تكتسب الأحزاب والحركات أصالتها من رجالها ، ونجاحها وفشلها انعكاس لنبل وخسة أولئك الرجال ، ولرب حزب يعيش صراعا مريرا وظروفا قاسية لكنه يمسك بتلابيب المجد ويعض بنواجزه بسلم الخلود ، وآخر تأتيه الدنيا صاغرة وتفتح له أبواب الدنيا ، أموالاً وسلطة وقوة لكنه خسيس رخيص أشبه بفقاعة تنتظر لحظات تشظيها ، تاركا في قلوب الأمة ذكرى نتنة من الإحباط وخيبة الأمل . أمثلة سجلها لنا التاريخ وأخرى نراها اليوم .
ويبدو أن نوري المالكي قد ألف الخروج على المألوف في سني حياته السياسية بعد 2003 ، وأنا لا ألومه فالرجل قد اصيب بانتفاخ ذاتي غير معهود عندما هبطت عليه الدنيا بما تمتلك من كنوز وزخرف وأصبح رئيسا لوزراء أهم وأخطر بلد في الشرق الأوسط ، ومما زاد من انتفاخ أوداجه وغطرسته أن رموز حزبه ، مالوا لجبهته عندما تقلد المنصب الأهم الذي يوفر لهم دنيا هارون الرشيد ، وكما كان مشهد امين الحزب السابق الدكتور ابراهيم الجعفري يدعو إلى الشفقة عندما خلف وحيدا في انتخابات الحزب سنة 2006 ، فضيع رفاق الأمس مع ضياع المنصب الأهم ، لقد كان تحول كامل شخصيات حزب الدعوة من الجعفري الى المالكي مع تحول رئاسة الوزراء من الأول إلى الثاني ، كانت أول نكتة سوداء في تاريخ حزب الدعوة توسعت هذه النكتة في جسد الدعوة حتى رانت على كل شيء فيه ، فكان مؤشرا كبيرا على أن القوم كانوا يفتشون في ركام العصر الجديد عن مصالحهم ودنياهم بعيدا كل البعد عن هموم ومصلحة الأمة والوطن وهذا ما أكدته السنون والأيام بشكل واضح .
نوري المالكي وبعد أن أبعد عن منصب رئاسة الوزراء صاغرا مرغما ، تذكر فجأة وبعد أن ذهبت عن رأسه سكرة المنصب الكبير أنه يقود حزب وهو الأمين عليه ، وأن ذلك الحزب قد أصبح تنعق في خرائبه الغربان ، ممزق الأوصال أجوف فقد مصداقيته بين أوساط الأمة ، وأن جسمه الغض الطري قد أصبح مليئا بدماميل لاتعد ولا تحصى ، ويصعب فقأها ، فتلك الدمامل قد شوهت الحزب وجعلته أكثر قبحا في عيون الوطن والأمة . فالحزب الذي كان لايقبل في صفوفه خلال الثلاث عقود الأولى من عمره إلا المؤمنين الشرفاء المخلصين لله والوطن ممن لاتفوتهم صلاة الليل ولايكلون من خدمة الفقراء والمساكين وتقديم أرواحهم فداءا للدين والوطن ، أصبح في العقد الأخير واحة تنبت فيها كل أنواع الأحراش والنباتات السامة كريهة المنظر والرائحة ، اصبح مقهى يشغل أوساطها المدخنون والشاربون الحرام والممارسون له ، والانتهازيون والوصوليون بعثيون وليبراليون ، وطبيعي أن مكانا موبوءا كهذا يعافه المؤمنون والشرفاء واصحاب التاريخ العريق المشرف .
هكذا وجد نوري المالكي حزبه بعد أن افاق من سكرته أخيرا ، وبعقل لم تزل فيها آثار الثمالة طفق يفكر في المراجعة والإصلاح ، يفكر في معالجة جسد هامد خلاياه بنيت من السحت الحرام وسرقة المال العام ، يريد أن يبعث الحياة في حزب دخل في موت سريري منذ عدة سنوات .
