تعد دراسة الشخصيات السياسية من الدراسات التاريخية المهمة لما لها من دور فاعل وأثر كبير في صناعة التاريخ وكشف العديد من الخفايا والحقائق التاريخية ووضع الشخصية ومسارها في الإطار العلمي الصحيح . وعليه فأنه ليس من قبيل المبالغة القول ان الكتابة عن الشخصيات أمر من الصعوبة بمكان وان بدت عكس ذلك خاصة اذا تدخلت فيها الأمزجة والأحكام المسبقة. وقد يصبح الأمر أكثر صعوبة وربما حساساً اذا درسنا شخصية عراقية لعبت دوراً مؤثراً وفاعلاً في صناعة أحداث تاريخ العراق الحديث الذي شهد عدداً كبيراً من الشخصيات البارزة التي كان لها دورها في تكوين كيان العراق . وتأتي في مقدمة هذه الشخصيات نوري السعيد السياسي المحنك المعروف الذي تناول عدد من الباحثين العراقيين حياته ونشاطه السياسي أمثال عبد الرزاق أحمد النصيري (نوري السعيد ودوره في السياسة العراقية حتى عام 1932) وسعاد رؤوف شبر (نوري السعيد ودوره في السياسة العراقية 1932-1945) ، في حين لا تزال المدة بين 1946-1958 ، من حياته في المجالين الداخلي والخارجي تستحق أكثر من دراسة أكاديمية جادة كونها من أهم المدد التاريخية وأدقها وأعقدها من حيث تشابك العلاقات العربية والدولية ، فضلاً عن صعوبة الإحاطة بدقائق المادة العلمية لهذه المرحلة السياسية الطويلة والمهمة .
من هذا المنطلق اقتصر موضوع الكتاب الذي نحن بصدد عرضه على دراسة جانب محدد من تلك المدة المفعمة بالأحداث ، يتعلق بنشاط نوري السعيد وجهوده في نطاق عقد حلف بغداد، لذا فان الدراسة من جهة اخرى لم تتناول منظمة الحلف وأهدافها وانشطتها بقدر ما هي دراسة تاريخية تم فيها إبراز دور نوري السعيد في إخراج هذه المنظمة الاقليمية الى حيز التنفيذ ودوافعه التي كمنت وراء ذلك وما رافقتها من ملابسات وانعكاسات على مجرى العلاقات العراقية-العربية والدولية .
يعد نوري السعيد من أقطاب السياسة البارزين في العراق ان لم يكن ابرزهم جميعاً ، ترك بصمات واضحة أثرت سلباً أو ايجاباً في احداث البلاد السياسية منذ تأسيس الدولة العراقية حتى عام 1958 . اقترن اسمه بمعظم المعاهدات والاتفاقيات التي عقدها العراق مع الدول العربية والاجنبية، ووصف بأنه أقوى شخصية عربية ارتكزت على أساس تركي قديم . وبعد موت الملك فيصل الأول وانتهاء جيل المؤسسين ، عد نفسه مسؤولاً عن العراق نظاماً وشعباً،ولا يبتعد عن الصواب من يقول انه وبخاصة بعد احداث 1941 ، كان المحور الذي دارت فيه السياسة العراقية ان لم يكن عرابها حتى في حالة ابتعاده عن الوزارة لمصلحة الاتجاه الذي أرسى قواعده في السنوات الأخيرة من العهد الملكي .
كان توثيق الروابط مع الغرب لردع ما عده نوري السعيد خطراً شيوعياً يؤلف الهدف السوقي لذلك الاتجاه الذي اقتنع بضرورته اقليمياً لا عراقياً فقط متمتعاً في ذلك بتأييد البلاط المطلق مما كان بلا شك بداية الطريق الذي أفضى في النهاية الى حلف بغداد عبر سلسلة من الإجراءات والمناورات التي لم تخل من قدر كبير من التعقيد .
تعود فكرة حلف بغداد تاريخياً الى عام 1953 ، حين طرح الامريكان ما عرف بمشروع الحزام الشمالي بوصفه حلقة متممة للاحلاف التي استهدفت تطويق المعسكر الاشتراكي ولاسيما الاتحاد السوفياتي السابق .
