والفنية، نفي للشعر الغنائي والحياة المليئة بالنشوة والمتعة، من خلال الموسيقى يستطيع الإنسان الفرار من بؤس الحياة الدنيوية. نتبع خطوات نيتشه في الموسيقى والفن، نستشعر لأول وهلة التأثر البالغ بالفيلسوف شوبنهاوربوصفه مربيا، وصاحب فكرة الإرادة الحرة ضد سلطة العقل،  لغته صريحة ومفعمة بالصدق والنوايا الحقيقية، لغة الإرادة تتكلم من الأعماق، إرادة الحياة في أبهى صورة وأرقى التجليات في الهيمنة بعيدا عن سلطة العقل والمنطق، إرادة موجهة لنا وللحياة، ومادمنا خاضعين لهذه الإرادة الجياشة لن ننعم بالهدوء والسكينة، وبالتالي كانت فكرته قائمة على الانسجاموالتناغم بين ما نرغب وما نريد . هناك ريتشارد فاغنرالموسيقار الألماني الذي كان نيتشه شديد الإعجاب بشخصه، ما قدمه في البداية من روعة الأصوات والألحان الشجية التي تعبر كما قال نيتشه عن عبقرية، عودته نحو الدراما الإغريقيةالتي جمعت بين الموسيقى والفكر، وبين الشعر والمسرح، لكن سرعان ما تحول الإعجاب إلى انقلاب بمجرد تحول فاغنر إلى أنماط جديدة من الموسيقى تتماشى مع القيم الأخلاقية المسيحية، ويعتبر هذا في نظر نيتشه انقلاب وضعف في التعبير عن أشياء تعرقل مسار النمو والنضج في الفكر الإنساني عندتعميم هذا النمط من الموسيقى القاتلة والمريضة.

تقوم الحياة على الفن ومسار الإنسان في الحياة مزيج من الألم والنشوة، ترويض المعاناة والرعب من خلال الفن ، تجربة عميقة في نقل مشاعر الإنسان، قوة الفن كوسيلة للتحرر ومواجهة الصعاب، لا يختاره سوى الأحرار، والحرية التي تنشدها العقول الحرة لا يعرف طعمها إلا من حاول أن يسلك طريقا فريدا ومتفردا في العبور نحو الإنسان الأعلى ونحو صورة راقية للوجود الإنساني، عندما يستطيع هذا الإنسان أن يتجاوز ذاته، إرادة القوة في كل الأشياء، في التاريخ والسياسة والمجتمع والحياة برمتها، إرادة القوة في التعبير عن القدرة والفعل، أن يتحرر الإنسان من قيم الضعف والشفقة، أن يعلو بذاته ويسمو في واقع الممكنات، ألم الحياة عميق والتألم من عبثية الحياة دافع نحو السمو والصعود في مراتب الإنسانية. هذا أنا، إنه نيتشه ابن زرادشت، أول فيلسوف تراجيدي، ديناميت كما ينعت نفسه أو لهب يصيب بأفكاره العقول الحرة، ويترك بصمة على العقول الحائرة، المطرقة التي تهدم الأصنام وتخلخل ما يبدو أنه يقيني وراسخ، التراجيديا انفتاح على المجهول، سؤال الإنسان وحيرته في الحياة المليئة بالتناقضات، الموسيقى لغة، تعبر عن شجون الإنسان وقدرته على الفعل والعطاء، القدرة هنا طاقة متجددة، تجربة نحو المزيد للانفلات من التنميط والصنمية التي صنعها الفكر الميتافيزيقي الغربي. أفضل أن أكون مهرجا على أن أكون قسيسا، هكذا يعبر نيتشه عن شعوره بما آلت إليه الثقافة الغربية، عدمية تسري في مفاصل الثقافة والفكر الخالص،احتقار الفن والشعر والغريزة، والتراجيديا تعيد النظر في كل ذلك بناء على مضمونها وأهدافها، في عمقها مقاومة للموت، وإذا كان الأمر كذلك، نعيش وفق منطق الأبطال