يتكلم نوري المالكي عن اشياء فقدها الحزب منذ أمد وليس في وسع أحد أن يعيدها إليه فقد تجاوز قطار الحزب محطات الإصلاح عندما ترجل أمينه والمحيطون به عن قطار الوطن وركبوا عربة الدنيا الفارهة ، فأي اسس وثوابت ايمانية وفكرية وسياسية وتنظيمية يعنيها المالكي في مقاله ؟ ، وهل بقيت فعلا لحزب الدعوة مثل تلك المفاهيم بعد ثمان سنوات من التخبط الأعمى في السياسة والطعن الأهوج في الثوابت الإيمانية والفكرية ، وهل حقا ثمة بقايا في عقل المالكي وأعضاء حزبه لمثل تلك الثوابت كي يتم الإنسجام معها وإعادة تبنيها من جديد بعد تلك القطيعة الطويلة الظالمة ، والاستخفاف الشيطاني لها بعد ان استحوذت الدنيا بكل امتيازاتها وزخرفها على مشاعر القوم وهمومهم ؟ لقد فقدت الدعوة ماهيتها ونظريتها التي يتحدث عنها المالكي منذ زمن بعيد عندما استبدل الحزب بالسلطة ، وعندما أصر على التمسك بتلابيب تلك السلطة ، ولأن ثمة فرق كبير بين الأثنين اشبه بالفرق بين الموت والحياة ، فإن العودة اصبحت شبه مستحيلة ، فالسلطة لدى المالكي وكما رأيناه بالفعل هي التسلط على مقدرات الناس وأموالهم وحرياتهم وممتلكاتهم والعبث بحقوقهم وسلبها والاستعلاء عليهم واحتقارهم والتحايل بكل وسيلة لسرقة اصواتهم وقناعاتهم ، وكل ذلك فعلها المالكي بجدارة كبيرة وهمة عالية ، أما الحزب وكما ينبغي له أن يكون هو الدفاع عن الأمة وفقرائها والتواضع لها وانتشالها من الفقر وعمل المستحيل من أجل توعيتها ، والأخذ بيدها نحو المجد والرقي والازدهار ، وهذا مالم يحصل في زمن المالكي وحزبه طيلة سنوات حكمه . لقد قضت هذه السنوات تماما على ما يدعيه المالكي من أي نظرية محددة أو ثوابت للحزب ، أما الحديث عن فلسفة ما للحزب وكما ورد في مقال المالكي فإن ذلك لايعدوا أن يكون نكتة يطلقها الرجل في مأتم ، فكلنا يعلم أن الفلسفة أو من يضع أحدى نظرياتها لآبد وأن يكون قد غار في غمارها ، ونحن نعلم أن المالكي ليس من أهلها ولا أحد من حزبه يفقهها ، وأنه وطيلة العقبة الماضية قد انهمك في تطبيق نظرية ( ما ) قد أعدت فقط لتكريس وجوده في السلطة بأي ثمن .
من الغرائب التي لانستبعد ورودها عن شخص كالمالكي هو التناقض الصارخ بين القول والممارسة ، وهذا ما وجدناه في مقاله الأخير ، فالرجل يتحدث عن أحد مقومات مراجعة أخطاء الحزب والمدخل لتلك المراجعة ، إنها محاسبة النفس ، ويخبرنا المالكي أن ذلك مبدأ اسلامي وأن الحزب قد وضعه كأحد أساليبه في التصحيح ، وليت شعري ، أحقا عمل المالكي وحزبه بهذا المبدأ الإنساني الشرعي ، ولو أنه فعلاً مارسه في فترة حكمه هل وصل العراق لما وصل إليه من تخلف وهو يعلم أن حزب الدعوة قد وضع أقدام العراق على عتبة طريق مجهول بسبب الكثير من الحماقات ، فعن أي محاسبة يتكلم الرجل وهو الذي عرف عنه غطرسة قل مثيلها وتفرد في القرار بل هناك ما لايحصى من المثالب التي ارتكبت بحق الأمة أولها أنه فتح الأبواب مشرعة لسرقة المال العام ، ودعني أذكر بأول خطوة قاتلة ارتكبها المالكي بحق الشعب العراقي عندما اطلق سراح أول وزير سارق من حزب الدعوة وهو عبد الفلاح السوداني ثم هيأ له الهروب من العراق ، لقد فتح المالكي بهذا الحادث الأبواب مشرعة لكل السارقين من بعده ، ولو أن المالكي يفكر بمصالح الناس ومستقبل العراق حقا ، لما جعل من قضية السوداني عرفا يباح من خلاله المال العام ، ولو أنه حقا يمتلك القابلية للحديث مع نفسه ومحاسبتها والتفكير بعواقب ما يفعله ، لكان تعامله مع أول سرقة كبيرة في العراق تعاملا صارما يكون عبرة لمن يريد أن يسرق لاحقا ، ولو أنه ترك القضاء يتعامل مع السرقات دون أن يتدخل لما كانت هناك سرقات بهذا الحجم ، حيث انهكت العراق وشعبه وكرست مظاهر الفقر والتخلف ، لكنه ومن أجل مصالحه الشخصية والحزبية قد أهان القضاء وأهان شعبه وفتح شهية السراق ليشاركهم في هذه الجرائم التاريخية .
