الجزء الاول
تجدر الاشارة أولاً الى ان رصد النزعات المتطرفة لفيلسوف لا يعني بالضرورة خلو فلسفته من بعض الابعاد الانسانية، خاصة وان الفلسفة سعي دائب في البحث عن اجابات للأسئلة الكبرى في الحياة ، فهايدغر مثلاً كان داعماً للنازية ولم يعتذر حتى بعد سقوط نظامها ، ومع ذلك شكلت فلسفته الأرضية الاساسية لوجودية سارتر، و قد ترك الاخير سجلاً مشرفاً في الدفاع عن قضايا الشعوب ونصرة العدالة وحرية الانسان، كما ان نيتشه الرافض علانية للديمقراطية وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية، أصبح مرجعاً رئيساً لفلاسفة ومفكري ما بعد الحداثة، ومنهم من أسهم في إثراء الثقافة الانسانية بغض النظر عن اختلاف التقييمات لمنهجهم الفكري.
يصف نيتشه نفسه بانه آخر ألماني لا يأبه بالسياسة، إلا ان مواقفه السلبية – المنسجمة مع جوهر فلسفته – من أحداث التأريخ الكبرى كالثورة الفرنسية و كومونة باريس، و تمجيده لنابليون، و رمنسته للامبراطوريات الغابرة، وسخريته من قيم المساواة والعدالة، وازدراءه للضعفاء والمهمشين، كل ذلك يشي بغير ما يدعيه من عزوف عن السياسة.
كتبت أيقونة اليمين الامريكي آين راند بانها لم تتأثر بغير نيتشه من بين جميع الفلاسفة والمفكرين قدماءهم و محدثيهم، ومن أقوال موسوليني أنه يؤمن حتى النخاع بكل حرف كتبه نيتشه، أما هتلر فلم يفوت فرصة لم يعبر فيها عن افتخاره بنيتشه، وقد افتتح متحفاً لأرثه الثقافي، و شاعت تبرئة نيتشه واتهام شقيقته اليزابيث بتشويه ميراثه الفكري ليتناغم مع الأجندة النازية، والحقيقة انها فبركت بعض الرسائل و حذفت ثلث كتاب إرادة القوة لاظهاره معادياً للسامية ، وللانصاف لم يكن نيتشه من بين المعادين للسامية بل كان يزدريهم، كما انه كان ناقداً لاذعاً لحمى المشاعر القومية فما بالك بالشوفينية النازية، إلا ان ذلك لا يبرئه مما تضمنته كتاباته التي نشرت قبل جنونه، من الافكار والمفاهيم اليمينية المتطرفة والدعوة الى البربرية، وهذا ما يحاول المقال المرور على نماذج منها، مع ادراكنا ان هناك من سينبري بالهجوم على كل من ينتقد نيتشه بحجة عدم ادراكه للمدلولات الرمزية في فلسفته ، رغم وضوحه وصراحته المستفزه.
(لقد جعل الخطأ من الحيوان إنساناً ، فهل سيكون على الحقيقة أن تجعل من الانسان حيواناً جديداً ). . (1)، تلك العبارة المكثفة تفصح عن سر هجوم نيتشه الغاضب من الحداثة ومفاهيم وقيم الثقافة المعاصرة التي أماتت الحيوان بداخلنا، وجعلت من الانسان كائناً رخواً، كما يوحي بذلك عنوان كتابه “إنسان مفرط بأنسانيته”، ( ان هذه الانسانية التي بلغت مستوى راق من التحضر وبالتالي من الفتور أيضاً، مثل اوروبا الحالية، ليست بحاجة الى حرب فقط، بل إلى الحرب الأكبر والأكثر فظاعة، أي عودة مؤقتة الى الهمجية لئلا تقودها وسائل الحضارة الى فقدان حضارتها ووجودها نفسه ) (2)، و يرى نيتشه ان المجتمع العادل والمزدهر يخضع لما يزعم انه قانون الطبيعه، فالطبيعة قد وهبتنا إرادة اقتدار، اي النزوع الغريزي للتفوق والسلطة والسيادة، إلا إننا لم نوهب تلك القدرة بالتساوي ، فهناك دائماً أقلية ممن يمتلكون المواهب والقدرات المعرفية الاستثنائية، أو القوة الجسدية والشجاعة والقدرات القتالية، وهؤلاء يمثلون السادة النبلاء ، أما الاكثرية الباقية فلا تمتلك لا القوة الجسدية ولا المعرفة، وهم الشعب أو العبيد أو بتعبيره “الأراذل”. يعبر نيتشه مثلاً عن اعجابه بقانون المانو الهندي الذي يقسم الناس الى طبقات إجتماعية من الكهنة والمحاربين نزولا الى المنبوذين ( انها الطبيعة وليس مانو التي تفرق في ذاتها بين الرجال المسيطرين عقلياً واولئك المتصفين بالرجولة الجسدية، واولئك الذين لا يملكون شيئاً من هذا ولا من ذلك ، الأراذل. هؤلاء الأخيرون هم الاكثرية بينما الأولون هم المختارون ).(3).
