22 ديسمبر، 2024 9:08 م

نوري باشا السعيد.. ما له.. وما عليه

نوري باشا السعيد.. ما له.. وما عليه

عصبي المزاج.. سريع الغضب.. حاد الطبع.. يمتلك الحذر في الاطمئنان.. والصراحة في الغموض.. والقسوة في خُلق دبلوماسي.. فهو دبلوماسي من الطراز الأول.. كما كان جاداً وحازماً.. دقيقاً في مواعيده.. يحب المقامات والغناء البغدادي.. والأكلات الشعبية.. وكبة السراي.. وكباب اربيل.. والسمك المسكوف.. والقيمر العراقي.. وخبز التنور.. وشربت الزبيب.. والعرق العراقي.

السيرة والتكوين:

ـ تباينت الآراء حول مولد نوري السعيد.. لكن التاريخ الأرجح هو العام 1888 في (تبة الكاوور).. أو تبة الكورد.. الواقعة قرب ساحة الميدان في بغداد.. كان والده سعيد بن صالح طه يعمل موظفا في دائرة الأوقاف العثمانية.. أما والدته فهي فاطمة عبد الرزاق من عشيرة ألبو مفرج.. ويقال إن والده وجده طه كانا من خطباء جامع الأحمدية في الميدان.

ـ وتباينت المصادر في أصل وجذور نوري السعيد.. قسم ترجع أصوله الى الأرومة الكردية.. والقسم الآخر يعود به الى عشيرة القراغول البغدادية.. وآخر الى قبيلة شمر.. فأوجز فالديمار غالمان.. (اخر سفير امريكي في العراق الملكي في كتابه (عراق نوري السعيد).. هذا التباين في كون نوري السعيد “انه كردي المولد.. تركي الثقافة.. عراقي المحنة”

ـ دخل نوري احدى كتاتيب بغداد آنذاك لتعلم القراءة والكتابة وحفظ القران الكريم.. ومن ثم أتم دراسته في المدرسة الرشيدية العسكرية.. ثم الإعدادية العسكرية.. وتوجه العام 1903 الى اسطنبول للدراسة في الكلية الحربية.. وتخرج فيها العام 1906.

ـ عند تخرجه في الكلية الحربية في إسطنبول.. التحق في كلية الأركان.. وقبل أن يتم دراسته فيها شارك في حرب البلقان العام 1912.

ـ في العام ذاته انظم الى جمعية العهد العربية السرية.. ومن ثم التحق في مجموعة ثورية ضد الدول العثمانية بزعامة السيد طالب النقيب.. نقيب اشراف البصرة واول وزير داخلية في الحكومة العراقية الموقتة 1920.

ـ عند سقوط البصرة في أيدي البريطانيين في ٢٣ تشرين الثاني العام ١٩١٤ كان السعيد يرقد في مستشفى الإرساليات الأمريكية لإصابته بمرض التدرن الرئوي.. فألقت القوات البريطانية القبض عليه باعتباره أسير حرب عثماني.. وقامت بعدها بنقله إلى الهند.. الذي بقي فيها حتى كانون الأول /١٩١٥.. لينقل الى القاهرة في نفس العام.. وعمل هناك مع المجموعات التي كانت تعمل تحت راية الشريف حسين ضد الدولة العثمانية.. وبعد انهيار الدولة العثمانية تسلم منصب رئيس أركان جيش الملك فيصل في سورية العام 1918.

ـ العام 1921 عاد الى العراق.. وعين أول رئيسا لأركان الجيش.. في 12 / 2 / 1921 حيث استحدث منصب رئيس اركان الجيش.

ـ كان لبريطانيا اثر في تقرب نوري السعيد من السلطة.. وإشغال مناصب مهمة لان القادة البريطانيين تبين لهم الكفاءة التي يملكها نوري السعيد.. وفي هذا يقول القائد الانكليزي كلاتيون “إن أشخاصاً ثلاثة سيكون لهم شأن في العراق.. وهم: ياسين باشا.. وجعفر العسكري.. ونوري باشا السعيد”.

نشاطه السياسي:

ـ انتمى السعيد إلى الجمعيات السرية التي دعت الى استقلال العراق والعرب عن الدولة العثمانية..