تولت بريطانيا عملياً تنفيذ المشروع باتجاه يضمن لها مصالحها الخاصة بعد أن تبين فشل سياستها في مواجهة الوضع في المنطقة عن طريق مشاريعها للدفاع عن الشرق الأوسط بالاعتماد على قواعدها في السويس وشرقي السويس .
أدت هذه الحقيقة الى تنشيط دور نوري السعيد في الجهود التي بذلت من اجل تكوين الحلف من منطلق قناعته بأن بريطانيا لا تزال تؤلف قوة عالمية مؤثرة وبأن مصالحها السوقية البعيدة المدى تجمعها مع الولايات المتحدة الأمريكية على صعيد واحد في هذا المنحى .
كان نوري السعيد مقتنعاً أيضاً بأن إلغاء معاهدة 1930 وعقد حلف جماعي من شأنهما أن يعززا موقع العراق على الصعيد الدولي أما اذا نجح في دفع الأقطار العربية الأخرى في الاتجاه نفسه فان ذلك قد ينال بشكل أو بآخر من حظوة الكيان الصهيوني لدى الغرب ، الرأي الذي لم يلق استجابة العرب ولا استجابة الغرب ، ولكن من منطلقين مختلفين .
من هنا ، فان فكرة نوري السعيد الأصلية التي استهدفت توسيع ميثاق الضمان الجماعي العربي ليشمل دولاً اسلامية في المنطقة اضافة الى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية
ان أمكن ، لم تحظ بتأييد حتى البريطانيين الذين كانوا يرون في ميثاق الضمان الجماعي العربي أداة مواجهة بالأساس ضد اسرائيل .
كان هاجس الخوف من الخطر الشيوعي وتوقعات هجوم سوفياتي موهوم على العراق بسبب موقعه السوقي وامكانياته الاقتصادية يؤلف الدافع الأهم في حماس نوري السعيد لموضوع حلف بغداد وذريعته للدفاع عنه وجهده لدفع الأقطار العربية الى الانضمام اليه . ومن المنطلق نفسه فان هذا الموقع فرض على العراق مصلحة دفاعية مشتركة مع تركيا وايران وضرورة الاحتفاظ بعلاقات حسن جوار مع هاتين الدولتين الجارتين والمتحالفتين مع الغرب دفعاً لأطماعهما وادعاءاتهما التاريخية ببعض المناطق الحدودية مع العراق . لكن الرأي العام العراقي والرأي العام العربي رأيا في ذلك حجة واهية مرفوضة زادت من عزلة نوري السعيد على الصعيد السياسي الى أقصى حد وأسهمت على نحو جاد في إبعاد عبد الناصر ومؤيديه عن الغرب .
وفوق ذلك كله اعتقد نوري السعيد ان التعاون مع الغرب كفيل بضمان المساعدات العسكرية الغربية الى العراق والعرب عامة ، فقد قرر أن العراق دولة ضعيفة عسكرياً وبها حاجة الى التسليح وإعادة بناء الجيش على وفق الأساليب الحديثة وان موارد العراق الاقتصادية لا يمكن أن تغطي الحاجة المتزايدة الى تطوير سلاح الجيش العراقي تطويراً مستمراً فضلاً عن ان بريطانيا والغرب هما المصدر الطبيعي للسلاح ، فاذا كان العراق قد أصبح رأس حربة في نظام دفاعي جماعي فانه سيستفيد من فيض الأسلحة والأموال والمعدات الغربية وستتبعه دول عربية اخرى . وبهذا يكون الشرق الأوسط آمناً من الشيوعية . وان لم يكن عبد الناصر أقل رغبة من نوري السعيد في الحصول على المساعدات العسكرية الغربية ، غير ان حياد مصر في تلك الفترة المبكرة كان تعبيراً عن رغبتها في استقلال قومي كامل أكثر مما هو سلاح نضال للوطن العربي كله .
على وفق تلك القناعات ليس من السهل القول ان نوري السعيد كان عميلاً بريطانياً أو انه تصرف وكأنه عميل فعلاً بل كان صاحب مدرسة سياسية آمنت بالتعاون مع الغرب وكانت له وجهة نظر خاصة في الحكم قامت على احترام الأمر الواقع وتقديره حق تقدير ويحيطها إطار من التفاؤل . وان عقد الحلف كما تبين من المساعي الأولى لسلوك نوري السعيد السياسي لم يكن نكاية بمصر ولا من أجل تقويض الجبهة العربية بل سعى الى تحقيق جبهة عربية موحدة متضامنة مع الغرب .
