7 أبريل، 2024 4:55 م
Search
Close this search box.

نوري السعيد.. عارياً.. بلا رتوش

Facebook
Twitter
LinkedIn

ـ عصر يوم الثلاثاء 15 تموز / يوليو / 1958 انهيت حياة أقوى رجل في العهد الملكي في العراق.. انه الباشا نوري السعيد.. برصاصتين من مسدسه.

 

شخصيته:

ـ عصبي المزاج.. سريع الغضب.. حاد الطبع.. يمتلك الحذر في الاطمئنان.. والصراحة في الغموض.. والقسوة في خُلق دبلوماسي.

 

ـ فهو دبلوماسي من الطراز الأول.. كما كان جاداً وحازماً.. دقيقاً في مواعيده.

– بالمقابل قاتل.. فقد قتل من يعتقد انه خطر علية وعلى منصبه.. وينافسه.. مثلما ساهم في قتل الملك فيصل الاول والملك غازي بأوامر بريطانية.

 

ـ يحب المقامات والغناء البغدادي.. والأكلات الشعبية.. وكبة السراي.. وكباب اربيل.. والسمك المسكوف.. والقيمر العراقي.. وخبز التنور.. وشربت الزبيب.. والعرق العراقي.

السيرة والتكوين:

 

ـ تباينت الآراء حول مولد نوري السعيد.. لكن التاريخ الأرجح هو العام 1888 في (تبة الكاوور).. أو تبة الكورد.. الواقعة قرب ساحة الميدان في بغداد.

ـ كان والده سعيد بن صالح طه يعمل موظفا في دائرة الأوقاف العثمانية.. أما والدته فهي فاطمة عبد الرزاق من عشيرة ألبو مفرج.. ويقال إن والده وجده طه كانا من خطباء جامع الأحمدية في الميدان.

 

ـ تباينت المصادر في أصل وجذور نوري السعيد.. قسم يقول ترجع أصوله الى الأرومة الكردية.. وقسم آخر يعود به الى عشيرة القراغول البغدادية.. وآخر الى قبيلة شمر.

 

– فيما أوجز فالديمار غالمان.. اخر سفير امريكي في العراق الملكي في كتابه: (عراق نوري السعيد).. هذا التباين في كون نوري السعيد “انه كردي المولد.. تركي الثقافة.. عراقي المحنة”

 

ـ دخل نوري احد كتاتيب بغداد آنذاك لتعلم القراءة والكتابة وحفظ القران الكريم.. ومن ثم أتم دراسته في المدرسة الرشيدية العسكرية.. ثم الإعدادية العسكرية.

 

– وتوجه العام 1903 الى اسطنبول للدراسة في الكلية الحربية.. وتخرج فيها العام 1906.

 

ـ عند تخرجه في الكلية الحربية في إسطنبول.. التحق في كلية الأركان.. وقبل أن يتم دراسته فيها شارك في حرب البلقان العام 1912.

 

ـ في العام ذاته انظم الى جمعية العهد العربية السرية.. ومن ثم التحق في مجموعة ثورية ضد الدول العثمانية بزعامة طالب النقيب.

 

ـ عند سقوط البصرة في أيدي البريطانيين في ٢٣ تشرين الثاني / سبتمبر / العام ١٩١٤ كان السعيد يرقد في مستشفى الإرساليات الأمريكية لإصابته بمرض التدرن الرئوي.. فألقت القوات البريطانية القبض عليه باعتباره أسير حرب عثماني.. وقامت بعدها بنقله إلى الهند.

 

ـ ظل السعيد في الهند حتى نقل الى القاهرة العام 1915.. وعمل هناك مع المجموعات التي كانت تعمل تحت راية الشريف حسين ضد الدولة العثمانية.

 

– بعد انهيار الدولة العثمانية تسلم منصب رئيس أركان الملك فيصل في سورية العام 1918.

 

ـ العام 1921 عاد الى العراق.. وعين أول رئيسا لأركان الجيش.. في 12 / 2 / 1921 استحدث منصب رئيس اركان الجيش.. وعين فيه السعيد!!

 

ـ كان لبريطانيا اثر في تقرب نوري السعيد من السلطة.. وإشغال مناصب مهمة لان القادة البريطانيين تبين لهم الكفاءة التي بها نوري السعيد.. وفي هذا يقول القائد الانكليزي كلاتيون “إن أشخاصاً ثلاثة سيكون لهم شأن في العراق.. هم: ياسين باشا.. وجعفر العسكري.. ونوري باشا السعيد”.

 

نشاطه السياسي:

 

ـ انتمى السعيد إلى الجمعيات السرية التي دعت الى استقلال العراق والعرب عن الدولة العثمانية.

 

ـ شارك في الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي العام 1916.

 

رأي بريطانيا في نوري السعيد:

 

ـ اختير السعيد لعضوية المجلس التأسيسي للعراق العام 1920 من قبل الحكومة البريطانية برئاسة المندوب السامي السير بيرسي كوكس.. حيث تشير المراسلات بأن المس بيل (السكرتيرة الشرقية في دار الاعتماد البريطاني ببغداد).. بعد أول لقاء لها بنوري سعيد.. كتبت تقول: “إننا نقف وجهاً لوجه أمام قوة جبارة ومرنة في آن واحد، ينبغي علينا ـ نحن البريطانيون ـ إما أن نعمل يداً بيد معها.. أو نشتبك وإيّاها في صراع عنيف يصعب إحراز النصر فيه”.

 

ـ أما السفير البريطاني في بغداد بيترسون فيعتقد بأن: “نوري باشا ظلّ لغزاً كبيراً.. لأنه بات بعد العام 1927.. وتحديداً بعد انتحار رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون.. أصبح نوري السعيد صعب الإقناع.. في بلد لم يتعود الإذعان لرجل أو الخضوع لسلطة.. ونوري كان يريد بناء العراق.. رغم كل الدعايات ضده من الحكومات والشعب”.