ـ وشارك في الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي العام 1916.

ـ اختير لعضوية المجلس التأسيسي للعراق العام 1920 من قبل الحكومة البريطانية برئاسة المندوب السامي السير بيرسي كوكس.. حيث تشير المراسلات بأن المس بيل (السكرتيرة الشرقية في دار الاعتماد البريطاني ببغداد).. بعد أول لقاء لها بنوري سعيد.. كتبت تقول: “إننا نقف وجهاً لوجه أمام قوة جبارة ومرنة في آن واحد، ينبغي علينا ـ نحن البريطانيون ـ إما أن نعمل يداً بيد معها.. أو نشتبك وإيّاها في صراع عنيف يصعب إحراز النصر فيه”.

ـ أما السفير البريطاني في بغداد بيترسون فيعتقد بأن: “نوري باشا ظلّ لغزاً كبيراً.. لأنه بات بعد العام 1927.. وتحديداً بعد انتحار رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون.. أصبح نوري السعيد صعب الإقناع.. في بلد لم يتعود الإذعان لرجل أو الخضوع لسلطة.. ونوري كان يريد بناء العراق.. رغم كل الدعايات ضده من الحكومات والشعب”.

ـ قضى السعيد أكثر من أربعين عاماً في الجيش والسياسة.. ما بين قائد عسكري.. ووزير للدفاع أو وزير خارجية.. بل ورئيس للوزراء.. وأخيراً رئيسا لوزراء حكومة الاتحاد العربي.. بين العراق والاردن.. الذي تشكلت في شباط / فبراير / 1958.

ـ لم يفكر أن يترك المسؤولية الأولى.. بالرغم من تطور الأوضاع عراقيا وعربيا وعالميا.. وتوسع قادة المعارضة ضد نظام الحكم وضد الإقطاع.

ـ ومدى قدرته في إدارة دفة الحكم وقد بلغ السبعين من عمره.. تلاحقه أمراض عديدة.. فلقي مصرعه وابنه بعد قيام ثورة 14 تموز 1958.

سياسته:

ـ كثيراً ما كان يشترك في المشاجرات والمشاحنات.. لكنه إذا ما أراد الوصول إلى غاية ما أو تكريس سياسة ما.. فإنه لا يثور ولا يتأثر.. بل يتحمل النقد اللاذع من خصومه.. ويتعمد الغموض في أحاديثه.. ويوحي لمخاطبيه عن قصد بإشارات متناقضة أو تنطوي على تفسيرات متعددة.. لا يقرأ الملفات بل يسأل ويستمع جيداً للوصول الى عمق القضية المعنية.

ـ كان ميكافيلياً بالفطرة.. يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة.. كما كان مناوراً.. يعرف كيف يستغل الظروف والمتغيرات ويكرّسها لخدمة أهدافه.. فكان يجيد اختيار ساعته.. كما كان يقتنص الفرص الثمينة لتقوية أوراقه الرابحة.. كان يحب العراق.. وكان مقتنعاً بأن العراق لابد أن يعتمد على دولة كبرى ليردع أعدائه.. فوصف برجل الغرب.

ـ كان عسكرياً.. وسياسياً من قادة العراق.. ومن أساطين السياسة العراقية والعربية.. وعرابها إبان الحكم الملكي.. كان حاضراً في السياسة العراقية في العهد الملكي دوماً.. (سواء كان رئيساً للوزراء.. أو وزيراً للخارجية.. أو وزيراً دفاع.. أو حتى بدون منصب).

عراق نوري السعيد:

ـ تولى نوري السعيد منصب رئاسة الوزراء في العراق 14 مرة (من أول وزارة شكلها في 23 آذار/ مارس 1930 حتى 19 تشرين الثاني / أكتوبر 1932.. واستمر حتى آخر وزارة انتهت في13 ايار1958).. ليصبح رئيساً لوزراء الاتحاد العربي بين الأردن والعراق (14 أيار 1958 ـ 14 تموز 1958).. وكان وزيراً متكرراً في أكثر من وزارة.. حتى لقب بالوزير الدائم.

نوري السعيد.. ما له.. وما عليه!!