هذا لا يمنع من ان نوري السعيد راى في مناقشات الدفاع فرصة لاستخلاص زمام المبادرة في الشؤون العربية من يد مصر كما ان اصراره على المضي في تنفيذ مخططاته بضم العراق الى حلف بغداد قد أدى بالنتيجة الى تفرقة الصف العربي الذي انعكس في تشكيل التكتلات العربية المناوئ بعضها بعضاً . وتبين كيفية تمهيد نوري السعيد الطريق لعقد حلف بغداد التوافق الكبير بين السياستين الداخلية والخارجية في إطار النظام السياسي الواحد فانه لجأ الى سلسلة الإجراءات القمعية على الصعيد الداخلي لكبح جماح كل أشكال المعارضة ودفعها الى انتهاج أساليب جديدة للعمل من أجل قلب النظام برمته الهدف الذي لم يحل حلف بغداد دون تحقيقه مع العلم ان نوري السعيد أراد الحلف أداة سياسية لحماية النظام داخلياً وخارجياً .
لو كان التاريخ تحركه العقول وحدها لأمكن الحكم على نتائجه بيسر ولكن العقل وحده لا يحكم العالم وانما تحكمه أيضاً المشاعر والأحاسيس وما يجيش في داخل الشعوب من دوافع ونزعات وقد لا يمكن تفسير هذه المشاعر والدوافع منطقياً ولكننا يمكننا أن نفهمها كلما حققنا اقتراباً أكثر منها فندرك طبيعة الناس العاديين ونوع ردود أفعالهم إزاء تحديات عصرهم وما ورثوه من دوافع هي في حقيقتها نتاج تفاعل أجيال متعاقبة عبر قرون وقوة الروابط الوطنية التي تربط بينهم والروابط القومية التي تصلهم بأشقائهم في أقطار اخرى . كل ذلك وغيره يحتاج لكي يفهم الى دراسات معمقة اجتماعية واقتصادية ونفسية قبل أن تكون سياسية بحتة . واذا كان القول بأن الاحساس بالظلم هو الذي يؤدي الى الثورة وليس الظلم نفسه صحيحاً فان درجة تحمس الشعوب بهذا الظلم تتفاوت بين شعب وآخر وبين طرف وآخر أيضاً.
لقد أدرك الانسان العراقي العادي بحسه المرهف حقيقة هذا الحلف الذي أريد ربط بلاده به على الرغم من كل الحجج التي حاول القائمون على الأمور الترويج لها عهد ذاك من مثل التصدي لحملة عسكرية سوفيتية تأتي من الشرق والإفادة من امكانات الدول الغربية في بناء جيش عراقي وتحقيق نوع من التوازن في العلاقات مع الغرب يكافئ علاقاته مع اسرائيل وابطال أطماع دول الجوار من أعضاء الحلف في اراضي العراق الوطنية . وقد أثبت التاريخ نفسه صدق ذلك الحس وكذب الحجج التي روج لها الساعون لعقد هذا الحلف في الداخل والذين حاولوا جر بعض الأقطار العربية له في الخارج ، فالحملة العسكرية السوفيتية لم تكن إلا وهماً والحلف لم يمنع توصل العناصر الشيوعية الى السلطة في العراق وانما العكس ما حدث فعلاً فعقد الحلف والانجرار وراء تحقيق مصالح الغرب وبالذات الولايات المتحدة في صراع دولي لم يكن للعرب فيه مصلحة حقيقية هو الذي أدى الى اندفاع موجة من الشعور العام ضد الغرب وهي الموجة التي ركبها الشيوعيون العراقيون آنذاك .