 

ـ قضى السعيد أكثر من أربعين عاماً في الجيش والسياسة.. ما بين قائد عسكري.. ووزير للدفاع أو وزير خارجية.. بل ورئيس للوزراء.. وأخيراً رئيسا لوزراء حكومة الاتحاد العربي.. بين العراق والاردن.. الذي تشكل في شباط / فبراير / 1958.

 

رأي ملوك العراق في السعيد:

الملك غازي : نوري السعيد عميل.. ووقح ومتآمرا على العرش الهاشمي وخادم للأجنبي!

ـ ورد في كتاب (من اوراق الملك غازي) لمحققه القاضي زهير كاظم عبود.. وهو مجموعة لملفات البلاط الملكي تضمنت مراسلات وكلمات يوميات بخط وتوقيع الملك غازي الاول.. هذه الوثيقة بتوقيع الملك غازي ننشرها بالنص.

 

المملكة العراقية
البلاط الملكي
6 كانون الاول 1936
نوري السعيد يحاول جاهداً التآمر على العرش والحكم في المملكة.

ـ أنه يتصل بكل الاعداء لو يستثني اي عدو ممكن لتأمره.. لقد بعث (موقف الالوسي للاتصال بزمرة السعود الكفرة للنيل من العرش الهاشمي!

أي وقاحة هذه ؟!

ـ ويبعث شقيقة زوجة المقبور العسكري لمحاولة الاتصال ببعض ضعاف النفوس وعبيد الاجنبي للنيل من العرش الهاشمي!

ـ أني لأعجب من هؤلاء ان خدمتهم للأجنبي.. وخضوعهم اليه لا يقف عند حد او يصل الى حدود أنه يبيعون انفسهم بثمن بخس.

ـ انما نسعى دائما لخدمة شعبنا وامتنا.

ـ وأن الله سوف ينصرنا عليهم وعلى تامرهم السيء ومواقفهم الغير نبيلة.
ـ ان عمالتهم لا تتوقف عند حدود ابداً !
التوقيع : الملك غازي الاول
ختم البلاد الملكي
6-12-1936

 

نوري.. والمسؤولية السياسية:

ـ لم يفكر أن يترك المسؤولية الأولى بالرغم من تطور الأوضاع عراقياً وعربياً وعالمياً.

 

ـ وتوسع قادة المعارضة ضد نظام الحكم وضد الإقطاع.. وقدرته في إدارة دفة الحكم وقد بلغ السبعين من عمره.. تلاحقه أمراض عديدة.

 

 

سياسته:

ـ كثيراً ما كان يشترك في المشاجرات والمشاحنات.. لكنه إذا ما أراد الوصول إلى غاية ما أو تكريس سياسة ما.. فإنه لا يثور ولا يتأثر.. بل يتحمل النقد اللاذع من خصومه.

\

ـ ويتعمد الغموض في أحاديثه.. ويوحي لمخاطبيه عن قصد بإشارات متناقضة أو تنطوي على تفسيرات متعددة.

 

ـ لا يقرأ الملفات بل يسأل ويستمع جيداً للوصول الى عمق القضية المعنية.

 

ـ كان ميكافيلياً بالفطرة.. يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، كما كان مناوراً.

 

ـ كما كان يعرف كيف يستغل الظروف والمتغيرات ويكرّسها لخدمة أهدافه.. فكان يجيد اختيار ساعته.. كما كان يقتنص الفرص الثمينة لتقوية أوراقه الرابحة.

ـ كان مقتنعاً بأن العراق لابد أن يعتمد على دولة كبرى ليردع أعدائه.. فوصف برجل الغرب.

 

ـ كان حاضراً في السياسة العراقية في العهد الملكي دوماً.. (سواء رئيساً للوزراء.. أو وزيراً للخارجية.. أو وزيراً دفاع.. أو حتى بدون منصب).

 

عراق نوري السعيد:

ـ تولى نوري السعيد منصب رئاسة الوزراء في العراق 14 مرة (من أول وزارة شكلها في 23 آذار/ مارس 1930 حتى 19 تشرين الثاني / أكتوبر 1932… واستمر حتى آخر وزارة انتهت في13 ايار1958.. وكان وزيراً متكرراً في أكثر من وزارة.. حتى لقب بالوزير الدائم.

 

ـ أصبح رئيساً لوزراء الاتحاد العربي بين الأردن والعراق (14 أيار 1958 ـ 14 تموز 1958).
نوري السعيد.. ما له.. وما عليه!!

 

ـ هنا اسجل اهم القرارات التي اتخذها السعيد وبالتالي تمثل فكره وسلوكيته وشخصيته.. بشكل نقاط محددة.. لنصل الى الجواب على السؤال المركزي هل هو من جلب المآسي للعراق.. ام ثورة 14 تموز 1958؟

 

ـ أهم القرارات السياسية التي كان لنوري السعيد دوراً رئيسياً فيها.. وخلقت بعضها ضجات عنيفة:

1ـ دوره في تشكيل حلف بغداد العام 1954.

 

2ـ دوره في تشكيل الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن في شباط العام 1958.

 

ـ يعتبر أحد عرابي تأسيس الجامعة العربية.. حيث تنافس مع رئيس وزراء مصر الأسبق مصطفى النحاس على تزعم واستضافة الجامعة العربية في بغداد إلا أنها أقيمت في مصر.

 

ـ تعريب موظفي كركوك بتوطين الموظفين العرب فيها.. مستخدما أسلوب نقل الموظفين سنويا منها وإليها.. فالموظفون التركمان والأكراد وقسم من العرب كانوا ينقلون سنويا إلى المحافظات الأخرى لقضاء أربعة سنوات خدمة مدنية فيها.. وينقل إلى كركوك موظفون عرب ليقضوا بقية عمرهم الوظيفي والحياتي فيها.