يتكرر تأكيد نيتشه على ضرورة ان تكون المجتمعات مقسمة الى أسياد وعبيد ويحلم أن يكون السيد المعاصر صورة محدثة عن الارستقراطي النبيل ( ليس الناس سواسية، كل إعلاء للطراز المسمى إنساناً كان الآن وسيبقى أبداً من صنع ارستقراطي ما ، بوصفه مجتمعاً يؤمن بسلم طويل من المراتب والقيم بين إنسان وانسان ، مجتمعاً في حاجة الى العبودية بمعنى من المعاني )(4). في مقاله” دولة الاغريق” يقول نيتشه ( اذا كان ما يفترضه البعض أن حضارة الاغريق قد اندثرت بسبب العبودية ، فالأكثر صواباً ان انهاء العبودية كان سبباً لتدهورها)، ويستنتج في نفس المقال ( مثلما العبودية ضرورية للمجتمع فالحروب الدائمة ضرورة للدولة).
يرد كذلك في كتابات نيتشه بشكل متكرر تمجيد الفروسية وعصر الامبراطوريات و الروح الارستقراطية التي تحركها ارادة القوة ، و يتفجر فيها عنفوان النزعات الغريزية، فلا تحدها ما ندعوه اليوم بالعقلانية، أو تقمعها ما تصنفه الحضارة المعاصرة قيم الخير والشر. فالاستقرارطي المقاتل النبيل يحرق القرى و يمزق اعداءه بلا رحمة، ويستعبد سباياه ببراءة المؤمن باهمية وحشيته، لبلوغ مكانة الشرف لنفسه، التي تحفظ في نفس الوقت مجد وعزة امته ( إن الثلة النبيلة كانت في البدء و دوماً ثلة من البرابرة : يكمن تفوقها لا في القوة الجسدية بالدرجة الاولى بل في القوة النفسية، كانوا البشر الأكمل، مما يعني ايضاً إنهم ” الوحوش الأكمل” في كل شيء .)(5), وفي دعوته لتطبيب مرض (نعومة وهشاشة الانسان المعاصر) بشن حرب كبرى ( كدواء) يذكرنا باطراء شعري بخصال النبلاء ( الكراهية اللا شخصية العميقة، تلك الدموية الباردة في القتل بضمير هانئ ، وتلك الحماسة المتقدة المنظمة في تدمير العدو ، تلك اللامبالاة الأنوفه إزاء الخسارات الكبرى وحياة الاصدقاء، وذلك الاهتزاز الذي يرج النفوس مثل زلزال، لا نعرف وسيلة يمكن ان تنجز كل هذا بكل قوة و وثوق مثل ما تفعله حرب كبرى). (6) تلك الأعمال التي نصفها بالوحشية هي جزء من مسؤوليات النبيل لان قيم الأخلاق” اللاأخلاقية” التي كرستها فينا المسيحية و من ثم الحداثة” كالشفقه والتسامح والايثار ” هي دخيلة وغريبة عن ثقافته ، فمن نحن كي نفرض عليه قيمنا الاخلاقية( الارستقراطي النبيل هو من يضفي اولا واخيراً مجداً على الاشياء “إنه خالق القيم”) (7) ولذا فهو لا يشعر بعقدة ذنب أو بالخجل مما يفعل بل بالفخر ، وبالتالي فهو صادق وصريح وبرئ و واثق وسعيد و منسجم مع ذاته ، في المقابل فان العامة ( العبيد) تعساء يشعرون بالكراهية والحسد من سادتهم ،تنامى في نفوسهم الحنق، وهذا ما كان يشكل خطراً على وحدة المجتمع، ويهدد بانتشار العنف، فبادر كهان اليهو- المسيحية لخطف حق السيادة من النبلاء، ولدرء مخاطر إنقسام المجتمع، فكرسوا في نفوس العامة باننا جميعاً نشترك في الخطيئة، التي هي سبب تعاسة العامة ، وبهذا توجهت شحنات الغضب الى داخل النفس مصحوبة بعقدة الذنب ، لتتحول الى حقد ورياء وخداع، و أصبح العامي لشعوره بالذنب غير واثق من نفسه، يلجأ الى الغدر أو الخضوع ، ولم تكتف المؤسسة الدينية بهذا بل (خدعت) العامة بأيهامهم ان لهم حقوق طبيعية كأسيادهم، وقد علمن روسو ذلك المفهوم ثم رسخته حركة الانوار والثورة الفرنسية والاشتراكيون لنبلغ أقصى حالات (التردي مع الديقراطية) ( الديمقراطية هي الشكل الحديث لانحطاط الدولة) (8)
