يُمكن إعتبار الموسيقار الروسي ديميتري شوستاكوفتش آخر أساطين الموسيقى الكلاسيكية العالمية، فرَغم إنه عاشَ القرن العشرين بكل تحولاته التي طالت المَدارس الموسيقية المُختلفة، ورَغم مُحاولته مُواكبة هذه التحَوّلات أحياناً، إلا أنه ترك بَعد وفاته عام1975 إرثاً موسيقيا ثميناً ورَصيناً مِن الأعمال الموسيقية، مِنها 15 سمفونية و15 رباعية وترية و2 كونشرتو للبيانو والعديد من المتتابعات وسويتات الباليه، كما وﺿﻊ ﻤﻮﺳﯿﻘﻰ تصويرية لكثير مِن اﻷﻓﻼم اﻟﺮواﺋﯿﺔ وأفلام اﻟﻜﺎرﺗﻮن، تحَوّل بَعضها الى أﻋﻤﺎل ﻣﻮﺳﯿﻘﯿﺔ ﻣُﻨﻔﺼِﻠﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺘﺘﺎﺑﻌات ﻣﻮﺳﯿﻘﯿﺔ أو ﺳﻮﻳﺖ، ﻣِﻦ ﺑﯿنها موسيقى ﻔﯿﻠﻢ “ﻋَﺸﺮة أﻳﺎم ھﺰت اﻟﻌﺎﻟﻢ” الذي ﻳُﻮﺛﻖ لأحداث أكتوبر1917 التي أﻟﻒ لها ﺷﻮﺳﺘﺎﻛﻮﻓتش ﺳﻤﻔﻮﻧﯿﺘﯿﻦ، الثانية”إﻟﻰ أﻛﺘﻮﺑﺮ” واﻟثانية عشر”إﻟﻰ ﺳﻨﺔ 1917″. رَغم ذلك لم يَكن شوستاكوفتش على وفاق مَع سلطة ستالين واللجنة المركزية للحزب الشيوعي الحاكم، الذين وصفوه بعَدم الكفاءة والتأثر بالغرب لأنه لم يُمَجّد ما إعتبروه إنجازات رآها زائفة، وإنتصارات رآها مآسي، رؤية عَبّر عَنها في سمفونيته الخامسة ذات الطابع الدرامي والسابعة “لينينغراد” التي عُزفت لأول مَرة في لينينغراد المُحاصَرة والثامنة المأساوية والتاسعة المليئة بالتهكم والسُخرية، ولم تبدأ أنغام الفرح والتفائل بالتسَلل لمؤلفاته إلا أواخر الخمسينات بعد وفاة ستالين عام 1953 أملاً منه بحُرية قد تمنح للشَعب وفنانيه. وبَعد فترة إستقرار عاشَها في عَهد خروشوف، الذي شَهد إنفتاحاً بسيطاً مُقارنة بسَلفه أبدَع خلالها سمفونيتيه الحادية عشر والثالثة عشر، عاد القلق ليتمَلكه بعد تنحِية خروشوف ودخول البلاد بمَرحَلة غير مُستقرة تركت آثارها على نفسية شوستاكوفتش وأعماله التي بَدأت تطغي عليها أنغام كئيبة وموضوعات حَزينة، يُمكن أن نجد ترجَمتها في سمفونياته الأخيرة وتحديداً الرابعة عشر والخامسة عشر وسوناتا البيانو التي كانت آخر أعماله قبل أن توافيه المَنية عام 1975.