 

ـ رفضه التام أجراء تغييرات جذرية تتطلبها المرحلة آنذاك.. اهمها:

ـ الانفتاح على العالم خاصة الولايات المتحدة الامريكية.. وتخفيف الارتباط ببريطانيا.

ـ رفضه التام إصلاح الوضع الاقتصادي والاجتماعي.. وتقليص نفوذ النظام الاقطاعي المقيت.

 

ـ عدم اهتمامه بتظاهرات الجماهير.. وتحقيق مطالبها الاساسية.

 

ـ تزوير الانتخابات النيابية.. بشتى الطرق.. وغلق الباب امام العناصر الشابة.. واصحاب الافكار التقدمية .. للوصول الى عضوية مجلس النواب.

 

ـ قناعته ان التظاهرات لن تستطيع قلب نظام الحكم.

 

ـ عدم التفكير جدياً قيام انقلاب عسكري على الحكم.. في ضوء القيادات العسكرية المؤيدة للحكم.

 

ـ انشغاله بالتآمر على سورية من اجل ايجاد عرش للأمير عبد الاله.. بعد ان أصبح فيصل ملكاً على العراق.. ما ادى الى ارسال بعض قطعات الجيش الى حدود سورية والاردن.. وهذا حفز الضباط الاحرار بوضع الخطط لأسقاط النظام.. بأية فرصة تسنح لذلك.

ـ أخيرا نقول:

 

ـ معادياً للديمقراطية والتطور السلمي التدريجي الذي انتهجه المرحوم فيصل الأول في بداية التأسيس.

ـ تجاوزته المرحلة واستنفد دوره.. لذا كان عليه أن يتنحَّ ليفسح المجال للجيل الجديد.. لكنه رفض.. لذلك جلب على نفسه وعلى العراق البلاء.

 

 

طائفيته:

 

ـ يقول كامل الجادرجي.. رئيس الحزب الوطني الديمقراطي: “إن نوري السعيد كان يريد أن يجعل من أبناء الجنوب الشيعة عمالاً ماهرين.. ومن أبناء السنة خريجي جامعات”.. المصدر: (رفعت الجادرجي. صورة أب. ص ١١٦).

ـ “كانت مناطق الجنوب يمثلها نواب.. تعين الحكومة نصفهم من (السنة).. والذين لم يسبق لهم زيارة تلك المناطق.. أو ربما كانوا لا يعرفون أين تقع”.

 

ـ “كان الأمر سيبدو اقل فجاجة.. لو إن الحكومة عينت ـ لمرة واحدة فقط ـ نائبا شيعياً ليمثل منطقة سنية”.. (عبد الكريم الأزري ص ١١٠ ـ ١٢٢).

 

ـ يقول الملك فيصل الأول مؤسس الدولة العراقية: “العراق مملكة تحكمها حكومة سنية.. تحكم قسما كردياً.. وأكثرية شيعية”.. (عبد الرحمن ألبزازـ العراق من الاحتلال الى الاستقلال.. ص ٢٣١).

 

ـ ويعلق عبد الله النفيسي قائلاً: “لو إن الشيعة أعطوا قسطاً أوفر من المشاركة في الحكومة لكان في الإمكان تجنب الكثير من الخيارات المرة.. وكثير من الاضطرابات الدامية”.. (حسن العلوي ـ الشيعة والدولة القومية ص ١٥٠)

وصية نوري السعيد:

ـ نشرت مجلة” لايف انترناشيونال” الصادرة في 26 /7/..1958 أي بعد أقل من أسبوعين على مصرعه.. جاء فيها:

“إنني كعربي وبرغم صداقتي للعالم الحر أقول جهراً.. أن طاقتي في التحمّل بلغت نهايتها.. فقد طفح الكيل كثيرا جراء سياسات الغرب معنا.

 

ـ يشاركني كل المسؤولين العرب.. وفي العالم.. لقد سبق أن نبهناكم ونصحناكم مراراً بضرورة إنصافنا.. وحل قضيتنا قبل أن يستفحل الأمر.. لكنكم تجاهلتمونا فحطت في المنطقة مشاكل وخطوب عدة.

 

ـ الآن فإنني أرى كوارث مقبلة في الآفق البعيد.. فهي إن حلّت عن طريق اليأس.. فلا بُدَ أن يتجدد سعيرها الملتهب على أيدي شيوعيين أو إرهابيين في المستقبل القريب.. ويقيني أن إخمادها حين ذلك لن يكون هيناً بأي حال من الأحوال”.

 

أملاكه:

ـ كان لنوري بيتاً بناه في الثلاثينات من القرن الماضي..” فيما يبدو من حصته في مبلغ 25000 جنيه إسترليني.. وزعها أصحاب الامتيازات الأصليون في الB.O.D التي هي عبارة عن تجمع لشركات نفط بريطانية.

ـ باع هذا البيت العام 1952 إلى السفارة المصرية ب32000 دينار.

 

ـ البيت الثاني كان فخماً على دجلة في كرادة مريم.. ويبدو انه سجلها باسم زوجته.. ولهذا لم تستطع حكومة ثورة 14 تموز 1958 من مصادرته.. جاءت اموال هذا البيت من:

الأولى: في منطقة ألوزيرية.. والمشغولة حالياً من قبل كلية الفنون الجميلة.. أرضها أميرية.. وتم تشيدها بقرض من وزارة المالية ولفائدة الأوقاف.

 

الثانية: في منطقة كرادة مريم بالقرب من القصر الجمهوري على نهر دجلة.. وتكفلت الشركة التي قامت ببناء مجلس النواب بنائها.. وأضيف على التكاليف بناء المجلس المذكور.