والإفادة من امكانات الغرب العسكرية كانت وهماً آخر فلم يتحقق حلم الامدادات العسكرية الضخمة التي تصور البعض انها ستتدفق على العراق ذلك لأن الغرب كان يتعمد إبقاء جيش العراق ضعيفاً لمنعه من القيام بدور وطني في الداخل أو قومي في فلسطين . وان مشاركة الدول العربية في حلف غربي لم يكن ليرفعها من مستوى الدول المستضعفة الى مستوى الحلفاء وانما سيسخرها لتحقيق مصالح أرباب ذلك الحلف الحقيقيين لا مصالح الدول العربية نفسها ومن ثم فليس متوقعاً ان يسمح لها بأن تشكل خطراً بل حتى تهديداً لاسرائيل الذين سعوا هم الى تأسيسها ومدها بعناصر الحياة. بل حتى الادعاء بأن من شان الحلف دفع اطماع دول الجوار عن أرض العراق لم يكن إلا وهماً هو أيضاً فهذه الأطماع تاريخية وقد أثبتت الأحداث أنها ظلت مستمرة حتى في ظل التحسن الظاهري للعلاقات بين الأطراف المتجاورة . وفضلاً عن ذلك فقد تجاهل مروجو سياسة التحالف مع الغرب ان دول هذا الغرب كانت لا تزال تحتل أقطاراً عربية عدة وتمارس ارهابها تجاه شعوبها ، فبريطانيا الشريك الأساسي في الحلف هي نفسها التي تحتل قناة السويس في مصر وتفرض هيمنتها على الجنوب اليمني والخليج العربي وتحتفظ بقواعد لها في ليبيا بينما تحتل دول غربية حليفة لها أقطاراً اخرى في تونس والجزائر والمغرب .
وفي الواقع فانهم لم يتجاهلوا الواقع السياسي لقضية الاستعمار في الأقطار العربية فحسب وانما تجاهلوا مشاعر الشعب العربي نفسه تجاه هذا الاستعمار بظروفه التاريخية واحباطه للأماني القومية وإذلاله للكرامة الوطنية على حد سواء وما اذا كان هذا الشعب سيفرق في نظرته للقواعد العسكرية الموجودة على أرضه بين أن تكون قواعد احتلال واذلال وان تكون قواعد تحالف وصداقة ؟ فأيهما كان أكثر صدقاً اذن ؟ واقعية نوري السعيد التي ظل يتخذها شعاراً له أم حس الشعب البسيط الذي ألهمه حقيقة ما يجري من حوله وما يدبر له مستقبلاً ؟
ليست الكتابة في مثل هذا الموضوع الشائك بالأمر الميسور ولا تكمن صعوبتها في الجوانب الفنية فحسب من مثل نوع ما تستخدمه من وثائق والوصول الى مظان المعلومات التي تتوافق ومستويات الحدث الوطنية والعربية والدولية وانما تتجلى في صعوبة الحكم على الأشياء على الرغم من مرور نحو اكثر من نصف قرن عليها ، فالتاريخ كله معاصر ، وهذا يعني أنه لا يمكن الحكم على الماضي إلا من وجهة نظر الحاضر . ومن المؤسف ان وجهة النظر هذه قد تأثرت بأحداث معاصرة وتداعيات دولية مستجدة وانكفاءات قومية ووطنية عديدة ، فمن المنطقي أن تتأثر وجهات نظر المؤرخين الى الاحداث الماضية بما يجري حالياً على الساحة العربية والدولية من تغيرات وربما تغيرت نظرتهم الى علاقات الأمس وظروفه ليس لأنها خطأ في حد ذاتها وانما لأن علاقات اليوم باتت تفرض ثقلها عليهم فأخذوا ينجرون الى وجهات نظر جديدة ليست بالضرورة أن تكون صائبة .
ان كتاب (دور نوري السعيد في حلف بغداد) ليس كتاب تاريخ عادي انه في الواقع يثير موضوعات معاصرة تماماً . فقضية الهيمنة الاجنبية ومدرسة التحالف مع الغرب والدفاع عن الشرق الأوسط والأوسطية وموقف الغرب الثابت من دعم اسرائيل لهي من أكثر الموضوعات جدة ومعاصرة بل هي قضايا الساعة فعلاً وعليه فلست مبالغاً في شيء ان قلت بأن أهمية الكتاب لا تكمن في رصده لإحداث الماضي بدقة وموضوعية عالية وانما في إثارته غير المباشرة لجملة من الاسئلة التي تتعلق بالمستقبل أيضاً.
الكتاب
نوري السعيد ودوره في حلف بغداد واثره في العلاقات العراقية – العربية حتى عام 1958 ، ط1،مكتبة اليقظة العربية ( بغداد) مكتبة الفكر العربي ( البصرة ) ، 2002
[email protected]