19 ديسمبر، 2024 12:43 ص

نهضة المآسي والكوميديا السَّاخرة

نهضة المآسي والكوميديا السَّاخرة

في القرن السادس عشر، إبان عصر النهضة في بريطانيا، كتب الكاتب المسرحي كريستوفر مارلو Christopher Marlowe (1564-1593) رائعته “دكتور فاوست” Doctor Faustus التي اكتسبت شهرتها لكونها عمل تراجيدي شديد الجديَّة، يغلب عليه الطابع الديني، لكنه في نفس الوقت شديد الثورية. أمَّا الغريب هو أن المسرحية تخيِّم على أحداثها الكوميديا، بالرغم من أنها تدور حول أرواح معذَّبة من الإنس والشياطين.

واستطاع الكاتب اجتذاب الجمهور ليس فقط بحبكة وحوار وخيال فريد، بل بإرغامهم على التعاطف حتى مع العاصين؛ وأيضًا لومهم على إقتراف المعاصي. ومن أشهر الجمل الحوارية في المسرحية التي تواترت وتناقلت عبر الحضارات المختلفة، هي تلك التي صرَّح بها أحد كبار الشياطين “ميفيستوفيليس” Mephistophilis حينما قال: “ما يبث الرَّاحة في قلوب التعساء هو صحبة أشباههم”، وتم تحوير هذه الجملة إلى أن أصبحت مثل إنجليزي دارج ترجمته: “التعاسة تعشق الصحبة”.

وفيما يبدو أن الكاتب الكبير إبراهيم أصلان (1935-2012) قد سار على نفس الدرب في إبداعه الروائي الذي يدور حول المهمَّشين التعساء الذين يعيشون خارج حدود المكان، دون علم أحدهم شيئًا عن تفاصيل حياتهم البائسة،إلى أن كشف عنها النقاب “إبراهيم أصلان” في رواياتهذات الطابع الثوري الفريد المُثير للجدل. وما يثير الدهشة هو أسلوبه الساخر الذي يُجبر القارئ على الضحك حتى الثمالة بالرغم من أنه يروي حكايات أشخاص تصيبهم الحياة الاجتماعية والحالة النفسية والمكانة الاجتماعية بتعاسة قصوى. ويجب الأخذ في الاعتبار أن أعمال “إبراهيم أصلان” لا تنتمي إلى فصيل “الواقعية القذرة”، بل هي أعمال تنقل الواقع وتنتقده مع الاحتفاظ بروح الشخصية المصرية التي تعتمد على السخرية من مآسيها وتحويل الأحزان إلى مواقف كوميدية.

واستطاع “إبراهيم أصلان” الغوص في أعماق شخصياته وتقديمها بصورة لا يختلف عليها أي فرد؛ لأنه نفسه جزء من واقع المهمشين المهملين في الفناء الخلفي من المجتمع،والمعزولين عنه بأسوار عالية سميكة شيَّدها التباين الاجتماعي والثقافي، اللذان بدورهما عملا على إختلاف منظور المهمشين لطبيعة الأفعال وطريقة الحياة عن هؤلاء الذين يعيشون داخل حدود المجتمع النظامي. وتأتي مصداقية “إبراهيم أصلان” من كونه أحد سكَّان المناطق المهمشة، وبالتحديد حي الكيت كات بمنطقة إمبابة؛ حيثما نشأ وتربى بعد أن نزحت أسرته إلى القاهرة من قرية “شبشير الحصَّة” بمحافظة طنطا. وكان لعمله“بوسطجيًاالفضل في التمعُّن جعله في عالم المهمشين ومشكلاته ودفعه لتأليف مجموعته القصصية الأولى “بحيرة المساء”. وعندما إتخذ وظيفة ثابتة في مكتب البريد، كتب مجموعته القصصية الثانية “وردية ليل”. ومن الجدير بالذكر، أن إبداع “إبراهيم أصلان” نادر ويأتي على فترات متقطعة، لكنها تلقى ترحيبًا واسعًا واحتفاءًا جماهيريًا وأدبيًا. ويجب الأخذ في الاعتبار أن لموطن مولده في طنطا ومكان نشأته في حي الكيت كات بإمبابة حضورًا واسعًا في جميع أعماله، ولربما كانت السبب في لفت الأنظار إلى إبداعه؛ حيث أنه قدَّم في فترة الستينات نموذجًا اجتماعيًا مغايرًا لم يألفه سكَّان أحياء القاهرة، ولهذا كانت أعماله ثورة على تقاليد الكتابة السائدة في ذاك العصر.