 

ـ سكن نوري السعيد ولفترة طويلة في دار ولده صباح.. الذي كان يشغل إحدى الدور العائدة لمديرية السكك في الصالحية.. باعتبار ولده كان مديراً عام دائرة السكك الحديدية.

 

ـ أخذ السعيد رشوة من شركة نفط العراق.. (بطاطو ص ٣٩٢ ).

ـ استخدم السعيد ميزانية الدولة لأغراضه الشخصية.. (القيسي ص ١٧٢).

 

ـ كان السعيد عندما يرشح لرئاسة الوزارة يشترط أن يكون وزيراً للدفاع أيضاً.. حتى يستطيع إقامة الدعوات والحفلات وغيرها.. فمخصصات هذه الوزارة مفتوحة.. فضلا عن فساد ابنه صباح.. (بطاطو ص ٣٩٢).

 

مصادرة أمواله:

ـ بعد ثورة 14 تموز 1958 تقرر مصادرة أموال أقطاب النظام الملكي.. وتم جرد أملاك رجال العهد الملكي.

ـ لم يجدوا عند نوري السعيد إلا داره التي يسكنها حتى 14 تموز 1958.. وقد تأكد للجنة المصادرة إن الأرض التي شيد عليها نوري السعيد داره هذه تعود لزوجته نعيمة العسكري.. ولا يمكن قانوناً مصادرتها.. وفي 27 تموز 1958 فتح داره ليدخلها المواطنون بعد أن تبعثرت محتوياتها.

 

ـ العام 1955 أعلن لواء (محافظة الأنبار) عن بيع بالمزاد العلني قطع أراضي ل100 دونم.. وقد شارك السعيد بالمزاد ورست عليه إحدى هذه القطع بأغلى الأسعار وسجلت باسمه.. وكان آنذاك خارج الحكم.. لكنه لم يستثمرها حتى مصرعه.. وتم مصادرتها حسب القانون.

 

ـ امتلك السعيد بحلول العام 1958 ومن خلال استخدام النفوذ وعلى ما يبدو سندات أرض قيمة مساحتها 9294 دونماً.

(المصدر: العراق/ الكتاب الأول، حنا بطاطو. ص 392-393).
فساده:

ـ يتحدث الكثير عن نزاهة نوري السعيد.. لكن هناك اتهامات برشاوى وفساد.. سجلت عليه:

ـ أخذ السعيد رشوة من شركة نفط العراق.. (حنا بطاطو المصدر السابق ص ٣٩٢).

 

ـ استخدم السعيد ميزانية الدولة لأغراضه الشخصية.. (القيسي ص ١٧٢).

 

ـ كان السعيد عندما يرشح لرئاسة الوزارة يشترط أن يكون وزيراً للدفاع أيضاً.. حتى يستطيع إقامة الدعوات والحفلات وغيرها.. فمخصصات هذه الوزارة مفتوحة.. فضلا عن فساد ابنه صباح.. (بطاطو ص ٣٩٢).

حياة عائلته بعد مصرعه:

ـ بعد مقتله لم يكن لأرملته.. وأرملة ابنه صباح ما تعيشان به.. واللتان كانتا في لندن لمعالجة زوجته.. فعُينت أرملة ابنه صباح مترجمة في الإذاعة البريطانية.

ـ أمّا أرملة السعيد فقد خصص لها جلال بايار رئيس تركيا آنذاك.. راتباً يسيراً.
ـ بعد الانقلاب على حكومة بايار.. انقطع هذا الراتب في أواخر أيار 1960.
ـ أخذت أرملته تبيع أغراضها وما لديها من حاجيات كانت معها.. لتعيش.

 

ـ أخيراً اضطرت الى بيع عقد ثمين لها كان هدية قديمة من أمير الكويت.. فاشتراه أحد الأثرياء الكويتيين.

ـ لمّا سمع أمير الكويت بذلك أمر بردّ العقد.. وخصص لها راتباً شهرياً.
ـ عندما مرضت باعت جميع ما بقيَ عندها من حاجات كانت معها.. لتسديد أجور المعالجة والدواء.. ولم يبق عندها غير ساعة ثمينة لزوجها.

 

ـ تقول السيدة قرينة الباشا نوري السعيد.. باعت جميع ما لديها من حاجيات كانت معها.. ولم يبق عندها غير ساعة ثمينة لزوجها وقد اشتد عليها المرض والفقر.. وذلك قبيل وفاتها بأيام فقد أرسلت بيد أحد الدلالين اليهود الذي كان من أصل عراقي تلك الساعة الثمينة ليبيعها لأحد الأغنياء من أصدقاء زوجها المعروفين والمقيمين آنذاك في لندن.

 

ـ وقد امتنع ذلك الثري عن شراء الساعة المذكورة.. ولم يبادر بإرسال مبلغ ولو كان بسيطا لها رغم علمه بحالها حيث تنتابها سكرات الموت.

 

ـ وقد بقيت الساعة معروضة عند هذا الدلال اليهودي في لندن وبعد رجوعه أخبر أنها قد فارقت الحياة.. ثم قام هذا الدلال اليهودي من أصل عراقي بالتبرع عن طيب خاطر بجميع مصاريف الدفن ونفقاته.

 

ـ لما سمع مدير الشركة (السير أندرو مكتاجرت) بما أصاب عائلة صديقه نوري السعيد.. جمع أعضاء الشركة واتخذوا قراراً بأن لا يطلب من زوجة نوري السعيد إخلاء الدار طوال مدة حياتها نظراً للظروف القاسية التي مرت بالعائلة.. فاغتنم المدير فرصة زيارته للتعزية وتطييب خاطرها.. وأوهمنا بلباقة بأن نوري السعيد أستأجر الشقة لمدة سنوات عديدة وذلك لعدم جرح مشاعرها.. وبناءً على ذلك مكثت في الشقة المذكورة الى أن وافاها الأجل في العام 1962.

