23 ديسمبر، 2024 7:33 ص

ربما كان من حسن حظنا نحن أثناء دراستنا الثانوية أن مناهج التأريخ الحديث عنيت بموضوعة النهضة العربية، وأفردت لها فصلاً خاصاً مزيناً بالصور والرسوم. ولم تغفل ذكر أدبيات النهضة ذات العناوين المسجوعة، كما جرت عليه العادة في الماضي الغابر.
وقد استطاعت الصور أن تحتفظ لها بمكان خاص في الذاكرة الشخصية لي ولزملائي الطلبة، رغم أنها كانت توحي بالقدم أيضاً. وأذكر أن أحدهم كان ممتعضاً من صورة النهضوي الكبير رفاعة الطهطاوي – وهي الصورة الوحيدة له على ما أظن – بعمامته الضخمة، وعينيه الحادتين. فقد كان يعتقد أن العمامة الكبيرة رمز من رموز العثمانية التي أحدثت هذا التخلف المريع.
كانت ثمة صور أخرى لجمال الدين الأفغاني، وأحمد فارس الشدياق، وبطرس البستاني أخف وطأة وأقل غرابة. فلكي تستطيع إقناع طالب صغير أن رجلاً ما ينتمي للعصر لابد أن تخلع عليه زياً عصرياً. والناس عادة – والصغار منهم على وجه الخصوص – يعطون للمظهر الخارجي أهمية استثنائية، ويرون أن العلاقة بين الإنسان والعصر تبدأ به دون غيره.
بل إن العنوان المسجوع نفسه الذي استخدمه هؤلاء مثل “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” أو “الساق على الساق في ما هو الفارياق” تنتمي إلى ماض يفترض أنهم ثاروا ضده. ولأن أحداً من الطلبة في تلك السن لم يكن معنياً بالمضمون، وربما يشاركهم الكبار أيضاً، فإن العنوان كانت له دلالاته التي لا تخفى. لكنني حينما كبرت عرفت أن مؤلفين جدداً استمرأوا هذا النوع من الأسماء، ومنهم الدكتور مصطفى جواد (ت 1969) الذي أصدر مجموعة شعرية تحت عنوان “الشعور المنسجم في الدر المنتظم”!
وليس معنى ذلك أن جميع النهضويين الذين حاولوا قلب الطاولة على القديم كانوا يكتبون بالطريقة التقليدية، أو أنهم يستخدمون عناوين مسجوعة طويلة. فهذا هو فرنسيس المراش (1836 – 1873) وضع كتبا بأسماء حديثة مثل “غاية الحق” و”رحلة إلى باريس” و”مشهد الأحوال” و”مرآة الحسناء”، ووضع أخرى بأسماء تقليدية مثل “در الصدف في غرائب الصدف” و”المرآة الصفية في المبادئ الطبيعية” وغيرها!
وقد يبدو الأمر للبعض شكلياً لا يستحق الوقوف عنده، فالمهم لديه أن يكون المضمون مادة نافعة بأسلوب سلس مريح. ولكن الواقع أن الفرق بين كتابين متماثلين في المحتوى يمكن أن يقدم لنا بعض العون. فقد وضع فرنسيس المراش كتاباً بعنوان “رحلة إلى باريس” لا يختلف من ناحية الفكرة عن كتاب أحمد فارس الشدياق (1804 – 1887) “كشف المخبا في فنون أوربا” أو كتاب الطهطاوي (1801 – 1873) “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، لكن الفارق أن رأي الشدياق في فرنسا لم يكن إيجابياً على الدوام. فقد امتدح بريطانيا ورأى أنها أفضل بكثير من فرنسا، ووصف نساءها بالتواضع والوفاء والنقاء، في حين وصم نساء فرنسا بالافتقار للطهارة، والحرص على إظهار المفاتن، والاستبداد مع الرجال. ولكنه لم “يحرم” فرنسا من الإعجاب بها كأمة ذات حضارة، ولم ينس الثناء على طريقة حياة مواطنيها أيضاً.
بيد أن رأي فرنسيس المراش كان إيجابياً على الدوام تجاه فرنسا، فقد وصفها بأنها “دولة مثالية” تقوم على ثوابت محددة مثل تنوير العقول وتهذيب الأخلاق وتوفير النظام الصحي ونشر المحبة بين الناس. وقد أعجب بالمجتمع الفرنسي لأنه مجتمع متآلف متجانس، ينام قرير العين دون الخشية من وقوع عصيان أو تمرد، وليس فيه – وهذا هو الأهم – اضطهاد ديني أو دنيوي!
وعلينا ونحن نقارن بين الرجلين، اللذين عاشا في حقبة واحدة، أن نتذكر أنهما تعرضا للاضطهاد الديني في بلديهما. فقد أعدم شقيق فارس الشدياق بأمر من البطريرك الماروني، لأنه تحول إلى البروتستانتية. وعانى هو وأسرته من تبعات هذا الموضوع، فهاجر من بلدته عشقوت في لبنان إلى القاهرة عام 1820. وربما كان ذلك في ما بعد، أحد الدوافع لاعتناقه الإسلام في تونس. أما المراش فقد قتل عمه بطرس المراش مع عشرة من أقربائه على يد الأصوليين الروم الأرثوذكس عام 1818. وجرى نفي عدد آخر من أفراد الأسرة من مدينتهم حلب منهم الكاهن جبرائيل المراش. لكن هذا لم يمنع فرنسيس من العودة إليها ليمارس مهنة الطب التي درس بعضها في بلاده، وبعضها الآخر في فرنسا.
كانت للمراش قدرات أدبية جميلة تمثلت بإدخال الرومانسية إلى البلاد العربية في وقت مبكر، والتبشير بقصيدة النثر لأول مرة، واستخدم المقامات التي برع فيها أيما براعة. وخصوصاً في كتابه “مشهد الأحوال” الذي صدر في بيروت عام 1870. فهو مجدد في أغراضه الأدبية والنقدية، مثلما هو مجدد في فكره السياسي والاجتماعي.
هكذا بدا الفرق بين النهضويين أنفسهم. من سار إلى نهاية الشوط، ومن مشى إليه برفق. وكانت النتيجة أنهم أحدثوا انقلاباً كبيراً في العقول والأفكار والأذواق. فلما انتهى قرن وحل محله آخر، كان كل شئ مهيئاً للتغيير والثورة.