مِمّا لا شَك فيه إن سمفونيات شوستاكوفتش هي مِن الاعمال المُهمّة في عالم الموسيقى العالمية، لكنها بكل تأكيد ليسَت أروع ما تركه لهذا العالم، فلِنواعِمه القِصار مَذاق آخر يَجعلها تتميّز وتتفوق على الطِوال مِن مُؤلفاته. وقد تشَكل سمفونياته الـ15العمود الفقري لأعماله،إلا أن نواعِمه هي التي تعَبّر عَن ألقه وعَبقريته. فكونشرتاته ومُتتابعاته وسويتاته ضَمّت في طيّاتها وبَين ثنايا حَرَكاتها قطع موسيقية نادِرة ودُرَر فنية ثمينة أسميتها بالنواعِم لقِصَرها وخِفّتها وبَساطتها، ولكونها تُظهِر جانباً مُختلفاً مِن شخصيته الفنية والإنسانية، وعالماً لا يَمُت بصلة لعالم سمفونياته، عالم لم يَنل حَظه مِن التركيز والإهتمام الذي نالته سمفونياته، عالم يَحتاج الى سَـبر أغواره وإستِكشاف كنوزه والتـركيزعليها قطعة قطعة ليتسَنى فهمَها والإستمتاع بها. في نواعِمه نَجد تجَليات رغبة بالجُموح والإنطلاق بَعيداً عَن قيود يَبدوا أنه كان يَشعر بها تكبّل روحه وإبداعِه قبل يَديه ولِسانه، تجَليات يَبدوا بأنه لم يَكن يَجرؤ على الإعلان والتعبير عَنها بوضوح بل يَعمد لإخفائها ضِمن سِلسلة مِن الحَركات المُتعاقبة والمُتداخلة التي كانت تتضَمّنها سويتاته ومُتتابعاته،والتي كانت مُرونة مَواضيعها المُختلفة والمُتنوعة بين التأريخ والدراما وأفلام الكارتون تسمَح له بإطلاق مَكبوت إبداعه مِن الأنغام والألحان السَعيدة والراقِصة والرومانسية بإفراط أحياناً.
لعَل مِن أبرَز وأروع نواعِم شوستاكوفتش التي على المَرء الإستِماع اليها والإستِمتاع بها نواعِمه الراقِصة مِثل فالس سويت الجاز رقم 2، ورقصة غالوب سويت الباليه رقم 1، ومقاطع سويت شيريموشكي، وفالس سويت الجبال الذهبية، وفالس رقصة الدُمى. أو نواعِمه الدرامية كمَقطوعة الصَيد مِن سويت هاملت، و الحركة الثانية مِن رباعيته رقم 8، والحَركة الأولى مِن سمفونيتيه الخامسة والثامنة، والحَركة الأولى مِن كونشرتو البيانو رقم 2 . أو نواعِمه الرومانسية مِثل رومانس سويت غودفلاي المُفعَم بالعاطِفة، والحَركة الثانية الرقيقة مِن سويت سقوط برلين، والحَركة الثانية مِن كونشرتو البيانو رقم2 المَليئة بالشَجن، ولولباي البيانو. وغيرها مِن الأعمال التي أبدَعَتها أنامل شوستاكوفتش ومُخيّلته الخصبة، كزهور مُتنوعة العُطور والأشكال والألوان.