 

زوجاته.. وأبناؤه:

ـ العام 1910 تزوج السعيد من نعيمة مصطفى العسكري شقيقة جعفر العسكري الذي تزوج هو الآخر من شقيقة نوري السعيد.. وقد أنجبت له نعيمة ولدين قحطان الذي مات غرقاً.. وصباح الذي قتل يوم الثلاثاء 15/ تموز / 1958 أمام دار الإذاعة العراقية في بغداد.

 

ـ الزوجة الثانية: حينما كان نوري السعيد ضابطاً في الجيش العثماني 1916.. ويعيش في تركيا تزوج “أمينة مجيد الهاشمي”.. وهي تركية وشقيقة زوجة ياسين الهاشمي “رئيس وزراء في العهد الملكي”.. وللسعيد منها ثلاثة أبناء “ولد وبنتين”.. ثم انتقلت الى بغداد.. وسكنوا منطقة الصليخ.

 

ـ تقول سعاد الابنة الكبرى للسعيد: “عند قيام ثورة 14 تموز 1958 كنا ننتقل من منزل الى آخر.. ولم يسألنا احد لأننا لم نكن نعمل بالسياسة.. ولم نكن معروفين”.. الى أن سافرت الى تركيا.. ومنها الى بلدان عدة.. لأنها وأمها.. كانتا من هواة السفر”.

ـ نهاية المطاف عادوا الى العراق.. أكمل الولد الدكتوراه في الهندسة.. لكنه وأخته الكبرى (أمل) توفيت لاحقاً بالنوبة القلبية.. وبقيت الأخت الصغيرة سعاد من مواليد 1928 التي أوضحت إن والدها نوري السعيد تزوج والدتها في السر عندما كانت في تركيا.. وعند انتقالهم الى بغداد كشف نوري السعيد عن زواجهما.

 

ـ تزوجت سعاد السعيد من صبيح بحر العلوم.. إلا إن هذا الزواج لم يدم طويلاً.. لم تحصل سعاد على راتب تقاعدي لان أباها (السعيد) لا يملك بيتاً في تركيا.

 

ـ في العراق خصصت الحكومة العراقية لها راتباً تقاعدياً لا يكفيها مسكناً ومعيشة.. فاضطرت أن تعيش في دار رعاية المسنين.. وذكرت سعاد بأنها تعيش مستقرة في هذه الدار.. وتقرأ القرآن الكريم.. وتتمنى أن يوفقها الله بأداء فريضة الحج.. توفيت سعاد في أوائل تسعينيات القرن الماضي.

 

حقيقة مصرعه:

 

ـ كل الروايات التي دونتها كتب التاريخ.. إضافة الى البيان الرسمي لحكومة الثورة عن اختفاء ومصرع نوري السعيد.. كانت متناقضة.. بل بعضها لا يمثل حتى جزء من الحقيقة.

ـ وهذا سرد لشهادات: من قتل نوري السعيد.. وكل من ساهموا بإخفائه أو تهريبه؟.. وشهادة شهود عيان تحوي أدق التفاصيل عن كل الأحداث التي جرت لهذا الرجل خلال 36 ساعة العسيرة في حياة هذا الرجل!!

ـ فقد توجهت صبيحة يوم الثورة (14 تموز 1958) سرية من الفوج الثالث بأمر الرئيس الأول (الرائد) بهجت سعيد والنقيب منذر سليم وبدلالة المقدم وصفي طاهر والرائد إبراهيم اللامي (كون الأخيران سبق أن عملا مرافقين لنوري سعيد.. ويعرفان كل أقسام بيته).

ـ يقول الرائد بهجت: أخذتُ الدليلين (وصفي وإبراهيم) وسلمتهما رشاشتا سترلنك مع ما يلزمها من عتاد.. وانزل بهجت سريته وطوقت قصر نوري السعيد.. وطلب من أفراد سريته ضبط النار وعدم فتحها إلا بأمر منه.. وعند دخول (وصفي وابراهيم) بيت نوري السعيد وجداه خالياً إلا من سائق سيارة نوري السعيد والعريف إبراهيم.

ـ أما المقدم وصفي طاهر فيتحدث عن تلك الواقعة بالقول: (بعد أن وصلتُ قصر نوري السعيد كان المفروض أن تلتحق بي سرية مدرعات لحمايتنا.. لأننا كنا نخشى أن تكون هناك قوة في هذا القصر.. لكن المصادفات هي التي ساعدتنا فقد كان الحرس الخاص بنوري السعيد من الشرطة قد انسحبوا إلى أماكنهم قبل مجيئنا بربع ساعة.

ـ وإنني بصفتي الضابط الذي يقود السرية أمرتُ الرئيس الأول إبراهيم اللامي.. أن يقسم سريته إلى ثلاثة فصائل ينفذ اثنان منها إلى نهر دجلة من الجهة المحيطة بالقصر للحيلولة دون هروب نوري السعيد.. وفصيل آخر يتعقبني إلى داخل القصر فأخذتُ الفصيل.. ودخلتُ حديقة بيت السعيد.

 

ـ ويضيف صفي طاهر قائلاً: وقبل دخولي وإثناء بدء إطلاق نار كثيف صرنا نصرخ (أنا واللامي) اقطعوا الرمي.. لان ليست هناك مقاومة.. لكن استمروا في الرمي.. واستمرار الرمي هو الذي سبب هروب نوري السعيد قبل تطويقه.. ولم يتم التطويق.. لان بهجت سعيد بقي منشغلاً مع جنوده.. كما يقول وصفي طاهر!!

