ليس هناك شك في أن نجاح التجربة الديمقراطية في العراق, كنظام سياسي, قد غير الأرضية التي كانت تطرح عليها, مسألة العلاقة المعقدة بين الدين والدولة؛ فمن الناحية النظرية مثلت الديمقراطية تصورا إيجابيا لهذه العلاقة, قائما على خلق فضاء الحرية السياسية, الذي يتيح لجميع الأطراف والتوجهات ومراكز النفوذ في المجتمع, للمساهمة الفعالة في بناء السلطة, ذلك كله في مقابل التصور السلبي التقليدي للنظرية العلمانية القائمة على فكرة الفصل التام بين الدين والدولة, معتمدة على مبدأ فك الارتباط.
إن الخصوصيات المجتمعية والقيمية التي يتميز بها الشعب العراق, جعلته يخرج عن أغلب المعادلات السياسية التي عمد منظروا السياسة المعاصرة إلى وضعها, فعجز المنظومات الفكرية والفلسفية الغربية من وضع أطر نسقية تنظم العلاقة بين الدين والدولة, دفع هذه المنظومات إلى إصدار قرار (حتمي) يقر بهذا الفصل. في العراق الوضع قد اختلف كثيرا, فنجاح المرجعية الدينية في الــ (التدخل- واللاتدخل) في العملية السياسية, بطريقة ذكية وذات بعد إداري جديد, بعيدا عن المفهوم الوظيفي! تم من خلاله طرح مفهوم العلاقة, بين الدين والدولة بثوبها وحلتها الجديدة.
القوة الناعمة التي اعتمدت عليها المرجعية الدينية في النجف, إعتمدت على أسلوب التصاعد الهادئ, في نبرة المطالبة بالتغيير والإصلاح, وهو أسلوب دبلوماسي نموذجي جديد, يستحق فعلا أن يكون مدرسة مستقلة بذاته؛ لأن المرجعية نجحت بأدوات وطرق بسيطة تمتلكها- بسيطة من حيث عدم امتلاكها لأي جناح من أجنحة السلطة- من أن تغير الكثير من المعادلات, دون الخروج عن أطر النسقية الديمقراطية الحاكمة في البلد!
المظاهرات التي حصلت في العراق, لم تكن عفوية, بل أنها جاءت متناغمة مع منهج التصاعد البطيء, الذي اتبعته المرجعية الدينية, في تصعيد خطابها الإصلاحي, ضد فساد سلطات الدولة ومؤسساتها, إلى درجة وصلت فيها حالة التناغم بين الجمهور وبين المرجعية, بأن يكون كلام المرجعية شعارات ترفع, ومطالبات رسمية تقدم من قبل الجماهير, مع إنصياع عجيب من قبل الحالة العامة للمتظاهرين مع توصيات المرجعية, في ضبط إيقاع المظاهرات, وضبط الحالة الإنفعالية , وفورة الغضب لدى الجمهور في مجملها العام.
كذب من يدعي من السياسيين ورجال الدولة العراقية, بأنه هو صاحب حركة الإصلاح والتغيير, فللمرجعية الذراع الطولى بذلك, وهي من تقود فعلا هذا الإصلاح, بأدواتها البسيطة المعتمدة على ثقة الجمهور بها, وبنزاهتها وبحالتها الأبوية, ومن حَسُنَ وصفُهُ وفِعلُهُ من السياسيين, لا يمكن إعطاءه دور أكبر من دور المنفذ لتوصياتها؛ أما من يريد أن يركب الموجة, ويخلق من نفسه هالة كبيرة, معتبرا نفسه فارس الإصلاح في البلد, محاولا إستهلاك كل سُبل الإنارة والإضاءة, لتسليط الأضواء على نفسه, فهو إما أحمقٌ لم يفهم كيف تسير العملية السياسية في العراق, أو هو نفعي يحاول أن يخلق لنفسه موجة دكتاتورية أخرى, في بلد تحول إلى مصنع كبير لتحطيم الدكتاتوريات .
نسخة منه:
إلى السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي!
*ماجستير فكر سياسي امريكي معاصر- باحث مهتم بالآديولوجيات السياسية المعاصرة.