ـ هنا اسجل اهم القرارات التي اتخذها السعيد وبالتالي تمثل فكره وسلوكيته وشخصيته.. بشكل نقاط محددة.. لنصل الى الجواب على السؤال المركزي هل هو من جلب المآسي للعراق.. أم ثورة 14 تموز 1958؟

ـ أهم القرارات السياسية التي كان لنوري السعيد دوراً رئيسياً فيها.. وخلقت بعضها ضجات عنيفة:

1ـ دوره في تشكيل حلف بغداد العام 1954.

2ـ دوره في تشكيل الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن في شباط العام 1958.

ـ يعتبر أحد عرابي تأسيس الجامعة العربية.. حيث تنافس مع رئيس وزراء مصر الأسبق مصطفى النحاس على تزعم واستضافة الجامعة العربية في بغداد إلا أنها أقيمت في مصر.

ـ تعريب موظفي كركوك بتوطين الموظفين العرب فيها.. مستخدما أسلوب نقل الموظفين سنويا منها وإليها.. فالموظفون التركمان والأكراد وقسم من العرب كانوا ينقلون سنويا إلى المحافظات الأخرى لقضاء أربعة سنوات خدمة مدنية فيها.. وينقل إلى كركوك موظفون عرب ليقضوا بقية عمرهم الوظيفي والحياتي فيها.

ـ رفضه التام أجراء تغييرات جذرية تتطلبها المرحلة آنذاك.. اهمها:

ـ الانفتاح على العالم خاصة الولايات المتحدة الامريكية.. وتخفيف الارتباط ببريطانيا.

ـ رفضه التام إصلاح الوضع الاقتصادي والاجتماعي.. وتقليص نفوذ النظام الاقطاعي المقيت.

ـ عدم اهتمامه بتظاهرات الجماهير.. وتحقيق مطالبها الاساسية.

ـ تزوير الانتخابات النيابية.. بشتى الطرق.. وغلق الباب امام العناصر الشابة.. واصحاب الافكار التقدمية .. للوصول الى عضوية مجلس النواب.

ـ قناعته ان التظاهرات لن تستطيع قلب نظام الحكم.

ـ عدم التفكير جدياً قيام انقلاب عسكري على الحكم.. في ضوء القيادات العسكرية المؤيدة للحكم.

ـ انشغاله بالتآمر على سورية من اجل ايجاد عرش للأمير عبد الاله.. بعد ان أصبح فيصل ملكاً على العراق.. ما ادى الى ارسال بعض قطعات الجيش الى حدود سورية والاردن.. وهذا حفز الضباط الاحرار بوضع الخطط لأسقاط النظام.. بأية فرصة تسنح لذلك.

ـ أخيرا نقول:

ـ لم يكن نوري السعيد خائناً.. والاعتماد على بريطانيا في دعم بناء العراق.. بل أكثر من ذلك.. فهو رجل بريطانيا في الشرق الاوسط.

ـ كان معادياً للديمقراطية والتطور السلمي التدريجي الذي انتهجه المرحوم فيصل الأول في بداية التأسيس.

ـ لم يتجاوز المرحلة.. واستنفد دوره.. لذا كان عليه أن يتنحَّ ليفسح المجال للجيل الجديد.. لكنه رفض.. لذلك جلب على نفسه وعلى العراق البلاء.

ـ يرى البعض إنه لو قام نوري السعيد بانقلاب على زميله فاضل الجمالي العام 1954.. لسار العراق على نهج الأردن.. دون هزات سياسية كارثية.. ولما حصل ما حصل.

سلبياته:

1ـ كان أنانياً متمسكاً بالسلطة إلى آخر نفس.

2 ـ طائفيته:

ـ يقول كامل الجادرجي.. رئيس الحزب الوطني الديمقراطي: “إن نوري السعيد كان يريد أن يجعل من أبناء الجنوب الشيعة عمالاً ماهرين.. ومن أبناء السنة خريجي جامعات”.. المصدر: (رفعت الجادرجي. صورة أب. ص ١١٦).

ـ كانت مناطق الجنوب يمثلها نواب.. تعين الحكومة نصفهم من (السنة).. والذين لم يسبق لهم زيارة تلك المناطق.. أو ربما كانوا لا يعرفون أين تقع”.