 

ـ الواقع إن نوري السعيد هرب مسرعاً من القصر قبل وصول القوات المهاجمة إلى قصره بدقائق.. فهناك رواية تقول إن السعيد عَلِمَ من الخبازة عمشه التي تسكن قريبة من قصره.. والتي اعتادت جلب الخبز لعائلته صباح كل يوم.. فقد شاهدت القطعات العسكرية في الطريق.

 

ـ ويبدو إن نوري السعيد اعتاد أن ينام في الصيف في سطح منزله المكشوف.. كمعظم أهالي بغداد.. حيث يذكر الملازم هشام إسماعيل حقي: (انه رأى سرير نوري السعيد هناك في سطح منزله بعد ثلاثة أو أربعة أيام من الهجوم ورأى نعله (الخف) إلى جانب سريره.. مما يدل على حالة الارتباك الفجائية التي وقع بها السعيد.. بحيث أهمل احتذاء نعله).

 

ـ من الثابت إن نوري السعيد ترك منزله هرباً إلى جهة النهر.. حيث يدلي صاحب الزورق الذي هربه بإفادته إلى المجلس العرفي العسكري الذي أجرى محاكمة كل من كان له صلة بتهريب نوري السعيد.. حيث يقول حسون العيسى (76 سنة) تركنا الزورق أنا وأخي عبود العيسى (60 سنة)على الشاطئ غير بعيد عنا.. كما كان في المنطقة ذاتها القاضي المعروف داود سمرة اليهودي ومعه سائق سيارته الحاج صالح مهدي يسبحان في النهر.. كما اعتادا أن يسبحا كل صباح في الصيف هناك.. وعندما سمعا أزيز الرصاص فوقهما خرجا من النهر واحتمى الأربعة بمسناة الشابندر.

 

ـ لم تمض دقائق حتى شاهد صاحبا الزورق كهلاً حافي القدمين يتقدم نحوهما.. ويقول حسون العيسى: (شهر الكهل المسدس بوجهنا وصاح بوجهي (بلام.. بلام.. يا الله عبرني ذاك الصوب).. (أي إلى جهة الرصافة).. فصعدتُ أنا وأخي معه إلى الزورق.. وطلب منا تغطيته بشباك الصيد.. وعندما توسط الزورق بهم النهر.

 

ـ يبدو إن السعيد خشي من الناس المتجمهرة بالجهة المقابلة فطلب من صاحبي الزورق العودة وإيصاله إلى بيت صبيح الخضيري.. وعندما أوشكوا على الوصول إلى بيت الخضيري سألهما السعيد: هل تعرفان مكان بيت الدكتور صالح البصام ؟ فأجابا: بالإيجاب ؟ فقال لهما: إذن أوصلاني إليه.. وصالح البصام هو زوج بنت عبد الهادي الجلبي نائب رئيس مجلس الأعيان.. وعندما وصلا قرب السلم الذي يوصل إلى الشاطئ بأعلى مسناة بيت البصام.. طلب السعيد من صاحب الزورق حسون الذهاب إلى البيت للتأكد من وجود أهل البيت فيه.

 

ـ رجع العيسى بعد لحظات ليخبر نوري السعيد بوجودهم في البيت.. ترك نوري السعيد الزورق واستقبله مرتضى البصام المحامي.. وسأله السعيد عما
استجد من أخبار.. فاخبره مرتضى إن الجيش شكل وزارة جديدة.

 

ـ يقول صالح البصام في مذكراته: (كانت ساعات عصيبة وجود السعيد عندنا حيث كانت القوات تفتش عنه.. فطلب السعيد إيصاله إلى بيت الحاج محمود الأسترابادي في منطقة الكاظمية).. فمحمود الأسترابادي هو من أصدقاء نوري السعيد.

 

الاختفاء:

 

ـ المهم تم إخفاء نوري السعيد في صندوق السيارة الخلفي.. وتوجهت السيارة إلى الصالحية فالكاظمية.. والى محلة القطان بالذات حيث دار الأسترابادي.. أمضى السعيد ليلته تلك في بيت الأسترابادي.

ـ تقول عائلة الأسترابادي: إن السعيد كان يحمل راديو ترانزستور صغيراً يستمع به إلى الأخبار والأحداث.. وكل مدة قصيرة يصعد إلى السطح ليشاهد هل هناك طائرات بريطانية أو عراقية تحلق لإجهاض الثورة !!

ـ في اليوم نفسه أصدرت حكومة الثورة بياناً تدعو فيه الشعب إلى إلقاء القبض على نوري السعيد حياً أو ميتاً.. ووضعت جائزة مقدارها عشرة ألاف دينار لقاء ذلك.

 

محاولة الهروب خارج العراق:

 

ـ المهم غادر نوري السعيد بيت الأسترابادي متنكراً بزي امرأة في الساعة الثانية وخمس وأربعين دقيقة من ظهر اليوم التالي (15 تموز) تقله السيارة السوداء المرقمة 1585 بغداد نوع شوفرليت حديثة.. العائدة إلى الحاج محمود الأسترابادي تصحبه زوجة الأسترابادي (60) سنة.. وخادمتها زهرة حيدر.. وكان يسوق السيارة السائق كاظم عمارة.

 

ـ لندع السائق كاظم عمارة يتحدث عن هذه الواقعة قائلاً: (طلبت مني زوجة الأسترابادي الخروج من بغداد والذهاب إلى بيت الشيخ فارس الجريان (أحد شيوخ ألبو سلطان ـ من قبيلة الزبيدـ المعروفة في مدينة الحلة.

 

ـ وفي الطريق وإثناء ما كنتُ أسوق السيارة تعرفتُ على نوري السعيد الذي كان جالساً على المقعد الخلفي للسيارة.. فتعرفتُ عليه من خلال مرآة السيارة التي أمامي.. وقد تنبه نوري لذلك فقال لي: (اسمع ابني كاظم أني عندي ولد واحد اسمه صباح.. فإذا نجوت من هذه المحنة سيكون لي ولدان صباح وكاظم).