وتأنِّي “أصلان” في الكتابة جعله ينتظر عشر سنوات (1972-1981) حتى ينتهي من كتابة أولى رواياته “مالك الحزين”، ولقد قضى تلك السنوات العشر في ملاحظة ودراسة شخصيات تحيط به عن كثب، فكتب عنها وعن واقعها، لدرجة أن الرواية تحتوي على 90 شخصية. ولقد استطاع “إبراهيم أصلان” ببراعة فائقة رسم ملامح كل شخصية بشكل عميق، والعجيب كانت قدرته على طبع كل شخصية على ذاكرة القارئ، وجعل كل منها بطلًا. فالبطل الرئيسي في “مالك الحزين” المكان؛ حي “الكيت كات”،الذي أخرجه “أصلان” إلى النور بعد كبوته الاجتماعيةوالثقافية. فلقد كان حي الكيت كات في الماضي بقعة يرتادها الملوك وعِليَة القوم، إلى أن أصبح بقعة الفقر والبؤس روَّادها. وواصل “أصلان” ثورته على الواقع وتقاليد الكتابة الروائية عندما جعل الأحداث تدور في يومين فقط، دون الالتزام بحبكة واحدة وأسلوب روائي واحد؛ فالعالمالمتكامل الذي صوَّره “أصلان” في نص روائي قصير (نوفيلا) شخصياته المتباينة تقتضي تعدد الأساليب الروائية. ولهذا، نأى “أصلان” بنفسه عن تنميق الكلمات، وآثر الاقتصاد في الوصف والجمل الحوارية؛ وكأنه يؤكِّد أن المهمَّش يجب عليه أن يعبِّر عن نفسه بجمل مقتضبة حتى يجذب انتباه من لا يمرّ بنفس ظروفه البائسة، فأهل السعادة أو من ينعمون بحياة كريمة لا يمكن لهم فهم ما يقاسيه التعساء. ورواية “مالك الحزين” عملًا أدبيًا استثنائيًا في الرواية المصرية، شكلًا ومضمونًا. وشخصيات الرواية وجودها لا يخدم النص الأدبي، بل أن النصّ الأدبي هو من في خدمة إبراز تواجدهم حينما يتواردون بتلقائية على الأحداث عند ممارسة حياتهم اليومية. ومن ثمَّ، لم يحاول “أصلان” تنميقهم شخصهم أو إضفاء لمحة جمالية على سلوكهم أو لغتهم، حتى ألقاب الشخصيات كانت واقعية: “سيد طلب المسخرة، ورمضان الفطاطري الهايف، والأسطى سيد الإنجليزي، ومجاهد بائع الفول، والهرم بائع الكيف. ولقد حازت رواية “مالك الحزين” على إعجاب النخبة وجمهور القرَّاء، وتم إدراجها ضمن أفضل مائة رواية في الأدب العربي.

ولمَّا تلقَّفت السينما المصرية هذا العمل الغني في فيلم أخرجه “داوود عبد السيِّد” تحت اسم “الكيت كات”، عام 1991، حقق الفيلم أيضًا نجاحًا جماهيريًا واسعًا على الساحة المصرية والعربية، علمًا بأن الرواية كانت تركِّز على شخصية “يوسف النجَّار”، ذاك الشاب الجامعي الذي أصبح مثل حي الكيت كات؛ فبالرغم من كونه مثقَّفا، هو غريب عن مجتمع الشباب الجامعي، وحبيس حي إمبابة الذي يعيش فيه حياة من الوحدة والحزن. أمَّا الفيلم، ركَّز على شخصية والده، الذي حكايته واحدة ضمن أخريات عدَّة.

وكما جعل “أصلان” من البؤس والسخرية من قسوة الحياة رابطًا قويًا بين أبطال العمل، جعل من الفكاهة والكوميديا مغناطيسًا. وتباينت ألوان الكوميديا والضحك بين الأسود والرمادي والأبيض. ففي المواقف شديدة القسوة الطاغية على الرواية، كانت الكوميديا سوداء، يضحك فيها القارئ وقلبه يذرف الدمع. وكانت رمادية في المواقف التي تثير الدهشة كما في حكايات وأفعال “الهرم بائع الكيف” ومغامراته في التهرُّب من الشرطة. أمَّا الكوميديا البيضاء الصافية فهي تعبِّر عن مواقف خفيفةمثل سرقة رأس العجل من “الأسطى سيد الإنجليزي” في الأوتوبيس، وكشف “الشيخ حسني” أسرار أهل الحي في الميكرفون إبَّان العزاء، وغيرها من المواقف، مع الأخذ في الاعتبار أن جميعها بائسة.

“مالك الحزين” هي بوتقة لألوان من الضحك الأسود والأبيض والرمادي، ولكل منهم تواجده الخاص في حياة التعساء من المهمشين أو من هم دونهم؛ فالكل شركاء في الهم والضحك.