ـ “كان الأمر سيبدو اقل فجاجة.. لو إن الحكومة عينت ـ لمرة واحدة فقط ـ نائبا شيعياً ليمثل منطقة سنية”.. (عبد الكريم الأزري ص ١١٠ ـ ١٢٢).

ـ يقول الملك فيصل الأول مؤسس الدولة العراقية: “العراق مملكة تحكمها حكومة سنية.. تحكم قسما كردياً.. وأكثرية شيعية”.. (المصدر: عبد الرحمن ألبزازـ العراق من الاحتلال الى الاستقلال.. ص ٢٣١).

ـ ويعلق عبد الله النفيسي قائلاً: “لو إن الشيعة إعطوا قسطاً أوفر من المشاركة في الحكومة لكان في الإمكان تجنب الكثير من الخيارات المرة.. وكثير من الاضطرابات الدامية”.. (المصدر: حسن العلوي ـ الشيعة والدولة القومية ص ١٥٠)

حقيقة مصرعه:

ـ حال وصول قوات الثورة في فجر يوم 14 تموز الى قصره.. استطاع الباشا الهرب ونقله بلام كان صدفة خلف بيته في النهر.

ـ حيث يقول شاهدنا كهلاً حافي القدمين يتقدم نحونا.. ويقول حسون العيسى صاحب البلم: (شهرً الكهل المسدس بوجهنا وصاح بوجهي (بلام.. بلام.. يا الله عبرني ذلك الصوب).. (أي إلى جهة الرصافة).. فصعدتُ أنا وأخي معه إلى الزورق.. وطلبً منا تغطيته بشباك الصيد.. وعندما توسط الزورق بهم النهر.

ـ يبدو إن السعيد خشيً من الناس المتجمهرة بالجهة المقابلة فطلبً من صاحبي الزورق العودة.. وإيصاله إلى بيت صبيح الخضيري.. وعندما وصوله إلى بيت الخضيري

تركً نوري السعيد الزورق واستقبله مرتضى البصام المحامي.. وسأله السعيد عما استجدً من أخبار.. فاخبره مرتضى إن الجيش شكلً وزارة جديدة.

ـ يقول صالح البصام في مذكراته: (كانت ساعات عصيبة وجود السعيد عندنا حيث كانت القوات تفتش عنه.. فطلبً السعيد إيصاله إلى بيت الحاج محمود الأسترابادي في منطقة الكاظمية).. فمحمود الأسترابادي هو من أصدقاء نوري السعيد.

الاختفاء:

ـ المهم تم إخفاء نوري السعيد في صندوق السيارة الخلفي.. وتوجهت السيارة إلى الصالحية فالكاظمية.. والى محلة القطان بالذات حيث دار الأسترابادي.. أمضى السعيد ليلته تلك في بيت الأسترابادي.

ـ تقول عائلة الأسترابادي: إن السعيد كان يحمل راديو ترانزستور صغيراً يستمع به إلى الأخبار والأحداث.. وكل مدة قصيرة يصعد إلى السطح ليشاهد هل هناك طائرات بريطانية أو عراقية تحلق لإجهاض الثورة !!

ـ وفي اليوم نفسه أصدرت حكومة الثورة بياناً تدعو فيه الشعب إلى إلقاء القبض على نوري السعيد حياً أو ميتاً.. ووضعت جائزة مقدارها عشرة ألاف دينار لقاء ذلك.

محاولة الهروب خارج العراق:

ـ المهم غادر نوري السعيد بيت الأسترابادي متنكراً بزي امرأة في الساعة الثانية وخمس وأربعين دقيقة من ظهر اليوم التالي (15 تموز) تقله السيارة السوداء المرقمة 1585 بغداد نوع شوفرليت حديثة.. العائدة إلى الحاج محمود الأسترابادي تصحبه زوجة الأسترابادي (60) سنة.. وخادمتها زهرة حيدر.. وكان يسوق السيارة السائق كاظم عمارة.

ـ لندع السائق كاظم عمارة يتحدث عن هذه الواقعة قائلاً: (طلبت مني زوجة الأسترابادي الخروج من بغداد والذهاب إلى بيت الشيخ فارس الجريان (أحد شيوخ ألبو سلطان ـ من قبيلة الزبيدـ المعروفة في مدينة الحلة.