لا يؤمن نيتشه ان للأنسان حقوق طبيعية بل ( على قدر ما للشخص من قوة يكون له من الحقوق أو بصفة أدق : على قدر القوة تكون المصداقية) (9) أما العامة فلهم من الحقوق ما يراه السيد ان من صالحه التكرم بها ( توجد ايضاً حقوق بين العبيد والاسياد اي بحسب القدر الذي تكون فيه ملكية العبيد مفيدة وهامة بالنسبة للسيد). (10)
حسب المنظور النيتشوي اذن، للأسياد وحدهم تعيين ما هو خير وما هو شر، على أساس ما يرون فيه مساراً للرقي وتحقيق منزلة الشرف ، فالأنانية والاستغلال والترهيب قد تكون من معايير الاخلاق الحسنة : ( الأنانية تنتمي الى جوهر النفس النبيلة) (11) ( لا ينتمي الاستغلال الى مجتمع فاسد أو غير كامل أو بدائي ، ينتمي الى جوهر الحي ، بوصفه وظيفة عضوية أساسية، وهو نتيحة لارادة القدرة اياها التي هي بالذات ارادة الحياة) (12) ( الترهيب جزء من العظمة : كفى خداعاً لأنفسنا) (13)
ثقافة الاسياد التي كانت سائدة آنذاك كانت بنظره سبباً لرقي الحضارات الاغريقية والرومانية ، فما الذي حصل؟ ، لقد انتصرت الديانة اليهو_مسيحية للعبيد ( العامة) بتأسيس ثقافة ارتكاسية قادت اوروبا الى انحطاط حضارتها ، فبدل أن تكون قيم التسامح والعطف والايثار والمساواة علامات ضعف وتردي أصبحت الآن من قيم الخير ، وبهذا انتصرت ثقافة العبيد لتنتقم من الاسياد : ( لنسلم بالوقائع ان الشعب انتصر أو العبيد أو القطيع أو ما شئت ان تسمي .. . . يمكن للمرء أن يسمي هذا النصر في ذات الوقت تسميما في الدم فهو قد خلط الاعراق في بعضها البعض ….. ما يهمنا أنه كان تسميما ناجحاً) (14)، وكانت الثورة الفرنسية بنظره انتكاسة لاوربا، اذ خذلت الارستقراطية نفسها بالتخلي عن قيمها(الخلاقة) : ( حين تتخلى ارستقراطية كالارستقرأطيه الفرنسية في بداية الثورة عن امتيازاتها بقرف سام ، وتقدم ذاتها قرباناً على مذبح شعورها الخلقي الجامح ، فان ذلك فساد) (15)…..يتبع
قصي الصافي
الهوامش 🙁 للحلقتين 1,2 )
1-إنسان مفرط في انسانيته ، نيتشه ،فقرة 519
2-نفس المصدر السابق فقرة 477
3-عدو المسيح ، نيتشه ،فقرة 57
4- ما وراء الخير والشر ، نيتشه ،فقرة 277 ص 244
5- نفس المصدر السابق ص 245
6- إنسان مفرط في انسانيته فقرة 477
7- ما وراء الخير والشر فقرة 260
8- الانسان المفرط في انسانيته فقرة 472 ص 331
9- نفس المصدر السابق فقرة 93
10-نعش المصدر السابق ونسي الفقرة
11- ما وراء الخير و الشر فقرة 265 ص 260
12- نفس المصدر السابق فقرة 259 ص 247
13- The will to power, Book IV, paragraph 1028
14- جينولوجيا الأخلاق ، نيتشه ،مقالة 1 فقرة 9 .
15- ما وراء الخير والشر فقرة 258
16- نفس المصدر ص 206
17- نفس المصدر السابق ص 208
18- هكذا تكلم زرادشت ، نيتشه ،ص 48
19- جيولوجيا الأخلاق مقالة 1 فقرة 11
20-The will to power, Book Iv, paragraph 960