أن من يكتب عن أي شخصية سياسية عراقية لايمكن أن يتغافل التأثيرات الخارجية عن هذه الشخصية . ومن هذه التأثيرات هو تأثر الشخصية السياسية العراقية بشخصيات سياسية لها دور على الصعيد العالمي , فعند مطالعة شخصيتنا السياسية , ألا وهي شخصية ” نوري السعيد ” يجد القارئ أنه كان معجب والى حد ما بشخصية سياسية فرنسية ألا وهي شخصية ” بيير لافال ” . فعندما نقرأ مقولة نوري السعيد , وهي : ( الرجال العاديون يعقدون تحالفات مع أصدقائهم , أما أنا فإني كبير لأحالف أعدائي . ليست الطريقة الفضلى أن يجعل المرء لنفسه شعبية , بل يجب في بعض الأحيان أن يعرف كيف يضحي بشعبيته لخير بلاده ) , أن هذا التصريح يشبه إلى حد بعيد مقولة قالها (بيير لافال) وهو سياسي فرنسي , وهي : ( لا أرغب في أن تكون لي شعبية , فالناس كانوا يصفقون لي فيما مضى , لأني لم أكن أقوم بواجبي ) . فكلا القولين يعبران عن ازدراء مظاهر التهليل والهتاف وعن الاقتناع بأن الحكم الأفضل هو الذي يعاكس التيارات الشعبية ولا يحاول أن يتملق غرائز الجمهور . أن هذا الشبه بين القولين لم يكن وليد الصدفة , وإنما هناك شبه بين نوري السعيد وبيير لافال , ولكن هذا الشبه لا يقتصر على ملامح الوجهين , بل يمتد إلى المناخ الخلقي . فمعرفتهما المتيقظة بمواطن الضعف البشري ورأيهما في رفعة جدارتهما الخاصة , واقتناعهما بأنهما معصومان من الخطأ , ونظرتهما المتشابهة إلى أساليب الحكم أنما تدل بوضوح على ما بينهما من القرابة . لا ريب أن حياة كل من الرجلين تختلف بكل شيء عن حياة الأخر . فنوري السعيد يمتد إلى أسرة ميسورة بينما بيير لافال عكس ذلك يقال انه من أصل وضيع وهذا ما ثبت بعد أن أدين بالخيانة العظمى لفرنسا عام 1945 . ولد السياسي الفرنسي ” بيير لافال ” عام 1883 , ودرس في جامعات (ليون وباريس . (وبعد الحرب العالمية الأولى بدأ نجمه يلمع في مجال السياسة , وفي عام 1914م تم انتخابه عضوًا في مجلس النواب , وقد شغل عدة مناصب في الوزارة منها شغله منصب رئيس الوزراء مرتين , وفي عام 1935م شارك بصفته رئيسًا للوزراء في اتفاقية (هور – لافال) واقترح التفاوض بين فرنسا وبريطانيا لإبرام معاهدة صلح بين إيطاليا وإثيوبيا . تعاون مع الألمان خلال
الحرب العالمية الثانية (1939 -1945 ) وبعد غزو الألمان لفرنسا في (مايو عام 1940) طالب لافال بالاستسلام لهم , وخلف هنري بيتان رئيسًا لوزراء فرنسا في عهد فيشي في أبريل 1942 , وبعد استسلام ألمانيا في عام 1945م تم تسليم لافال إلى الحكومة الفرنسية وأدين بالخيانة العظمى . وتجرع السم محاولاً الانتحار في يوم إعدامه ، ولكن تم إنعاشه ، وأعدم رميًا بالرصاص . أما نوري السعيد فمن أسرة ميسورة وثقافة كلها تركية , ولد عام 1910 م , وانخرط في الجيش العثماني برتبة ضابط , وأتم دروسه في مدرسة اسطنبول العسكرية حيث أبقاه معلموه على حدة وفي شبه إنفراد لأنه من أصل عربي . ويبدوا أن هذه المعاملة قد غرست في نفسه نوعاً من النقمة . أسره الانكليز لما احتلوا البصرة في الحرب العالمية الأولى , ثم أطلقوا سراحه تنفيذاً لأمر أصدرته الحكومة البريطانية . فقرر منذ ذلك الوقت أن يتعاون مع الانكليز , وقد ظل دائماً أميناً على هذه الخطة في سلوكه , فحياة العراق في نظر نوري السعيد لا يمكن أن تكون دون المساعدة البريطانية وقد ردت بريطانيا على هذه التحية بمثلها , فاعتبروا أن الحكومة الصالحة في العراق لا يمكن أن تكون دون نوري السعيد . ظهر نوري السعيد على مسرح السياسة للمرة الأولى عندما اشترك بطريقة عملية ونشيطة في ” الثورة العربية ” التي دبرها ” لورنس ” , ثم رافق الملك فيصل الأول إلى باريس عام 1919, وبذل جهوداً كبيرة ضد ” كليمنصو ” ليحصل على ضم سوريا إلى العراق تحت تاج الملك فيصل الأول . وكان نوري السعيد مستشاراً خاصاً وودوداً للملك فيصل الأول فضل يرتقي تدريجياً في مراتب السلطة حتى بلغ المقام الأول , أي رئاسة الحكومة في المملكة العراقية لأول مرة في 23 آذار1930. وبقي فيها إلى وزارة ( 1 أيار 1958) , ومنذ ذلك العام شغل منصب الرئاسة على التوالي أربعة عشرة , وأن استمراره الطويل في ممارسة السلطة رسخ فيه الاقتناع بأنه ولد ليحكم مواطنيه , وبأن جميع رجال السياسة العراقيين , ما عداه , ليسوا إلا هواة على الصعيد السياسي .
لكن نذكر هنا , ما كتبه ” بول جونسن ” وهو سياسي انكليزي , قال : ( ليس في نوري السعيد ضعف ولا أوهام , اللهم إلا اعتبرنا ضعفاً كلفه الشديد بالسلطة , فرجال السياسة العراقيون يبغضونه ويحسدونه , ولكنه يملأ نفوسهم خوفاً يكاد يكون خرافياً لا مجال فيه للمنطق والإدراك , إنهم يتذمرون منه في مجالسهم الخاصة , كلما عطل صحفهم أو حلّ أحزابهم , ولكنهم لا يحاولون مطلقاً القيام بعمل ضده , هو بخلاف أكثر العرب , لا يكذب أبداً على نفسه ) . وصف نوري السعيد بأنه
رجل الغرب في العالم العربي ، ولكن كانت لديه من المواقف القومية ما يعد في حسابات اليوم منتهى الراديكالية ، وكان مقتنعا بأن لابد للعراق أن يعتمد على دولة كبرى ليردع أعداه . أن المقارنة بين نوري السعيد وبيير لافال , لاريب في أن شخصية نوري السعيد هي أقل غنى من شخصية لافال بالعوامل التي تحرك العواطف وتحدث تأثيراً عميقاً في النفس وحتى بالشعور الإنساني , فـ(نوري السعيد) ليس خطيباً , وهو بهذا يختلف اختلافاً عميقاً عن لافال . ولكن السعيد يشبه لافال من حيث أنه يكره أصحاب الآراء العقائدية مهما كان المذهب الذي ينتمون إليه , ويعمل بفطنة واقعية , ويحب معالجة الشؤون العامة . وقد توفي نوري السعيد في 15 تموز عام 1958. ولم يزل شخصية سياسية كَثُر الجدل و الآراء المتضاربة عنه .