ليسَ غريباً أن يُعتبر ﺷﻮﺳﺘﺎﻛﻮفتش أحد أھَﻢ ﻤﻮسيقيي اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺸﺮﻳﻦ لأنه كان موسوعياً في موسيقاه، فمِن جهة ﺗﺄﺛﺮ أﺳﻠﻮﺑﻪ بأسلافه مِن الموسيقين الروس كجايكوفسكي ومَجموعة الخمسة، وتظهِر بَعض سمفونياته تأثره بأسلوب الموسيقار النمساوي بروكنر، لذا كان يُعتبر مِن رموز المدرسة الروﻣﺎﻧﺘﯿﻜﯿﺔ المُتأخرة. ومِن جهة أخرى أظهر تأثراً بالموسيقى الغربية بدا واضِحاً في سويت الجاز الأول والثاني. كما إتجه في بَعض مؤلفاته الى الحَداثة واللاتقليدية التي تَظهَر في لا مَقامية ولا تناغم ألحانها، والتي إمتازت بإحتواء تركيبتها اللحنيّة على أنغام غير مُتجانسة وغريبة ومُتقطعة، أشّرَت لمَيله في مَرحلة ما مِن مَسيرته الفنية الى بعض المدارس الموسيقية المُفرطة بحَداثويتها، التي سادَت وبادَت بسُرعة قياسية خلال النصف الأول مِن القرن العشرين، دون أن تترك أثراً يُذكر على الساحة الموسيقية كسابقاتها التي إمتلكت رصانة وأصالة رُبما لم تمتلكها هذه المدارس. لكن الجَميل في شوستاكوفتش هو أنه لم يتأثر كلياً بهذه المَدارس، وقد بدا هذا الأمر واضِحاً في مُتتابعاته وكونشيرتو البيانو 2 وسويتاته التي حَفلت بحَركات ومَقاطع رائعة تجمع بين جمالية اللحن وخفته ورصانة الأسلوب وقوته. بالتالي ولفَهم روحية مولفات شوستاكوفتش ومَنهجه بالتأليف يحتاج المَرء الى سماع مؤلفاته لمَرّات عَديدة بإصغاء عميق وتأني، ليَستطيع التمييز بين بنائها الدرامي مِن جهة وماتختزنه مِن عاطفة مِن جهة أخرى، ثم محاولة الرَبط وإيجاد التناغم بَينها للخروج بصورة واضِحة عَن أعمال تمتاز بخصوصية واضِحة في طريقة بنائها الهارموني.
رَغم الظروف المُتقلبة وغير المُستقِرة التي عاشَها، ورَغم الصَرامة التي كانت تبدو عليه، فقد كان شوستا كما كان يُسمّيه المُقرّبون مَرحاً وصاحِب مُزحة، وإحدى طرائِفه كانت السَبب في إبداعه لواحِدة مِن أشهَر مؤلفاته وأكثرها شَعبية وهي (Tea for two) التي أعاد توزيعها عَن أغنية لفِنسنت يومانس بَعد ان تحدّاه صديقه نيكولاي بإعادة توزيعها أوركسترالياً خلال ساعة، فما كان مِنه سوى أن جَلس وأمسَك بورقة وقلم وقام بتوزيعها خلال 45 دقيقة رَغم أنه لم يَستمع أليها سوى مَرة واحدة كانت كافية لأن يُحولها الى تحفة، وقد عُزفت لأول مَرة عام1928 بأسم (تاهيتي ترول) كجُزء مِن سويته الشَهير (العصر الذهبي) الذي ضَمّ بالإضافة اليها رقصة (البولكا) الشَهيرة. قبل وفاته بفترة وحينما بدأ يَتجه الى العُزلة كتب شوستاكوفتش رسالة الى أحَد أصدقائه قال فيها “لا أستطيع العَيش دون أن أؤلف موسيقى”، لذلك تبقى الطريقة المُثلى للتعَرّف على شوستاكوفتش كما يقول كاتب سيرته سولمون فولكوف هي بالإستماع لموسيقاه وليسَ بقراءة سيرة حياته.
وفي الروابط أدناه مَجموعة مِن نواعِم شوستاكوفتش التي تم الإشارة الى بَعضها في المَقال:
Waltz from the film “Golden Mountains”
http://youtu.be/g0R3xd3MZXI
Jazz Suite – Waltz No. 2
http://youtu.be/7UIHl0oJEpg
Shostakovich Plays Shostakovich – Piano Concerto No. 2
http://youtu.be/BCTEx3w2_jU
The Gadfly – Romance
http://youtu.be/Q0Xfyn0-YhU
Symphony No.5 – 1st movement
http://youtu.be/ABylqDUQ7Go
Tea for Two(Tahiti Trot) – Golden Age
http://youtu.be/y-Z8rN7oTgA
Lullaby for Piano
http://youtu.be/2lLBqerxWDY