23 ديسمبر، 2024 8:11 ص

نوايا مصور الغارديان

نوايا مصور الغارديان

ذات يوم جاء بمشحوف يحمل ضابط أمن قضاء الجبايش وبعض من  العناصر ، وأخبرنا أن مفوض الأمن ( لغيوي ) سيقضي يومين ضيفا في القرية وهو في مهمة رسمية ، وعلى ادارة المدرسة أن تتحمل اقامته أكلا وشرباً وسكنا وهذا يعني انه سيبات مع المعلمين في سكنهم.

تضايق المعلمين وكانت لواحد من المعلمين معرفة سابقة مع الضابط في تعارف مائدة الكأس في نادي الموظفين في الجبايش وهو من قال للضابط على سبيل النكتة لكن القصد معروف هو : استاذ الله يخليك الفلفل الاحمر لا يجتمع مع الفلفل الاخضر في شجرة واحدة .

وبخبث قال الضابط : هذا يعني أن الشيوعيين حُمرْ والمفوض لغيوي اخضر بعثي.

تلعثم المعلم وقال :لا استاذ انا قلتها للمزاح ويعني الاحمر حار وخطير لأنه بالأمن ، والاخضر بارد لاننا معلمين ولكن وحقك مفوض لغيوي ( نخليه بعيونه ،)  بس رحمه لوالديك وجوده بيننا يجعلنا صمٌ بكمٌ ، فقط نريد ان نعرف لماذا هو ضيف معزز ومكرم بيننا وانا من سيطبخ له.

قال الضابط غدا يصل قريتكم مصور فرنسي من صحيفة الغارديان ( تعرفون الغارديان يا اساتذة )

قلت :سامعين بها فقط فلا أحد يتكلم هنا الفرنسية .

قال :هذا افضل فالقيادة لا تريد لأي واحد من المعلمين الاحتكاك به والتكلم معه فنحن لانعرف نواياه.

قلت :استاذ اذا لا تعرفون نواياه ، فلماذا تسمحون له بالمجيء.؟

قال :انا لا اعرف ، ولكن السيد العام في مديرية أمن الناصرية أخبرني ان هذا المصور جاء ليعمل تحقيقيا مصورا عن طبيعة الاهوار ، ولكن القيادة انتبهت الى عنوان طلبه لوزارة الخارجية وعنوانها ( البحث عن شيء في بابل ) ومادام أن الصحفي اسمه اسحق فأنه قد يكون يهوديا واتى في مهمة تجسسيه.

وقتها اصابنا الرعب ، وفرحنا بأن يكون لغيوي ضيفنا لأنه سينجينا من غفلة قد نقع بها ونجامل ونتحدث ونستضيف صحفي الغارديان ثم ندفع الثمن غاليا بتهمة التعامل مع عميل.

وهكذا تكومنا جميعنا في صريفة ننام فيها ونأكل وافردنا واحدة الى المفوض لغيوي وحده الذي كان عشاءه في اليوم الاول سمكة مشوية بحجمه ، أكلها كلها مع طاسة من اللبن الخاثر فلم ننم ليلتنا من شخيره المدوي.

صباح اليوم الثاني وصل الصحفي الفرنسي بمشحوف يقوده شابان بدشاديش بيض ويلفان رأسيهما بيشماغ. همس لي شغاتي في اول نظرة لهما قائلا : هؤلاء شرطة امن .

قلت وكيف عرفتهما :قال أميز المعيدي بين مليون .

ضحكت وقلت : سنأوي الى صفوفنا وسنترك مصور الغارديان يصور براحته .

تنقل الرجل في ارجاء المكان ، وطوال النهار كان يصور المكان بكل تفاصيله ، وحتى في الليل صور فسحة المكان في الليل حيث يلتمع النجوم مع الندى المتجمع على حواف القصب الأخضر ، وطوال وجوده كان يرمقنا بأبتسامة وكنا نعيدها بابتسامة باهتة وحذرة خوفا من نظرات لغيوي التي تتابع المصور اينما ذهب.

يومين بقيَّ المصور ، اراد ان يتحدث مع الرعاة فلم يفلح ، مع التلاميذ كان يضحكون ويهربون منه . وعندما اراد أن يغادر ، نطق بالإنكليزية قائلا :ايها السادة اتفهم حذركم ولكن اريد مصافحتكم للوداع .

اختبص لغيوي وقال لمعلم الانكليزية : ما الذي قاله السيد.؟

قال :يريد ان يصافحنا ليودعنا .

قال لغيوي :لم يخبرني الضابط بهذا حتى اسمح لكم ، لا تصافحوه .

هززنا له رؤوسنا مبتسمين .

وحين حمل عدته وغادر المكان وبينما كان لغيوي منشغلا بتحريك المشحوف ودفعه . مر مصور الغارديان قربي وقال بلهجة مغربية :أتفهمكم ايها السادة فأنها افهم ما يحدث هنا.

بعد سنوات تذكرت هذه الحادثة وتاريخها فذهبت الى ارشيف الغارديان لأبحث عن ذلك الربورتاج عن قريتنا وبيئة الاهوار ، وحين وجدت عدد الجريدة عرفت ان الصحفي الذي جاء الينا كان يهوديا من اصل مغربي ، ومولود في مدينة الدار البيضاء……!