التراجيديون، من الأفضل أن نعيش أحرارا وأبطالا أفضل من العيش في الجبن والخنوع، الأبطال يقدمون أنفسهم على أنهكم كذلك، جديرون بالاحترام عندما يختارون موتهم لأن التراجيديا وليدة القوة المنتشية النابعة من الديونيسوسية، ومن القوة الأبولونية الحالمة، وفي غياب التوازن والانسجام بين القوتين يبقى الإنسان أسيرا ومكبلا بأغلال المثالية والنظرة العلمية للحياة. بدون الموسيقى الحياة خطأ ومنبع الأخطاء تعني أن الحياة أصبحت عقلية خالصة، تقاس بالمنطق والجدل، وتقاس بالتفاضل بين العقل والحواس رغم أن الحس والخيال من خصائص الموسيقى، الفن يسمو بالإنسان نحو أنبل المشاعر والعواطف، بالفن نرتقي نحو عالم مجهول، ونسمو بالمشاعر للقبض على مكنونات النفس،نبحث عن اللغة الفياضة التي تخترق الذات من جراء التعبير بالكلمة والصوت والرموز، الشعر الغنائي واللحن الفردي على إيقاع الحدث بأسلوب درامي يثير في المستمع الرهبة والشفقة، يدفعنا للتطهير الروحي، ويمنحنا قناعة عن قيمة الجميل والممتع، وما يثير في نفوسنا من دواعي الاستمتاع والإنصات للوجود، سر الموسيقى في التأليف، سر الموسيقى في الكلمة الرنانة والتعبير البليغ عن مشاعر الإنسان المختلطة والمزدوجة .

الحياة تتخطى الحدود التي ترسمها المعرفة، وإرادة القوة تجسيد فعلي لقدرة الإنسان على الفعل والتغيير، لا تسمو الإرادة إلا بفعل الحرية، والقدرة على التجاوز لما هو فكري مقيد للحرية، ولماهو سطحي يجبر الإنسان على التلقي دون الانفلات من التنميط، تلك مطرقة نيتشه في النقد وتحطيم ما يعتبره أصناما وحقائق اخترقت العقول فأصبحت يقينية، بل هي بالفعل مجرد أوهام نسينا أنها كذلك بفعل قدمها وتغلغلها في أعماق المنطق والفكر الخالص. انتصار إرادة العدم على إرادة القوة دليل آخر على العدمية والسقوط. الموسيقى فن مستقل بذاته، صورة مباشرة من صور الإرادة، والعالم بوصفه موسيقى لا يعبر عن الأفكار بل تعبير عن الإرادة، كما تحتاج الإرادة إلى مثير وحافز، وعندما تشعر الإرادة بالتهديد لن يكون المنقذ لها سوى الفن،وأرقى أشكال الفنون الموسيقى . لم ينجح نيتشه كموسيقى رغم ما يقال عنه أنه مؤلفا موسيقيا وشاعرا وملحنا، كانت تجربته في الفكر كنوع من الموسيقى المعبرة في ترويض الكلمات والأفكار، التقلب في المزاج والمواقف، والحرص الشديد على تصوير الأشياءكما يفهمها دون الانجرار وراء فكرة بعينها أو التماهي مع الشخصيات الفلسفية، طبائع ومواقف جعلت من نيتشه حالما وعاشقا لأفكاره التي يرغب في توصيلها وتكريسها في أذهان لمن يقول عنهم ذوي العقول الحرة، نظر الفيلسوف للحياة من زاوية الفن بوصفه يشكل المهمة الأسمى في الحياة، والعالم كفن يكتسي طابعا دلاليا ومعرفيا بناء على نظرة فنية وجماليةللوجود والعالم، لا يمكن تبريرهما إلا بكونهما ظاهرة جمالية، الفن الديونيسوسي وبلوغ الكمال، لذلك يسدد نيتشه ضربات عنيفة لسقراط الذي عمل على تدمير التراجيديا في مقابل الإعلاء من العقل والنظرة العقلية للحياة.