ـ في الطريق وإثناء ما كنتُ أسوق السيارة تعرفتُ على نوري السعيد الذي كان جالساً على المقعد الخلفي للسيارة.. تعرفتُ عليه من خلال مرآة السيارة التي أمامي.. وقد تنبه نوري لذلك فقال ليً: (اسمع ابني كاظم أني عندي ولد واحد اسمه صباح.. فإذا نجوت من هذه المحنة سيكون لي ولدان صباح وكاظم.. وعند وصول السيارة إلى منطقة أبو غريب شاهدوا ثلة من الجنود يحققون في هويات الخارجين والداخلين من والى بغداد.. ويضيف عمارة قائلاً: (طلبوا مني العودة إلى بغداد حيث أوصلتهم إلى بيت بنت الأسترابادي زوجة هاشم جعفر شقيق الوزير السابق ضياء جعفر).

ـ حال دخولهم البيت شاهد نوري السعيد عمر بن هاشم جعفر خارجاً من البيت.. فخرج السعيد ومن معه فوراَ من البيت.

ـ فعلاً كان حدس السعيد بعمر صحيحاً.. فقد ذهب عمر مباشرة إلى وزارة الدفاع.. وقابل قائد الثورة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم واْبلغه إن نوري السعيد موجود في بيتهم.. فذهبت مفرزة من الانضباط العسكري إلى بيتهم.. وبالطبع لم تجد السعيد.. (يذكر إن عمر حصل على الجائزة المخصصة لإلقاء القبض على نوري السعيد بحصوله على بعثة دراسية في لندن على نفقة الحكومة بناء على طلبه).

ـ المهم بعد خروج السعيد والنسوة سار الثلاثة في شوارع منطقة البتاويين سيراً على الأقدام بأمل الوصول إلى بيت الشيخ محمد العريبي (شيخ عشيرة ألبو محمد) في مدينة العمارة.. وهو أحد أعضاء مجلس الأعيان.. والذي يقع بيته في المنطقة نفسها.. لكنه من الجهة القريبة من قصر الأبيض.. حيث كان هَمْ نوري السعيد مغادرة العراق.. لهذا فكرً في الذهاب إلى بيت محمد العريبي الذي يستطيع تهريبه إلى مدينة العمارة المحاذية لإيران.. وسيكون من السهل الوصول إلى إيران التي كانت آنذاك عضواً في حلف بغداد.

ـ كان بيتنا (أنا د. هادي حسن عليوي.. كاتب هذه الدراسة) في منطقة البتاويين في الفرع المجاور لسينما أطلس حالياً.. وكان عمري آنذاك 18 سنة.. واذكر إنني كنتُ واقفاً أمام دارنا.. وامسك بيدي خرطوش الماء (الصوندة) لرش الشارع بالماء.

ـ وإذا بثلاث نسوة محجبات بحجاب وجه مررنً من أمامي.. فأخفضت فوهة (الصوندة) لإفساح الطريق لهن.. واستغربتُ بادئ الأمر لأنه لا توجد في شارعنا بل في منطقتنا نسوة محجبات.. بعدها قلتُ ونفسي لعلهن جئنً ضيوفاً إلى بيت جميل الخاصكي الذي يقع في شارعنا من جهة شارع أبو نؤاس.

ـ المهم إن (النسوة) عبرنً شارع السعدون إلى الجهة المقابلة.. وما هي إلا ربع ساعة.. وإذا بصوت إطلاقة مسدس.. فأسرعتُ أنا صوب مكان الإطلاق.. وأثناء الطريق سمعت ثلاث إطلاقات أخرى.. وعند وصولي المكان (خلف مدرسة البتاويين الأولى الابتدائية للبنين).. وجدتُ نوري السعيد متمدداً على الأرض.. وما هي إلا لحظات حتى فاضت روحه.

ـ نعود قليلاً إلى الوراء: كيف قضى نوري السعيد الربع ساعة دون الوصول إلى بيت الشيخ محمد العريبي؟ الذي لا يبعد عن بيتنا خمس دقائق سيراً على الأقدام.