لم أر رسالة فيها من المجانبة للواقع والتخاصم معه مثل ما قرأت في رسالة المالكي ، وكل سطر فيها بحاجة إلى مقال طويل لفك الإشكالات الأخلاقية التي وردت فيه ، وأنا اعتقد أن الرجل بدأ يستشعر حجم الكارثة التي كان سبب فيها لحزبه وللوطن ، ولم يجد ما يعالج فيها تلك الكوارث غير التحليق في عالم الخيال ومحاولة خلق حلول وهمية ، ومما ورد في هذا المضمار ادعائه أن حزب الدعوة مارس فعلاً عملية المراجعة من أجل الإصلاح ، في بعض المؤتمرات ، لكنه يعترف ضمنا أنه لم يحقق شيئا ، ويسوق سببا لذلك الإخفاق أن الحزب كان مشغولاً بمواجهة التحديات السياسية . نعم إن المالكي بهذا الإعتراف يدين حزب الدعوة ويدين نفسه ، لأن حزب الدعوة وهو يهرع صوب السلطة ويرتمي بأحضانها ، سوف لن يكون بوسعه أن يمارس دوره بين الأمة كحزب اسلامي صاحب مباديء انسانية نبيلة ، وخاصة أنه وعند سقوط النظام البعثي سنة 2003 ، كان الحزب لم يمتلك أي رؤية أو نظرية للحكم ، وما كان يمتلك أيضا أي منهج واضح للعمل بين أوساط الأمة ، كحزب مربي يتصف بنكران الذات ويحمل هموم الفقراء والمساكين ، لقد كان حزب الدعوة مجرد اشخاص موزعين على بعض عواصم الدول كطهران ودمشق ولندن وأفراد هنا وهناك ، والتقوا في البيت الشيعي في النجف وبغداد مع الكتل الأخرى ، وكان كل التفكير شأنهم شأن الكتل الأخرى مشغولاً بتوزيع المناصب الحكومية ، لقد كان سباقا حقيقيا على الدنيا ، لقد غاب عن عقول شخصيات حزب الدعوة أي شيء غير التسلق لمواقع متقدمة في رأس هرم السلطة ، أما الأمة فقد نسيت تماما ونسي الدعاة مسؤولية تربية الأمة والعمل بين أوساطها لأنقاذها من ركام التخلف والفقر الذي ورثته من سنوات البعث العجاف .
لقد نسي المالكي ومن قبله الجعفري ورفاقهما في المكتب السياسي تماما المباديء الأساسية التي كتبها لهم الشهيد محمد هادي السبيتي والشهيد عز الدين سليم وبعض مفكري ومنظري الدعوة ، والتي فرضت على الدعوة أن تبدأ اجتماعيا وأن لا تفكر بالسلطة في الوقت الحاضر ، فالشعب العراقي عاش وضعا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا استثنائيا لايمكن أن يعالج بعمل اصلاحي جزئي ، بل لابد من عمل تغييري شامل ، يعيد صياغة الفرد والمجتمع ، فنفهم من ذلك أن المبدأ الأساسي الذي يتكلم عنه المالكي في مقاله هو ليس القفز على السلطة والدخول في سباق محموم من أجلها ، وأنما المبدأ الأساسي هو التغيير الإجتماعي بكل أبعاده ، وقد وردت هذه المعاني المهمة في ثقافة الدعوة في أحدى وثائق الحزب المكتوبة ، وانقلها للقاري الكريم :
أ – المرحلة الفكرية (التغييرية ) ، وهي مرحلـة البناء والتغيير التي يبنى فيها الفكر والدعاة والأمة ، بناء إسلامياً يؤهل للانتقال إلى المرحلة الثانية و السياسية.
ب- المرحلة السياسية : وهي مرحلة العمل السياسي التي تنتقل بها الدعوة من المرحلة التغييرية ، بعد أن جازت مرحلـة البناء الفـكري وإعـداد الدعاة ، وتوعية الأمة وتثقيـفها بالثقـافة الإسلامية ، لتصبح قادرة على خوض عملية الصراع السياسي .
ج- مرحلة إقامــة الدولة وتطبيق النظام والشريعة الإسلامية .
ولو أردنا أن نسقط تلك المباديء على ممارسة المالكي وحزبه لوجدنا أنهم قد تمردوا بشكل فاضح على مبادئهم التي اسسوا الحزب من أجلها ، وقفزوا إلى المرحلة الثالثة ، فأضاعوا أنفسهم وأضاعوا الدعوة وأضاعوا الوطن .
إن المالكي في رسالته يتحدث عن أمر بعيد كل البعد عن حزب الدعوة الإسلامي الذي عرفناه وعملنا معه سنوات طويلة ، أنه وكامل طاقمه الحزبي في الحكومة خلال السنوات الثمان الماضية ، قد استغلوا ضعف حزب الدعوة لفترة ما بعد حرب الثمان سنوات بين العراق وإيران ، حيث شهدت هذه الفترة نكوسا للحزب وضعف وتحول من حزب رصين إلى مجرد اشخاص في بعض العواصم تطلق على نفسها قيادات ، من أجل أن تحافظ على مجرد ( وجود اسم لاغير ) ، هذا الأسم استطاع المالكي وجماعته أن يعبروا به إلى السلطة ، لقد كانت كارثة حقيقية تلك الفترة التي حكم بها حزب الدعوة العراق سوف نرى آثارها الحقيقية في السنوات القادمة .