 

ـ عند وصول السيارة إلى منطقة أبو غريب شاهدوا ثلة من الجنود يحققون في هويات الخارجين والداخلين من والى بغداد.. ويضيف عمارة قائلاً: (طلبوا مني العودة إلى بغداد حيث أوصلتهم إلى بيت بنت الأسترابادي زوجة هاشم جعفر شقيق الوزير السابق ضياء جعفر).

ـ وحال دخولهم البيت شاهد نوري السعيد عمر بن هاشم جعفر خارجاً من البيت.. فخرج السعيد ومن معه فوراَ من البيت.

 

ـ وفعلاً كان حدس السعيد بعمر صحيحاً.. فقد ذهب عمر مباشرة إلى وزارة الدفاع.. وقابل قائد الثورة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم وابلغه إن نوري السعيد موجود في بيتهم.. فذهبت مفرزة من الانضباط العسكري إلى بيتهم.. وبالطبع لم تجد السعيد.. (يذكر إن عمر حصل على الجائزة المخصصة لإلقاء القبض على نوري السعيد بحصوله على بعثة دراسية في لندن على نفقة الحكومة بناء على طلبه).

ـ المهم بعد خروج السعيد والنسوة.. سار الثلاثة في شوارع منطقة البتاويين سيراً على الأقدام.. بأمل الوصول إلى بيت الشيخ محمد العريبي (شيخ عشيرة ألبو محمد) في مدينة العمارة.. وهو أحد أعضاء مجلس الأعيان.. والذي يقع بيته في المنطقة نفسها.. لكنه من الجهة القريبة من قصر الأبيض.

 

ـ كانت نية نوري السعيد مغادرة العراق.. لهذا فكر في الذهاب إلى بيت محمد العريبي الذي يستطيع تهريبه إلى مدينة العمارة المحاذية لإيران.. وسيكون من السهل الوصول إلى إيران التي كانت آنذاك عضواً في حلف بغداد.

 

ـ كان بيتنا (أنا د. هادي حسن عليوي.. كاتب هذه الدراسة) في منطقة البتاويين في الفرع المجاور لسينما أطلس حالياً.. وكان عمري آنذاك 18 سنة.. واذكر إنني كنتُ واقفاً أمام دارنا.. وامسك بيدي خرطوش الماء (الصوندة) لرش الشارع بالماء.. وإذا بثلاث نسوة محجبات بحجاب وجه مررن من أمامي.. فأخفضت فوهة (الصوندة) لإفساح الطريق لهن.. واستغربتُ بادئ الأمر لأنه لا توجد في شارعنا بل في منطقتنا نسوة محجبات.. بعدها قلتُ ونفسي لعلهن جئنً ضيوفاً إلى بيت جميل الخاصكي.. الذي يقع في شارعنا من جهة شارع أبو نؤاس.

 

ـ استمر (النسوة) بالسير.. وعبرن شارع السعدون إلى الجهة المقابلة.. وما هي إلا ربع ساعة.. وإذا بصوت إطلاقة مسدس.. فأسرعتُ أنا ركضاً صوب مكان الإطلاق.. وأثناء الطريق سمعت ثلاث إطلاقات أخرى.. وعند وصولي المكان (خلف مدرسة البتاويين الأولى الابتدائية للبنين).. وجدتُ نوري السعيد متمدداً على الأرض.. وما هي إلا لحظات حتى فاضت روحه.

 

ـ نعود قليلاً إلى الوراء: كيف قضى نوري السعيد الربع ساعة دون الوصول إلى بيت الشيخ محمد العريبي؟ الذي لا يبعد عن بيتنا سوى خمس دقائق سيراً على الأقدام.. الظاهر إن نوري السعيد والمرأتين معه لم يكونوا يعرفون بالضبط مكان بيت محمد العريبي.. وكان الحرُ شديداً وأبواب البيوت موصده.. إضافة إلى تخوف المرأتين من الاستفسار من أي شخص.. وبعد أن فقدوا أملهم وجدوا طفلاً في نهاية الشارع الذي تقع فيه مدرسة البتاويين الأولى.. فسألوه عن بيت الشيخ محمد العريبي.

 

ـ كان اسم الطفل ليث.. وأبوه خضير صالح السامرائي عريف في القوة الجوية في معسكر الرشيد.. الذي جاء إلى بيته قبل ساعتين.. ويروم الالتحاق بوحدته لوجود إنذار في الجيش.. ولما سمع الأب النسوة.. خرج الى الباب ورد بسخرية: (بابا وين بقى شيوخ.. الثورة سحقت الإقطاع وكل الخونة).. ويبدو إن نوري السعيد لم يتحمل كلامه فرفعُ العباءة قليلاً من وجهه.. فإذا بليث يصيح بأعلى صوته: (بابا هذا رجال !!).. وهكذا انكشف أمره.

 

مصرعه:

ـ لنستمع إلى أقوال خضير صالح السامرائي قاتل نوري السعيد.. حيث يقول: (وعلى الفور.. سحب الرجل الذي عرفته انه نوري السعيد مسدسه.. وأطلق عيارتين الى الأعلى لتخويفي.. لكنني هجمتُ عليه وانتزعتُ منه المسدس وأطلقتُ رصاصتين نحوه.. الأولى أصابتهُ في أعلى صدغه.. خدش بسيط.. والثانية لم تصبه.

ـ كان نوري السعيد حال مقتله يلبس بجامة نوم (سمائية اللون).. ويغطي رأسه (خاولي) ويلبس عباءة نسائية لإخفاء شخصيته.