ـ الظاهر إن نوري السعيد والمرأتين معه لم يكونوا يعرفون بالضبط مكان بيت محمد العريبي.. وكان الحرُ شديداً وأبواب أكثر البيوت موصدة.. إضافة إلى تخوف المرأتين من الاستفسار من أي شخص.. وبعد أن فقدوا أملهم وجدوا طفلاً في نهاية الشارع الذي تقع فيه المدرسة فسألوه عن بيت الشيخ محمد العريبي.

ـ كان اسم الطفل ليث وأبوه خضير صالح السامرائي عريف في القوة الجوية في معسكر الرشيد.. الذي جاء إلى بيته قبل ساعتين.. ويروم الالتحاق بوحدته لوجود إنذار في الجيش.

ـ ولما سمعً الأب النسوة.. خرج الى الباب وردً بسخرية: (بابا وين بقى شيوخ.. الثورة سحقت الإقطاع وكل الخونة).. ويبدو إن نوري السعيد لم يتحمل كلامه فرفعُ العباءة قليلاً من وجهه.. فإذا بليث يصيح بأعلى صوته: (بابا هذا رجال !!).. وهكذا انكشف أمره.

مصرعه:

ـ لنستمع إلى أقوال خضير صالح السامرائي قاتل نوري السعيد.. حيث يقول: (وعلى الفور.. سحبً الرجل الذي عرفته انه نوري السعيد مسدسه.. وأطلق عيارتين الى الأعلى لتخويفي.. لكنني هجمتُ عليه وانتزعتُ منه المسدس وأطلقتُ رصاصتين نحوه.. الأولى أصابتهُ في أعلى صدغه، خدش بسيط.. والثانية لم تصبه.

ـ كان السعيد خلال فترة اختفائه التي تجاوزت 36 ساعة لم يأكل شيئاً.. ولم ينم.. فسقط على الأرض.. وفرت الخادمة زهرة إلى نهاية الشارع لتدخل بيت أستاذ سليم (معلم.. لا أتذكر اسم أبيه).. وتحمل معها حقيبة متوسطة الحجم.

ـ في تلك اللحظات جاءت سيارة بيكاب محملة بالرقي.. ويركب في مقدمتها عبد بائع الرقي في المنطقة.. الذي نزل مسرعاً حاملاً سكينته.. وما أن وصل إلى جثة نوري السعيد حتى طعنه عدة طعنات.. وركض إلى زوجة الأسترابادي وأجهز عليها بسكينته.

ـ أما الخادمة زهرة حيدر فتحدثت عن الحادثة أمام المجلس العرفي العسكري حيث قالت: كنتُ احملُ حقيبة متوسطة الحجم تعود لنوري السعيد.. ولا اعلم بمحتوياتها.. وعندما اختفيتُ في بيت المعلم سليم عند إطلاق النار.. لا أعرف أين وضعتها ؟

ـ الحقيقة إن المعلم سليم لا دخل له سوى راتبه الشهري الذي يعيش عليه.. لكن بعد ستة أشهر على هذه الحادثة اشترى داراً في المنطقة وسيارة وأثاثاً جديداً وأموره المالية تحسنت!!

ـ المهم: ما أن لفظ نوري السعيد أنفاسه حتى مرت لحظات صمت.. اخترقه صوت إطلاق نار من رشاش ضابط جاء يركض إلى مكان الحادث.. وحال وصوله استعد أبو ليث للضباط الذي تبين فيما بعد انه المقدم وصفي طاهر.. والذي افرغ ما تبقى برشاشته في الجثة.

ـ بعدها نظرً وصفي طاهر الى الواقفين حول الجثة خمسة أشخاص.. هم: (أبو ليث.. واحمد الحاج عبد الأمير الزبيدي.. وجابر شكري.. ويوسف السامرائي ـ صهر أبو ليث.. وأنا هادي حسن عليوي).

ـ طلبً وصفي من أبو ليث جلب الجثة إلى ساحة النصر القريبة من مكان الحادث.. وركض وصفي متوجهاً إلى تلك الساحة.. وفي الوقت ذاته حضرت سيارة عسكرية ستشين نوع شوفرليت.. حملت جثة بيبيه قطب (زوجة الأسترابادي).. وذهبت إلى بيت المعلم سليم.. حيث تجمهر عدد من سكان الشارع.. واخرجوا الخادمة من البيت وأشبعوها ضرباً وشتماً.. وادخلوها في السيارة التي انطلقت بسرعة!!

جثة نوري السعيد:

ـ أما جثة نوري السعيد فقد تم سحبها من قبل أبو ليث وشخص آخر إلى ساحة النصر.. ونحن نسير خلفه.. حيث كان المقدم وصفي بانتظارها.. وما هي إلا لحظات وإذا بسيارة عسكرية تقف ليضع وصفي طاهر الجثة فيها.. وينطلق بأقصى سرعته إلى وزارة الدفاع التي كان يتواجد فيها الزعيم الركن عبد الكريم قاسم.

ـ بعد أن تأكد عبد الكريم قاسم ومن معه من شخص نوري السعيد ووفاته.. أمر بأن ينقل جثمانه إلى المستشفى.. ثم الطب العدلي لاستكمال الإجراءات الأصولية لدفنه في المقبرة المجاورة للطب العدلي.

التمثيل في الجثة:

ـ في فجر اليوم الثاني ذهبًت ثلة من الأشخاص ونبشوا القبر وأخرجوا جثة نوري السعيد وربطوها بحبل.. وأخذوا يسحلونها باتجاه باب المعظم فشارع الملك غازي.. ثم شارع النضال حتى القصر الأبيض.. ليعودوا من الشارع الخلفي لوزارة التعليم العالي سابقاً.. توقفوا عند مديرية المساحة العامة.. قرب محطة وقود الكيلاني.

ـ لم يشبعوا من كل ما قاموا به.. بل جلبوا بنزين من المحطة وصبوه على الجثة وأحرقوها عصر يوم الأربعاء 16 تموز.. وكلما خفت النار يجلبون بنزين ويصبوه على الجثة لتشتعل من جديد.. واستمر الحال الى ساعة متأخرة من الليل لتتفتت العظام وتصبح رماداً اسوداً.

ـ خمدت النار فيها.. ولم يبقى أحداً.. يقال إن أحد المارين جمعً ما تبقى من رماد وأشلاء في كيس وحملها الى الكاظمية.. حيث تم دفنها في جانب من مقبرة السيد حسين السيد يونس.. حسبما ذكره عبد الهادي الجلبي فيما بعد حينما التقى بهذا بالرجل.

مصادرة أمواله:

ـ بعد ثورة 14 تموز 1958 تقرر مصادرة أموال أقطاب النظام الملكي.. وتم جرد أملاك رجال العهد الملكي.

ـ لم يجدوا عند نوري السعيد إلا داره التي يسكنها حتى 14 تموز 1958.. وقد تأكد للجنة المصادرة إن الأرض التي شيد عليها نوري السعيد داره هذه تعود لزوجته نعيمة العسكري.. ولا يمكن قانوناً مصادرتها.. وفي 27 تموز 1958 فتح داره ليدخلها المواطنون بعد أن تبعثرت محتوياتها.

ـ العام 1955 أعلن لواء (محافظة الأنبار) عن بيع بالمزاد العلني قطع أراضي ل100 دونم.. وقد شارك السعيد بالمزاد ورست عليه إحدى هذه القطع بأغلى الأسعار وسجلت باسمه.. وكان آنذاك خارج الحكم.. لكنه لم يستثمرها حتى مصرعه.. وتم مصادرتها حسب القانون.

ـ امتلك السعيد بحلول العام 1958 ومن خلال استخدام النفوذ.. وعلى ما يبدو سندات أرض قيمة مساحتها 9294 دونماً.. (المصدر: العراق/ الكتاب الأول، حنا بطاطو. ص 392-393).

املاكه السابقة:

ـ كان لنوري بيتاً بناه في الثلاثينات من القرن الماضي..” فيما يبدو من حصته في مبلغ 25000 جنيه إسترليني.. وزعها أصحاب الامتيازات الأصليون في ال B.O.D التي هي عبارة عن تجمع لشركات نفط بريطانية.. وشيد على أرض أميرية.

ـ باع هذا البيت العام 1952 إلى السفارة المصرية ب32000 دينار.. والمشغولة حالياً من قبل كلية الفنون الجميلة.

ـ البيت الثاني كان فخماً على دجلة في كرادة مريم.. وتكفلت الشركة التي قامت ببناء مجلس النواب بنائها.. وأضيف على التكاليف بناء المجلس المذكور ويبدو انه سجلها باسم زوجته.. ولهذا لم تستطع حكومة ثورة 14 تموز 1958 من مصادرته.

ـ سكن نوري السعيد ولفترة طويلة في دار ولده صباح.. الذي كان يشغل إحدى الدور العائدة لمديرية السكك في الصالحية.. باعتبار ولده كان مديراً عام دائرة السكك الحديدية.

ـ أخذ السعيد (هدية) رشوة من شركة نفط العراق.. (بطاطو ص ٣٩٢ ).

ـ استخدم السعيد ميزانية الدولة لأغراضه الشخصية.. (القيسي ص ١٧٢).

ـ كان السعيد عندما يرشح لرئاسة الوزارة يشترط أن يكون وزيراً للدفاع أيضاً.. حتى يستطيع إقامة الدعوات والحفلات وغيرها.. فمخصصات هذه الوزارة مفتوحة.. فضلا عن فساد ابنه صباح.. (بطاطو ص ٣٩٢).

سياسته: ما له.. وما عليه!!

ـ هنا اسجل اهم القرارات التي اتخذها السعيد وبالتالي تمثل فكره وسلوكيته وشخصيته.. بشكل نقاط محددة.. لنصل الى الجواب على السؤال المركزي هل هو من جلب المآسي للعراق.. ام ثورة 14 تموز 1958؟

ـ أهم القرارات السياسية التي كان لنوري السعيد دوراً رئيسياً فيها.. وخلقت بعضها ضجات عنيفة:

1ـ دوره في تشكيل حلف بغداد العام 1954.

2ـ دوره في تشكيل الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن في شباط العام 1958.

ـ رفضه التام أجراء تغييرات جذرية تتطلبها المرحلة آنذاك.. اهمها:

ـ الانفتاح على العالم.. خاصة الولايات المتحدة الامريكية.. وتخفيف الارتباط ببريطانيا.

ـ رفضه إصلاح الوضع الاقتصادي والاجتماعي.. وتقليص نفوذ النظام الاقطاعي المقيت.

ـ عدم اهتمامه بتظاهرات الجماهير.. وتحقيق مطالبها الاساسية.

ـ تزوير الانتخابات النيابية.. بشتى الطرق.. وغلق الباب امام العناصر الشابة.. واصحاب الافكار التقدمية.. للوصول الى عضوية مجلس النواب.

ـ قناعته ان التظاهرات لن تستطيع قلب نظام الحكم.

ـ عدم التفكير جدياً بقيام انقلاب عسكري على الحكم.. في ضوء القيادات العسكرية المؤيدة للحكم.

ـ انشغاله بالتآمر على سورية من اجل ايجاد عرش للأمير عبد الاله.. بعد ان أصبح فيصل ملكاً على العراق.. ما ادى الى ارسال بعض قطعات الجيش الى حدود سورية والاردن.. وهذا حفز الضباط الاحرار بوضع الخطط لأسقاط النظام.. بأية فرصة تسنح لذلك.

ـ أخيرا نقول:

ـ لم يكن نوري السعيد خائناً.. لكنه يمثل العقلية في الاصرار في التحالف مع دولة كبرى هي بريطانيا.. على الرغم من تغيير الاوضاع وبروز امريكا دولة كبرى لم يستفد منها في تقليل القيود البريطانية على العراق.

ـ مشكلته أنه كان أنانياً متمسكاً بالسلطة إلى آخر نفس.

ـ ومعادياً للديمقراطية والتطور السلمي التدريجي الذي انتهجه المرحوم فيصل الأول في بداية التأسيس.

ـ تجاوز العراق المرحلة آنذاك.. ولم يستفد من التغيير.. لذا كان عليه أن يتنحَّ ليفسح المجال للجيل الجديد.. لكنه رفض.. لذلك جلب على نفسه وعلى العراق البلاء.

ـ يرى البعض لو قام نوري السعيد بانقلاب على زميله فاضل الجمالي ذو التوجهات الامريكية العام 1954.. لسار العراق على نهج الأردن.. دون هزات سياسية كارثية.. ولما حصل.. ما حصل.