أبي يعتقدُ أن الوجوه الجميلة يصنعها عشب الأرض وليس زرقة البحر .
وبعد أن اخذتني القطارات أبعد من تلك القربة الاهوارية التي يكون قصبها اخضر وماؤها اخضر ورايات حزنها العاشوري خضراء اكتشفت وأنا أتفحص مشي الحواءات اللائي يستحممن قي الصيف الالماني القصير وعلى رمل شواطئ بحر الشمال أن نظرية أبي صحيحة لم تكن صحيحة في أغلبها. والآن هو ليس في هذا العالم حتى أريه ما يقلل من مصداقية نظريته ، لقد حمله المشيعون الى مثوى الصمت في نفس الليلة التي كنت ادفن فيه فمي بفم سائحة يابانية تعرفت عليها في بيت ( غوته ) في مدينة فرانكفورت حيث تواجدنا صدفة هي تزوره لأول مرة وأنا أزوره كلما احضر معرض الكتاب السنوي في هذه المدينة العريقة .
غير أن ما تحدث عنه ابي في عموميات الفهم الفطري الذي توارثه الاباء من تجارب الحياة فيه الكثير من العقلانية عندما تركنا جوعنا للوجوه الجميلة التي كانت تحمل وجوه ملائكة في لوحات رسامي العصور الوسطى أو تلك التي نراها في الافلام الاجنبية واغلفة المجلات حيث يضرب بهن المثل مثل برجيت باردو واليزابيت تايلور وراكيل وولش والايطالية التي لم ار ضوءا ساحرا في عيون امرأة كالذي في عينيها يوم وجدتها صدفة في احدى اسواق روما واقصد اورنيلا مينوتي وغيرهن. فطالما صادفت وجوها لبائعات القيمر أو اللائي كن يجمعن القصب او عرائس المشاحيف ، هي وجوه تشع بجمال غامض يهزك من داخلكَ ويثيركَ وتتمنى لو كانت بطلة فيلم ( قلعة ساغان ) واحدة من اللائي تسمع في خلاخيلهن دهشة جايكوفسكي وهو يبحث عن مقدمة مناسبة لمقدمة سمفونيته بحيرة البجع لتكون بديلا عن كاترين دينوف او صوفي مارسو في هذا الفيلم.
مرة زار الاهوار مصور فوتوغرافي ألماني محترف ليصور هذه البيئة ضمن مشروعه الموسوم ( البحث عن فردوس الصورة ) وقد قرأ في مكتبة متحف برلين كتاب صموئيل كريمر الموسوم ( الواح سومر ) فأدرك أن الأهوار هي الجنائن الاولى في تمني الانسان ليكون خالدا مع الحدائق والطبيعة الساحرة فأتى مع كاميرته الكوداك ليسجل خواطر المكان من اول صياح الديك حتى عودة اخر جاموسة الى زريبتها .
ويوم حل ضيفا بقريتنا منحنا يوما رائعا ونحن نناقشه بمساعدة معلم الانكليزية عن الفلسفة الالمانية وريلكه ورواية سادهارتا التي رأت النور بترجمة ممدوح عدوان ، ثم تجول في أرجاء القرية بعد أن أخبره الرجال بأن بإمكانه تصوير كل شيء في القرية عدا وجوه النساء.
مرت سنوات على هذه الحادثة ونسيتها على كثر من مروا على قريتنا ولم أتذكر من جاء ومن رحل . لكن في صباح ما ، هنا حيث فنجان القهوة وصوت المطرب ( ناصر حكيم ) يُعدلُ من تأثير نسبة سكر الغربة في دمي ، وكعادتي كل يوم لابد أن انزل الى صندوق البريد لأرى ماذا تريد مني دائرة العمل والضمان ومن ارسل لي روايته الجديدة ، وجدت بين البريد مجلة دورية أسمها ( VIGO ) تصدرها دائرة التأمين الصحي المسماة اختصارا هنا ( AOK ) ، والمفاجأة كانت أن غلافها يحمل وجه امرأة أكاد اتذكر ملامحها جيدا ، أنه وجه نورية التي كنا نسميها نحن المعلمون ( الموناليزا الثالثة ) فقد كانت تحمل وجها انثويا جميلا …
وكانت الصورة بسبب مقال داخل المجلة عن الصحة في البيئات المائية ، ويبدو أنهم اختاروا هذه الصورة من ارشيف معرض لمصور فوتوغرافي مشهور.
تذكرته الآن ، انه المصور الألماني الذي جاء قريتنا ذات يوم ولم يلتزم بشرط عدم تصوير وجوه النساء ، فقد مرت نورية صدفة ، وبسبب جمالها غامر ليكون لصا وينكث بالوعد ويصورها .