أعتقد أن العراقيين أكثر الناس الذين يشعرون بالحنين إلى الماضي، فأغلب من أعرفه يشعر اليوم بالفقدان، والبعض صار يتحدث عن (زمن جميل) مضى كما يفعل أغلب من سبقونا بالسن، فيتذكرون أغاني وذكريات وقصص، وينشرون صوراً عن الماضي، عن بغداد القديمة وعن الموصل والبصرة وغيرها، وعن ملوك العراق وحكامه وساسته ورجالاته، كما نشاهد في الفيسبوك عبر بعض الصفحات الناطقة بإسم “الماضي”.
ولكن هل في ذلك ما يستحق الحنين، وهل حقاً مرّ على العراق زمن جميل؟
لطالما تساءلت : أيحن هؤلاء إلى أيام الفقر، والجوع، والمرض، والجهل، والتخلف؟ أكان ملوكنا وحكامنا وساستنا عادلين ومنصفين حتى نحِنُّ إلى عهودهم؟ أكان ثمة حياة جميلة فيها من اليسر والبحبوحة وفقدناها في غيابهم؟ أكانت ثمة حرية وديمقراطية وإحترام للكرامة الإنسانية؟ أكانت عامة الناس تنال حقوقها بالقسطاس المستقيم؟
هذا الحنين الغريب لطالما اغضبني، وسأتكلم عمّا يخص الحنين لماضي الرؤساء والقادة والملوك، فنجد أن العراقي يحن إلى زمن الملك فيصل الأول وابنه غازي وحفيده فيصل الثاني، ويشيد بعبد الإله “الذي اختير عام 1939 وصياً على العرش بعد مقتل الملك غازي بحادث سيارة، لكون فيصل بن غازي لم يكن يتجاوز السادسة من عمره، ولكونه شقيق الملكة عالية أم فيصل الثاني، وفي عام 1953 اختير ولياً للعرش بعد تتويج فيصل”، ويتأفف على مقتل رئيس الوزراء في عهدهم نوري السعيد “صاحب المراسيم السعيدية سيئة الصيت” ، ويضرب فيهم الأمثال والعبر وينظم الشعر في وصف حكمهم، ويتحسف على شعب غدر بهم!
ثم يعود العراقي فيمجد الزعيم “عبد الكريم قاسم” هذا الرئيس الذي لا أجد اثنان يتكلمون عنه، إلا وأجد تباين كبير في آرائهم حوله، فبعض مادح وبعض قادح. وما هي إلا برهة زمنية فيعود ويتحسر على أيام البعث و”القومچية”، ويتغزل بقوتهم وقبضتهم الحديدية في إدارة الدولة، متناسياً السيل العارم الذي قدم معهم من ظلم واضطهاد وخراب.
العراقي اليوم صريح جداً بحنينه إلى الطغاة، بل يجاهر بمدح نظام صدام التكريتي، ويوجد المقارنات ويستقتل في اثبات وجهة نظره، فبعد سقوط نظام هذا الطاغي الذي عايشنا فترة حكمه المرعبة وزوال حكمه، نلاحظ أن العقل العراقي يقوم باختلاق الحسنات لذلك النظام الذي سقط إلى غير رجعة.
إذن لم هذا الحنين إلى ماضي لم ينصفنا ولم يرحمنا يوماً؟
الحنين الى الماضي نوع من المرض، أو في أحسن حالاته حالة من حالات الدفاع عن النفس إزاء الواقع، وهو ما يسمى في علم النفس بـ(النكوص)، حيث يرتاح الإنسان نفسياً عندما يرجع الى الماضي.
وهنالك نقطة لابد من الالتفات إليها وهي: {ان الناس لم تجد في واقعها أحسن مما مضى فبدأت بالحنين الى الماضي، وهذا أمر خطير، إذ إن العراقي سيعيش في سجن ذكريات عن ماضٍ جميل إختلقه و لم يعشه، مما يؤثر سلباً على حاضره وماضيه، وسيكون رهينة ذلك الماضي}.
نعم كان في ما مضى أمان نسبي، فلم تكن هنالك مفخخات، ولن يكن هنالك عبوات ناسفة، ولا انفلات امني، ولا عصابات علنية، إلى آخره من مظاهر الانحلال الأمني والمجتمعي الذي نشاهده في عراق اليوم ومع الأسف، هذا التراجع الذي سبب خيبة الأمل لدى الشعب العراقي، يتحمله ساسة ما بعد 2003 بالدرجة الأولى، فلقد فشلوا في كنس مخلفات الأنظمة السابقة، بل وجودهم على رأس الحكم صار مشكلة بحد ذاتها وثقل على كاهل العراق والعراقيين
العراقي يؤمن بمبدأ (اكل و وصوص)، وهو مبدأ أناني جداً، ويقوم على فكرة “اللامبالاة وعدم السعي للتغيير الذاتي للشخصية، فهو اتكالي، ودائماً ما يلقي باللائمة على حظه”، لذلك أي كلام عن تغيير الحاضر المرير، والسعي الجاد لايجاد مستقبل مشرق، يجابه بيأس وحنين إلى ماضي أسود يتمنى لو أنه عاش في ظلاله.
أظن علينا أن نتخلص من حالة النوستالجيا هذه، ونفكر بالمستقبل ونعمل من أجله. وللعمل من أجل المستقبل متطلبات كثيرة واستحقاقات كثيرة، وهو مضمون للشعوب وليس للحكام. وللشباب الدور الأكبر في ذلك، فبسواعدنا وتكاتفنا نصنع المستحيل، وبأناملنا الطرية نرسم مستقبلاً قوياً ملؤه [الأمل] .. فلننسى الماضي.. ونحن قادرون.