 

ـ كان السعيد خلال فترة اختفائه التي تجاوزت 36 ساعة لم يأكل شيئاً.. ولم ينم.. فسقط على الأرض.. وفرت الخادمة زهرة إلى نهاية الشارع لتدخل بيت أستاذ سليم (معلم.. لا أتذكر اسم أبيه).. وتحمل معها حقيبة متوسطة الحجم.

 

ـ في تلك اللحظات جاءت سيارة بيكاب محملة بالرقي.. ويركب في مقدمتها عبد بائع الرقي في المنطقة.. الذي نزل مسرعاً حاملاً سكينته.. وما أن وصل إلى جثة نوري السعيد حتى طعنه عدة طعنات.. وركض إلى زوجة الأسترابادي وأجهز عليها بسكينته.

 

ـ أما الخادمة زهرة حيدر فتحدثت عن الحادثة أمام المجلس العرفي العسكري حيث قالت: كنتُ احملُ حقيبة متوسطة الحجم تعود لنوري السعيد.. ولا اعلم بمحتوياتها.. وعندما اختبأت في بيت المعلم سليم عند إطلاق النار.. لا أعرف أين وضعتها ؟

ـ الحقيقة إن المعلم سليم لا دخل له سوى راتبه الشهري الذي يعيش عليه.. لكن بعد ستة أشهر على هذه الحادثة اشترى داراً في المنطقة وسيارة وأثاثاً جديداً وتحسنت أموره المالية!!

 

ـ المهم: ما أن لفظ نوري السعيد أنفاسه حتى مرت لحظات صمت.. اخترقه صوت إطلاق نار من رشاش ضابط جاء يركض إلى مكان الحادث.. وحال وصوله استعد أبو ليث للضابط الذي تبين فيما بعد انه المقدم وصفي طاهر.. والذي افرغ ما تبقى برشاشته في الجثة.

 

ـ بعدها نظر وصفي طاهر الى الواقفين حول الجثة وكانوا خمسة أشخاص.. هم: (أبو ليث.. واحمد الحاج عبد الأمير الزبيدي.. وجابر شكري.. ويوسف السامرائي ـ صهر أبو ليث.. وأنا هادي حسن عليوي).

 

ـ طلبً وصفي من أبو ليث جلب الجثة إلى ساحة النصر القريبة من مكان الحادث.. وركض وصفي متوجهاً إلى تلك الساحة.. وفي الوقت ذاته حضرت سيارة عسكرية ستيشن نوع شوفرليت.. حملت جثة بيبية قطب (زوجة الأسترابادي).. وذهبت إلى بيت المعلم سليم.. حيث تجمهر عدد من سكان المنطقة.. واخرجوا الخادمة من البيت وأشبعوها ضرباً وشتماً.. وادخلوها في السيارة التي انطلقت بسرعة!!

 

جثة نوري السعيد:

ـ أما جثة نوري السعيد فقد تم سحبها من قبل أبو ليث وشخص آخر إلى ساحة النصر.. ونحن نسير خلفه.. حيث كان المقدم وصفي بانتظارها.. وما هي إلا لحظات وإذا بسيارة عسكرية تقف ليضع وصفي طاهر الجثة فيها.. وينطلق بأقصى سرعته إلى وزارة الدفاع التي كان يتواجد فيها الزعيم الركن عبد الكريم قاسم.

ـ بعد أن تأكد قاسم ومن معه من شخص نوري السعيد ووفاته.. أمر بأن ينقل جثمانه إلى المستشفى.. ثم الطب العدلي لاستكمال الإجراءات الأصولية لدفنه في المقبرة المجاورة للطب العدلي.

 

التمثيل في الجثة :

 

ـ في فجر اليوم الثاني ذهبت ثلة من الأشخاص ونبشوا القبر.. وأخرجوا جثة نوري السعيد وربطوها بحبل.. وأخذوا يسحلونها باتجاه باب المعظم فشارع الملك غازي.. ثم شارع النضال حتى القصر الأبيض.. ليعودوا من الشارع الخلفي لوزارة التعليم العالي.. توقفوا عند مديرية المساحة العامة.. قرب محطة وقود الكيلاني.

 

ـ ولم يشبعوا من كل ما قاموا به.. بل جلبوا بنزين من المحطة وصبوه على الجثة وأحرقوها عصر يوم الأربعاء 16 تموز.. وكلما خفت النار يجلبون بنزين ويصبوه على الجثة لتشتعل من جديد.. واستمر الحال الى ساعة متأخرة من الليل لتتفتت العظام وتصبح رماداً اسوداً.
ـ خمدت النار فيها.. ولم يبق أحداً.

 

ـ يقال إن أحد المارين جمع ما تبقى من رماد وأشلاء في كيس وحملها الى الكاظمية.. حيث تم دفنها في جانب من مقبرة السيد حسين السيد يونس.. حسبما ذكره عبد الهادي الجلبي فيما بعد حينما التقى بهذا بالرجل.. (وهذا الكلام لم يؤيده أي شخص اخر)!!

 

محاكمة المشاركين بمحاولة تهريب نوري السعيد

– جرى اعتقال العناصر التي حاولت اغفاء ومحاولة تهريه من قبل المجلس العرفي بتاريخ 7 / 8 / 1958 واصدر الحكم الاتي:

– الحكم على محمود الأسترابادي.. وطالب الأسترابادي.. وفاطمة حيدر.. وعبد الامير الأسترابادي.. بالحبس الشديد لمدة 3 سنوات.

– الحكم على مظفر الأسترابادي.. وزهرة حيدر بالحبس الشديد لمدة 5 سنوات.. وعلى كاظم زغير بالحبس لمدة سنة واحدة.

– الايعاز بنفي المتهمين إلى خارج العراق بعد انتهاء محكومياتهم لكونهم من التبعية الايرانية.

 

 

 

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب