23 ديسمبر، 2024 12:59 ص

نهاية التاريخ .. دراسة تحليلية لاطروحة فوكوياما

نهاية التاريخ .. دراسة تحليلية لاطروحة فوكوياما

بداية ، لم يخطر في بال أحد في يوم ما ، أن يتجاوز صانعوا النجوم حقل السينما والسياسة إلى حقل الفكر والفلسفة ، فيقدموا إلى دوائر البحث العلمي والأكاديمي ، وإلى نخبة المثقفين في النظام العالمي الجديد فيلسوفاً ، يخلب العقول ، ويتجاوز القول على عمالقة الفكر في كل زمان ومكان ، وتذهب شهرته في الأرض عرضاً وطولاً ، وفي كل اتجاه ، ثم يقال:- هاكم ماصنعنا وأتونا بمثله إن كنتم قادرين.
إن هذا – على وجه الدقة – هو الذي حدث فعلاً . وقد خرجت علينا الماكينة الإعلامية الأمريكية بنجم فلسفي تظاهرت على صياغته روح المغامرة اليابانية وفن هوليود في الإخراج السينمائي ، وحاجة الأمريكان إلى أن يكون لهم فيلسوف ذو شأن بعد أن بعُد عهدهم بروادهم من المفكرين الكبار ممن نستطيع اعتبارهم امتداداً – بطريقة أو بأخرى – للفكر والفلسفة في القارة الأوربية.
وإذا كنا لانعجب ونحن نرى اهتمام الدوائر الأكاديمية الغربية بمثل هذه الصرعة الفلسفية ، ونحمل ذلك على محمل الدعوى العريضة للغربيين بأنهم يملكون آخر الكلام وفصل الخطاب في كل شأن إنساني ، وكنا نرى في ذلك تجلياً جديداً آخر للمركزية الغربية في رؤية التاريخ والفلسفة ، فإن من دواعي عجبنا أن يكون لنا في الوطن العربي كل هذه الضجة حول هذا الفيلسوف المُصنّع (المفبرك) وأن نفرد له ملفات خاصة في كبرى صحفنا ومجلاتنا ، ونعقد لتحليل – غثائه – الندوات ، ونجعله قضية من قضايا نهوضنا الفكري المزعوم.
لقد شغلنا فوكوياما هذا الياباني المتأمرك ، وشغلتنا نظريته – نهاية التاريخ – ولايبعُدُ في العقل أن يكون الاهتمام الزائد بـ “فوكوياما” امتداداً لقلة الاهتمام بما يدبره لنا أعدائنا أو أن يكون الأمران كلاهما درجتين متفاوتتين على محور سقوط واحد.
فإن يكن فوكوياما منادياً بوقوف عجلة التاريخ عند النموذج الليبرالي الغربي، وبأن على كل ذي فكر واجتهاد من أية أمة ، أن يلوي عنقه في اتجاه النمط الأمريكي في الاستهلاك والتفكير ، وحتى في القتل ، فإن مما نعتقده أن كثيراً من عرب اليوم قد أوقفوا عجلة وعيهم عند هذه اللحظة المخزية التي تعبرها الأمة ، وعلقوا أبصارهم بالمطلق الإسرائيلي الذي يدورون في فلكه ، فهو نهاية تاريخهم وخاتمة أمرهم ، ولله في خلقه شؤون.
يقول فوكوياما:- إن الولايات المتحدة هي زعيمة العالم . ويقول:- إن لديه حدساً بأنه سيكون شيئاً هاماً في التاريخ الأمريكي الجديد ، وإنه ربما سيصبح سيداً للبيت الأبيض . ونحن لانستغرب حدوث ذلك إذا كان  بل نراه من طبائع الأشياء ، لما أبداه هذا النجم الفلسفي المصّنع (المفبرك) من حقد على الإسلام والمسلمين ، ومن حرص حريص على مواجهتهم وقهرهم في ديارهم ، ومن استعداء منهجي عليهم .
إنه الناسك الجديد الذي يريد إثارة الغرب لوأد الإسلام ، بحجة الدفاع عن العالم الحر. وينادي بالويل والثبور ، لأن الإسلام قد هزم الديمقراطية الحرة في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي . ولأنه ، فيما يرى ، يوجه تهديداً خطيراً للممارسات التحررية في النظام العالمي الجديد . فهل كان ثمة شك في أن يكون فوكوياما مؤهل أعظم تأهيل لقيادة الوعي الغربي الجديد نحو حرب استشراقية صليبية جديدة على الإسلام ، وفي أن الإعلام الإسرائيلي – الأمريكي حاول أن يجعل منه فيلسوف الفلاسفة ويختلق له قامة تفوق هيغل وكانط وماركس.
قد أكون مغالياً في تأويل أُطروحات فوكوياما ، لكن رجلاً لايرى في قتل مائة ألف هندي أحمر عملاً بربرياً ، ويرى فيه إنجازاً حضارياً ، لن يتورع أن يرى في الإجهاز الدموي على المسلمين ، وفي إقامة إسرائيل الكبرى ، نمطاً من الانتصار للديمقراطية الحرة ، كما هي في وهمه ، أو كما تراها فلسفته المخولة بالنظر في النهايات ، سواء أكانت نهاية للتاريخ ، أم للوعي ، أم للضمير.
مدخل      
        تتحكم في أي عملية تنظير اطروحة توجه مسار النظرية وترفعها لتبني أحكام وقيم وقوانين. وقد ساد في هذا المجال اتجاهان:- الأول يتمثل في اطروحة متمركزة حول الانسان باعتباره كائناً معرفياً وكياناً ثقافياً مركباً ومتعدد الابعاد صاحب وعي تاريخي ينطلق من بنية عقلية ومنظومة فكرية وقيمية وأخلاقية يمكنه العيش في العالم الطبيعي متميزاً عنه ومتجاوزاً اياه. والثانية تتمثل في اطروحة متمركزة حول الطبيعة. والطبيعة كينونة بسيطة خالية من القيمة , حتمية , لا حدود لها ولا تاريخ ولا يحتل الانسان فيها أية مكانة خاصة. فثمة قانون طبيعي واحد صارم يسري على جميع الكائنات. هذه الأطروحة استقطبت الاهتمام في العلوم الاجتماعية وتحولت الى اطروحة مرجعية في عصر النهضة , فطرح مفهوم القانون الطبيعي و الانسان الطبيعي ، شكلت بمجملها نموذجاً تفسيرياً شمل الطبيعة والمادة بما فيها الانسان.
        أن جوهر هذه الأطروحة .. هو أنكار الانسان ككائن ثقافي واجتماعي وتاريخي يستمد حقيقته من كونه كائناً يمكنه الانفصال عن الطبيعة بقوانينها الصارمة وحتمياتها النهائية , على الرغم من أنه يعيش داخلها خاضعاً في بعض أوجه حياته لقوانينها , الا أنه قادر في الوقت نفسه على تجاوزها وتجاوز قوانينها ليتحرك داخل البنى الانسانية والثقافية والتاريخية التي شيدها بنفسه والتي تشكل حيزاً خاصاً به له قوانينه الخاصة. هذا الحيز و ساحته وملعبه الذي يسود به ويمارس فيه خياراته فيصيب ويخطئ ويصحح. لذلك من الصعب التنبؤ بسلوكه وهو ما يتعارض مع الأطروحة الأخرى التي يتمركز فيها الانسان حول الطبيعة والتي يمكن بموجبها كما يفترض منظروها التنبؤ بسلوكه والتحكم فيه وتوظيفه.
         هذا المدخل ضروري لألتقاط المفاتيح المفهومية لأطروحة نهاية التاريخ والتي يبدو معها التاريخ بكل ما يحويه من تركيب ودينامية بأنه واصل لا محالة الى نهايته , حيث يصبح سكونياً خالياً من التدافع والصراع والخصوصية وعندها فقط يمكن السيطرة على قوانين الضرورة التي تؤدي الى معرفة يقينية شاملة وكاملة, وهذه أطروحة علموية ضيقة فقدت الكثير من صدقيتها العلمية.
خطاب النهاية
نهاية التاريخ تنفيذ لمناورة تخويف تستغل بشكلٍ بشع أفكارنا ومُخيلاتنا وهي تستهدف جعل الناس يحبون المآل الأخير الذي لن يستطيعوا تجنبه .
فكرة نهاية التاريخ ليست بفكرة جديدة بل إنها فكرة مرتبطة ومُتجذرة في التفكير الإنساني عبر مختلف العصور ومن المحتمل ان تبقى مراودة للإنسان في توجهاته المستقبلية . ويوضح لنا التاريخ إن الحضارات الكبرى حين تصل إلى درجة كبيرة من القوة عبر اكتساحها لفضاءاتٍ ثقافية وجغرافية واسعة فإنها تدعي العالمية وتنادي ب(وهم الخلود ) أو ما يمكن أن نُسميه ب(وهم العصر الذهبي ) حيث يعتقد بأنها قد وصلت إلى المحطة النهائية لتطور الإنسانية وأصبحت مركز العالم وبالتالي فإنها حققت نهاية التاريخ .
هذا ما حدث مع الإمبراطورية الرومانية والصينية ومع المسلمين أثناء توسعاتهم الكبرى ومع الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر .وهذا ما يحاول ان يقنعنا بهِ فوكوياما فانتشار نمط الحياة الغربية وامتلاك الغرب لكل مقومات القوة والنفوذ المادي والمعنوي عند نهاية القرن العشرين سيجعل منه (روما القرن الحادي والعشرين ) والتي ستملأ بإشعاعها ومبادئها الخالدة كل فضاءات العالم .
إن خطاب النهاية هو خطاب انتصاري يحمل في ثناياه روحاً رِسالية متعجرفة فـ فوكوياما أغرته بعض الوقائع الدولية وجعلته يعتقد أن ( أنا التاريخ ) ومركزها أوربا وأمريكا قد حققت ذاتها وإشباعها , وبالتالي على باقي العوالم أن تلهث وتُسرع لتلتحِق بالتاريخ الكوني . ومن هنا فان الجنوب محكوم عليه بالتبعية الدائمة وسيبقى فاعلاً سلبياً يملأ العالم مجاعات وتهديدات وما سيقلق راحة .. وهنا عالم ما بعد التاريخ .
ولهذا يوضح فوكوياما أن التحولات الثورية الكبرى لا تحدث إلا في العجوز أوربا التي كانت ولا زالت مهد فكرة الحرية الإنسانية . وعلى البشر ان يتخلوا عن كل تواريخهم فقد أصبح التاريخ الأوربي التجسيد المطلق للتاريخ العالمي.
إن فوكوياما يحاول مصادرة حق الشعوب والحضارات في الحلم والتطلع إلى اختبار مصيرها وفي التفكير بمستقبل يرافق رؤاها وثقافاتها ليحكم عليها بقدرها الأبدي في الخضوع لخيار واحد قد يقود في حدوده القصوى إلى الانتحار الجماعي من اجل آلهة الإنتاجية والاستهلاكية .
لنتذكر أن الثقافة الأمريكية ثقافة مرتبطة بالمكان والجغرافية وليس التاريخ فالولايات المتحدة الأمريكية لا تمتلك حساًَ تاريخياً ولا ذاكرة تاريخية لذلك من الصعب على الكثير من مفكريها أن يدركوا معنى التاريخ الشامل للبشرية وجدلية الحضارات ودوريتها عبر التاريخ وإمكانية انبعاثها لإعادة تشكيل فضاءاتها الثقافية بشكل مخالف للغرب .
قد تكون اطروحة نهاية التاريخ صائبة من وجهة نظر استنفاذ التاريخ الغربي لأفقه النظري وانغلاق إمكانياته الفكرية لدخوله عصر فراغ فكري وآيدولوجي حاد , حيث لم تعد هناك نظريات شمولية جديدة واستراتيجيات سياسية كبرى ومنظومات ايديولوجية قادرة على خلق التعبئة وسط الجماهير . وذلك لغياب الحوافز التي حركت الثورات الفكرية في الفكر الغربي.
ويبدو إن خطاب نهاية التاريخ لا ينفصل في عمقه عن الخطاب الفلسفي لموت الإنسان لدى نيتشه  هايدغر , فوكو, دريدا . ولعل مشكلة الثقافة الليبرالية الغربية ليس في فشلها بل في نجاحها وبامتياز .
فقد امتلكت قدرة فائقة على التكيف والاستمرارية , وعرفت مفكرين كباراً حاولوا التنظير والتفكير في التحديات المطروحة أمام الليبرالية لمنحها الديناميكية اللازمة للتطور نحو الأفضل .
لقد كان هيغل يردد في عبارة شهيرة (الفكرة تنحط حين تصبح واقعاً ) ويبدو أن الليبرالية قد حققت أوج عطائها وذروة تقدمها فأصبح السؤال وماذا بعد ؟
نهاية التاريخ تعني الانقياد وراء الإنسان ذي البعد الواحد والخاضع لثقافة عالمية موحدة قائمة على هاجس التقدم والتراكم اللا نهائي بدون أي وعي عميق بالشرط الإنساني في بعده الشامل .

يوتوبيا الخراب
خرائبية النموذج / الحلم
الحقيقة الملازمة للتاريخ والتي لم يتخل الإنسان عن الهجس بها يوماً ، هي الرغبة الدائمة في التعبير عن المشروع الحالم للإنسان بحياة أفضل ، ومن النادر العثور على عصر لم تكن فيه اليوتوبيا مطروحة وملازمة للفكر الإنساني . وهي تتبعد في تجذرها التاريخي الغربي الذي يعتبر المدينة الفاضلة لأفلاطون هي السبق الغربي لأنشودة الإنسان الداعية إلى الحلم بحياة أفضل ، فالإرهاصات الأولى يمكن أن نحددها بالإطلاع على معارف شعوب الشرق القديمة ، ففي الفكر الصيني القديم لايمكن تجاوز محاولة كونفوشيوس الحالمة في تحقيق مجتمع عالمي موحد . إضافة إلى مانقلته لنا ألواح سومر وماسجلته النقوش في شريعة حمورابي وعهد لقمان الملك وماحوته مدونات شريعة مانو . وكلها سعياً نحو رسم الحلم القديم بالتوق للتغيير . ويمتد هذا الحلم الآدمي مرتطماً وفي أزمنة خراب الحلم الإنساني حينما دخل عبر انتشار موجة عزلة المكان في الذهنية اليوتوبية.
إن التناقضات الكبرى هي التي تولد أكبر الأفكار وماتخلفه الإرتكاسات الصغيرة إلا زيفاً تظهره منهجية آلة القهر والهيمنة حينها تغييراً كبيراً . وهنا يقف زيف لذة فوكوياما في امتشاقه سيف نهاية التاريخ ليفضح بذلك يوتوبيا الخراب ، ومن خلال الموقع الذي يشهد انجلاء التطبيق الفعلي للمقولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للنظريات الرمادية التي سادت عن مجتمع رأسمالي في نموذجين ، نموذج رأسمالية الدولة ، ونموذج رأسمالية الطبقة . ويسجل هذا الأخير انهياره في نموذجه في الممارسة على الساحة الغربية ، الأمر الذي لايعني أزلية النظام الآخر ، كما يحاول إيديولوجيو الليبرالية اليوم تبنيه في الوقت الذي تحمل فيه نقطة النشوة المُدعى توقف التاريخ عندها جينات الإنقراض أكثر من النموذج المتراجع ، فالذي حدث هو انتصار آلة القهر الإرادي في النموذج الأول على آلة القهر المركزية في النموذج الثاني.
إن الوجه الأكثر وضوحاً والذي أخذته صور خرائبية الحلم هو تيار العنف الذي صبغ مشاريع الحلم في أكثر مواقعها ، حيث الجهات والأمكنة التي تقوم دوماً بطرح المشروع ، وإذا لم يكن هكذا فحينها تنطلق المبادرة من الجماهير وفق معادلة العرض – الاختيار- مقدار التضحية.
يبقى العنف ، القسر ، الإرهاب ، مداخل يوتوبيا الخراب . وبهذا قال هراقليطس:- الحرب هي أم الأشياء كلها . وهذه الرؤية لإنسان فجر التاريخ ماتزال تحتفظ بالكثير من ذات البريق بل أخذت أبعاداً أكثر تكاد تصل إلى البنوة والأبوة للكثير من الأشياء . وهنا أورد:- إن 3400 عام من التاريخ المدون للمجتمع الإنساني خضعت لدراسة كشفت أن هذا التاريخ مدمى بالمعنى الحقيقي للكلمة . حيث إن 3166 كانت مدار الحروب والقتل والتشريد ، في المقابل بقيت 234 عاماً توقف فيها التاريخ عن سرد أحداث قصة الدم.
إن التاريخ الإنساني المشوه بفعل إرادي يبدو التشويه فيه وكأنه الأصل ، وذلك بفعل قوى التناقض في الإنسان ، وهو الواقع الذي ينحل عن حرب أو يؤسس لحرب، وهكذا يسير ولن يعرف نقطة للتوقف بل نشاهده في تسارع عنيف في دوامات التدوير.
وهكذا يبدو العنف ليس عملاً سياسياً فحسب بل أداة سياسية تعبر عن الواقع الاجتماعي وتفسر علاقات الاجتماع ، إنه يعبر عن أزمة فطرية في منطق الاجتماع البشري ، فهو ظاهرياً استمرار للعلاقات بوسائل أخرى، لكنه في الأصل صورة عن الاجتماع البشري كله ، وبذلك يكون العنف هو الآلية (الميكانيزم Mechanism) الأقوى في منظومة العامل الاجتماعي محرك التاريخ.
إن فهم العلاقات التاريخية بين الداخل الغربي والعالم الخارجي ، هو المصوغ الذي لابد أن يصار من خلاله لفهم يوتوبيا الخراب السائدة والتي توقف المستقبل عند حدها ، فالعلاقات بين الداخل والخارج قامت على أساس سلسلة طويلة من العنف ، العنف العسكري ، عنف الهيمنة الاقتصادية ، وعنف الهيمنة الثقافية ، فقامت تلك العلاقات على خلفية سلسلة من حروب الغزو التي شنها الغرب على جهات العالم الأربع ، منذ نهاية القرن الخامس عشر حتى اكتمل له البناء الأساسي في البنية التحتية للتمكن من صياغة التحولات الكبرى ، فالحقبة الممتدة من نهاية القرن التاسع عشر وإلى نهايات القرن العشرين ، هي الحقبة الوحيدة التي بدأ الداخل الغربي من خلالها في نمو داخلي بشكل مكثف من خلال الأسواق والتبادل الحر والتكديس والتراكم الداخلي المستمر ، في الوقت الذي لم تنقطع فيه علاقات الاستعباد والهيمنة بين الداخل والخارج.
من خلال هذه الصياغة استطاعت يوتوبيا العنف أن توفر معطيات وأسباب إنتاج المستقبل الغربي ، في سرقة المستقبل من أجيال شعوب العالم في جهاته الأربع، وهذه الصياغة التي تطرح ليبرالية في ظل عجز نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين ، عن إفراز وعي يدرك خرائبية النموذج تكاد أن تسقى للشعوب كقدر أفلس في إحدى بورصات رأس المال الغربي.

الليبرالية الديمقراطية :
من مستنقع التاريخ الى اللاتاريخ:
بعد انتصار الحلفاء على الفاشية في الحرب العالمية الثانية ، وبعد انتصار الغرب على الشرق في الحرب الباردة ، يكون التاريخ قد بلغ نهايته ، لأنه بلغ غايته، وغاية التاريخ كما حددها فوكوياما ، تحقيق المساواة والحرية للإنسان اللتين لم تتحققا إلاّ في نظام الديمقراطية الليبرالية السائد في الولايات المتحدة الأمريكية وبقية بلدان أوربا الغربية . وبذلك ، يستوجب علينا أن نشكر فوكوياما لأنه أثار انتباهنا إلى الدور العظيم للتصورات الفكرية عن مجرى التاريخ الاجتماعي العالمي . ففي كتابه هذا كانت أهم فكرة حاول البرهان عليها هي (إننا كنظم ليبرالية ديمقراطية حرة) قد خرجنا أخيراً من مستنقع التاريخ إلى اللاتاريخ ، أي إلى طريق خالية من التناقضات والنزاعات الأساسية في المجتمع ، وإن الليبرالية الديمقراطية هي الإحساس الفكري والنموذج الإيديولوجي الوحيد الذي انتصر على الإيديولوجيات الأخرى . فالعالم حسب تصوراته يتحرك الآن باتجاه الأنسنة.
للوهلة الأولى ، عندما يرى المرء عنوان كتاب فوكوياما معروضاً ، يتبادر إلى ذهنه أجواء الأساطير والخرافات أو كوارث طبيعية ما ، أو حتى كوارث سياسية، كحرب نووية تلوح في الأفق تهدد البشرية بالدمار والفناء ولكنه عندما يشرع بتصفح هذا الكتاب ، يكتشف أن فوكوياما جاد جداً بـ(نهاية التاريخ) ولكن بآلية مختلفة عما هو عليه في تصورات من يلحظ العنوان لأول وهلة.
وعند قراءتنا لهذا الكتاب نستنتج أن فوكوياما يحاول تفسير أفكار الكثيرين من الفلاسفة والمفكرين العظام لتسويقها في خدمة وجهة نظره هذه (نهاية التاريخ) ، وله كل الحق في ذلك ، لكننا نختلف كل الاختلاف في هذا التفسير لأنه قدم لنا جهداً أيديولوجياً أكثر منه جهداً معرفياً ، هادفاً من ذلك إثبات أن الليبرالية الأمريكية بشكل أساسي هي قمة العطاء الإنساني.
نعم ، يمكن الحديث عن الديمقراطية والحرية وحتى الليبرالية على المستوى النظري ، ومدى حاجة البشرية لها ، ولكن الهدف السياسي عند فوكوياما قد اعتلى المنصة وكان حافزاً لإعلانه نهاية التاريخ . فبغض النظر عن أن الكتاب موثق بشكل علمي إلاّ أن الرغبة الجامحة والعصبوية الصارخة وتسييس الفكر الفلسفي ، أضفى على الكتاب حالة احتضار للحقيقة التي يطرحها صاحبها.
ويؤكد فوكوياما:- إن العالم يسير بمجمله صوب الديمقراطية الليبرالية ، وإن كانت المسيرة ستتعثر هنا أو هناك ، وإن كانت ستتراجع في بعض الأحيان ، وإن كان العالم سيشهد إلى فترة طويلة ، عالم التاريخ (الدول التي لم تصل إلى الديمقراطية الليبرالية بعد) يعيش جنباً إلى جنب مع عالم ما بعد التاريخ (الدول التي حققت الديمقراطية الليبرالية) . أما السبب الذي سيقود العالم في هذا الاتجاه ، فهو قدرة العلوم الطبيعية على التطور باستمرار ، محققة ازدهاراً اقتصادياً وارتفاعاً في مستوى التعليم وبالتالي مزيداً من المساواة والحرية.
إن فوكوياما يريد أن يصل ، إلى أنه بينما شابت أشكال الحكم السابقة عيوب خطيرة وانتهاكات للعقل أدت في النهاية إلى سقوطها ، فإن الديمقراطية الليبرالية قد يمكن القول:- بأنها خالية من تلك التناقضات الأساسية الداخلية وليس معنى ذلك القول بأن الديمقراطيات الراسخة المعروفة في زمننا هذا كالولايات المتحدة أو فرنسا أو سويسرا ، لاتعرف الظلم أو المشكلات الاجتماعية الخطيرة . غير أن هذه المشكلات هي في ظن فوكوياما ، وليدة قصور في تطبيق المبدأين التوأم (الحرية والمساواة) اللذين قامت الديمقراطية الحديثة على أساسهما ولاتتصل بعيوب في المبدأين نفسيهما. فقد تفشل بعض دول عالمنا اليوم في تحقيق ديمقراطية ليبرالية مستقرة وقد يرتد بعضها إلى أشكال أخرى للحكم أكثر بدائية ، كالحكومة الدينية أو الدكتاتورية العسكرية . إلاّ إنه من غير المستطاع أن نجد ما هو أفضل من الديمقراطية الليبرالية مثلاً أعلى.
أما لماذا يسير العالم باتجاه الديمقراطية الليبرالية بالذات ، فذلك لأنها وحدها التي تجمع معاً ما تطلع إليه الإنسان من مساواة ومشاركة في الحكم عبر المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية الديمقراطية ، ومن حرية وتمتع بالحقوق الليبرالية.
غير إن فوكوياما يضيف:- لقد حققت بعض الدول الاستبدادية مستويات مرتفعة من التقدم العلمي والاقتصادي والتعليمي ، ومع ذلك لم تكن ديمقراطية ولاليبرالية . كما إن بعض الدول كانت في مرحلة من مراحل تاريخها (بريطانيا القرن السادس عشر) ليبرالية ولم تكن ديمقراطية . وعليه يؤكد:- ثمة عامل إضافي أساسي ، إذن ، يقف وراء وصول الدول إلى الديمقراطية الليبرالية ، ولايمكن بدونه الوصول إليها ، ويسمى ذلك العامل بـ (الرغبة بنيل الاعتراف) أو حسب اللغة الإغريقية (ثيموس Thymos)*.
وحتى يكون بإمكاننا فهم فوكوياما بشكل أفضل ، يصبح من المهم المضي قدماً وقراءة المزيد من التفاصيل التي تشرح بها فوكوياما مضمون الـ “ثيموس” ومعانيها المختلفة.
ففي المبحث المعنون – الصراع من أجل نيل الاعتراف والتقدير – ثم في ما تلا ذلك المبحث من مباحث، يفصل فوكوياما ما مفهومه للـ “ثيموس” ويبين أنواعها، فيحدد الايجابي والسلبي من أوجهها ، ويوضح كيف أنها العامل الأساسي لوصول الدولة الرأسمالية إلى غايتها الديمقراطية الليبرالية ، وكيف أنها عندما غابت أو قمعت في الدول الاستبدادية الشمولية أدى غيابها إلى سقوط تلك الدول . ثم يناقش الحجج التي يطلقها منتقدوا الـ “ثيموس” باعتبارها محركاً للتاريخ من اليسار واليمين، من اشتراكيين أو ديمقراطيين مغالين أو ليبراليين مغالين .. إلى أن يؤكد ، على إن الدولة الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية هي الدولة التي تحقق ملكوت الحرية والمساواة على الأرض.
يقول فوكوياما:- (ثمة جانب مظلم للرغبة في نيل الاعتراف جعل فلاسفة كثيرون يرون في الثيموس المصدر الأساسي للشر بين البشر) . ( فوجود بعد أخلاقي للشخصية الإنسانية يقوم دائماً بمهمة تقييم الذات وتقييم الآخرين ، لايعني توافر الاتفاق على مضمون موضوعي للأخلاق وبالتالي فإن الثيموس في أبسط مظاهرها هي نقطة البداية في النزاعات بين البشر).
كذلك (فإنه ليس هناك ما يضمن أن يظل تقييم الفرد لنفسه داخل حدود هذه الذات الأخلاقية ، كما إن الفرد قد يطالب بالاعتراف بقيمته المعنوية فإنه قد يطالب أيضاً الآخرين بالاعتراف بتراثه أو بقوته أو بجماله) والأهم من ذلك إنه (ما من سبب يدفع إلى الاعتقاد بأن كل الناس سيقيمون أنفسهم باعتبارهم متساوين مع غيرهم بل قد يسعون إلى نيل الاعتراف بأنهم أرقى من غيرهم نتيجة زهو وتقييم مبالغ فيهما للنفس. وسنطلق من الآن فصاعداً على الرغبة في نيل الاعتراف بالتفوق على الآخرين كلمة جديدة لها أصل إغريقي ، هي ميجالوثيميا . أما عكسها فهي ايسوثيميا أو التعادلية ، وهي رغبة الإنسان في أن يُعترف به مساوياً للآخرين).
ويؤكد فوكوياما:- إن الميجالوثيميا هي مصدر كل الحروب سواء أكان الأسياد الذين يشعرون بالتفوق  زعماء متعصبين أو زعماء عنصريين أو غيرهم . وعليه –حسب فوكوياما – فإن الرغبة بنيل الاعتراف المتكافئ والرغبة بنيل الاعتراف بالتفوق ، ظلتا متصارعتين في مختلف المجتمعات ، وستظلا كذلك في ظل الديمقراطية الليبرالية . والسؤال هو:- كيف استطاعت ، وكيف تستطيع ، هذه الديمقراطية أن توفق بين هاتين الرغبتين المتصارعتين؟
يفرد فوكوياما في كتابه مبحثاً خاصاً للإجابة عن هذا السؤال . وما يهمنا من كل هذا المبحث ، قول فوكوياما:- إنه عندما تقوم الدولة الديمقراطية الليبرالية بالتوفيق بين الايسوثيميا والميجالوثيميا ، مهما تعددت أشكال هذه الميجالوثيميا – السيادة ، القومية ، الاستبداد ، الفاشية ، الشيوعية … – فإن ملكوت الحرية على الأرض يكون قد تحقق.
ويؤكد فوكوياما:- إن أشكالاً من الميجالوثيميا ستظل موجودة في الديمقراطية الليبرالية (التفوق العلمي ، التفوق الرياضي …) ولكنها أشكال غير مدمرة ، عكس ما يمكن أن يحدث من أشكال ضارة (التطرف في الدفاع عن البيئة أو الدفاع عن الحيوان …).
والنتيجة التي يخلص إليها فوكوياما هي:- إن خاتم البشر ، ذاك الذي سيعيش في ظل نظام الديمقراطية الليبرالية ، وفي ظل التوافق بين المساواة والحرية ، وفي ظل رخاء اقتصادي ورفاهية ، سيكون إنساناً سعيداً ، عكس ما يظن نيتشه من أنه سيكون إنساناً خاوياً ، إذ يستطيع الإنسان أن يتغلب دائماً على الخواء بفتح آفاق جديدة في العالم والتقدم ، فينتقل بذلك من عالم الضرورة الذي قال ماركس عنه إنه يطبع عالم ما قبل التاريخ إلى ملكوت الحرية الذي قال عنه ماركس أيضاً ، إنه سيصبح عالم ما بعد التاريخ . والفرق واضح بين فوكوياما وماركس . فالأول يقول – إنه عالم ما بعد التاريخ هو عالم الديمقراطية الليبرالية وليس عالم الشيوعية التي انهارت.
         أن طرح فوكوياما هذا حول مسألة نهاية التاريخ والمخلوق الذي يولد في النهاية , أي الانسان الأخير, جعل الكثير يعتقد بأن أمكانية نهاية التاريخ تدور في الواقع حول السؤال التالي:- هل يوجد بشكل ملموس في العالم الراهن بدائل للديمقراطية الليبرالية قابلة للحياة؟
         وأحتدم الجدل أيضاً حول مسائل أخرى:- هل أنتهت الشيوعية فعلاً؟ هل بأمكان الدين أو القومية المتطرفة العودة بشكل قوي؟
        ولكن السؤال الأكثر جدية والأكثر عمقاً يتعلق بصلاح الديمقراطية الليبرالية بحد ذاتها وليس بمعرفة اذا ما كانت ستنجح أم لا في الانتصار على خصومها الحاليين. ولو أفترضنا ان الديمقراطية الليبرالية هي حالياً بمنأى عن الأعداء الخارجين , فهل بأمكاننا التأكيد ان المجتمعات الديمقراطية الناجحة تستطيع أن تبقى كذلك الى ما نهاية؟ أم بالاحرى هل أن الديمقراطية الليبرالية هي فريسة تناقضات داخلية , تناقضات هي من الخطورة بحيث أنها ستنتهي بهدم النظام السياسي الذي تشكله؟
         من المؤكد ان الديمقراطيات المعاصرة تواجه الكثير من المشاكل الحساسة بدءاً من المخدرات والتشرد الجريمة وصولاً الى الأضرار المسببة للبيئة والى عبث الاستهلاك. ولكن كما يبدو , فأن المشاكل ليست بلا حل بحسب قاعدة مبادئ الليبرالية. وهي ليست من الخطورة بحيث أنها ستؤدي لا محالة الى أنهيار المجتمع بمجمله كما شهدنا الشيوعية تنهار في نهاية الثمانينات.
ديمقراطية فوكوياما
         أن تاريخ الديمقراطية وأصالتها حسب فوكوياما مقطوعة الجذور لم تجد في العالم قبل العام 1776 , تاريخ اعلان استقلال الولايات المتحدة. فديمقراطية اثينا في عهد بريلكيس لا يمكن اعتبارها ديمقراطية لأنها لم تكن تحمي بانتظام الأفراد بل أن هذه الديمقراطية الاثينية تمكنت من أعدام أشهر مواطنيها سقراط لأنه مارس بحرية حقه وافسد الشبيبة بحسب تعابير قرار الاتهام.
        الديمقراطية الليبرالية عند فوكوياما مع الولايات المتحدة الأمريكية وهو يفاجئنا بأفكاره للجذور الاوروبية للديمقراطية الغربية فيتنكر للماغناكارتا , الوثيقة الكبرى التي وقعها عام 1215 , الملك جون بضغط من طبقة النبلاء , والتي شكلت نقطة الأنطلاق نحو قيام النظام الدستوري والذي أدى عام 1265 , الى تشكيل أقدم برلمان في العالم في بريطانيا , وهذا كان طبعاً ليس فقط قبل استقلال الولايات المتحدة الأمريكية بل حتى قبل اكتشاف أمريكا بأكثر من مائتي سنة. وهو بهذا الادعاء يريد أن يعلن أن الديمقراطية الأمريكية هي أول ديمقراطية حقيقية عرفها التاريخ , وهو أدعاء يفتقد الى الموضوعية.
ويتساءل فوكوياما:- لماذا لا تتبنى أغلب البلدان الديمقراطية الليبرالية طالما هي شكل الحكم الأكثر عقلانية؟
         يجيب فوكوياما عن هذا السؤال معتبراً الثقافة يمكن أن تشكل عائقاً أمام الدمقرطة. والانتقال الى الديمقراطية والعوامل الثقافية المعوقة يراها تتمثل بـ:-
درجة قوة الانتماء الاثني. فمع ان الرغبة في الاستقلال والسيادة القومية يمكن ان تكون محرضاً لعملية الدمقرطة الا انه يعتقد ان الديمقراطية لن تظهر في البلاد التي تكون فيها القومية أو الانتماء الاثني لمجموعاتها الدستورية نامية جداً الى درجة لا تسمح لهذه المجموعات ان تقتسم مفهوماً موحداً للامة أو ان تتبادل الاعتراف بحقوق بعضها بعضاً.
الدين ، يعتبره ايضاً عائقاً أمام الديمقراطية موضحاً انه لا يوجد صراع دستوري بين الدين والديمقراطية الليبرالية الا عندما يكف الدين عن كونه متسامحاً وعادلاً. ويستشهد بـ هيغل الذي يعتقد ان المسيحية مهدت الطريق امام الثورة الفرنسية برفعها شعار لمساواة أو بـ ماكس فيبر معتبراً البروتستانتية وحركة الاصلاح الديني كانتا وراء نشأة الرأسمالية وحركة العلمنة وان معظم الديمقراطيات الحالية هي كاثوليكية , ويتابع فيقول ان البوذية والشنتوية اقتصرتا على المجال التعبدي , أما الاسلام فهو دين كلي شمولي كاليهودية , يريد فرض قواعد على محل مظاهر الحياة الانسانية العامة والخاصة بما في ذلك مجال السياسة.
البنية الاجتماعية , حيث يشكل الوجود المسبق لبنية اجتماعية غير عادلة أصلاً عقبة أمام ظهور ديمقراطية مستقرة. فقوة واستقرار الديمقراطية في أمريكا يرجعان الى العادات الثقافية المهيمنة التي انتقلت الى أمريكا الشمالية من أنكلترا وهولندا الليبراليتين , بينما حظيت دول أمريكا اللاتينية بموروث اسباني أو برتغالي استبدادي.
قدرة الجماعة على خلق مجتمع مدني سليم , وهنا تظهر قدرات الشعوب على تطبيق ما يسميه توكفيل – فن التجمع – بعيداً عن كل تدخل الدولة , حيث يعتبر ان افضل شكل للديمقراطية يتبدى اذا ما بدأت من الأسفل الى الأعلى وليس العكس. فالحكومة المركزية تظهر في هذه الحالة كناتج طبيعي للسلطات الحاكمة المحلية المتعددة , وللجمعيات الخاصة التي تستعمل كمختبرات ومدارس للتعلم وممارسة الحرية والتحكم بالذات.
تشكل هذه العوامل مجتمعة ثقافة شعب , واختلاف ثقافات الشعوب يفسر اختلاف موقفها من الديمقراطية , ويفسر مدى قابلية هذه الشعوب للدمقرطة. وبالتالي تصبح بعض الشعوب وفق هذا التحليل عاجزة عن ان تتحول نحو الديمقراطية لأسباب ثقافية عميقة , وفي هذا شبهة التقسيم العنصري الجديد واضحة الدلالة.
الأخطر من هذا , ان فوكوياما يبدو مطمئناً لخلاصة تحدث عن الصفة اللاعدوانية للمجتمعات الليبرالية. وهو تحليل يلصق هذه الصفة ويلحقها بالدول غير الليبرالية وهو بلاشك تحليل غير نزيه عدا عن أنه مناف للحقيقة. فاذا كانت النزاعات بين الدول الليبرالية غير متفاقمة في النصف الثاني من القرن العشرين فان هذه الدول ومنذ بداية القرن التاسع عشر تسببت وخاضت أبشع أنواع الحروب وأقسامها والتي نتج عنها مقتل ما يزيد عن مائة مليون انسان عدا ارتباطها بظاهرة الاستعمار والتمييز العنصري.
المنافسة الايديولوجية
أن اطروحة نهاية التاريخ التي قدمها فوكوياما والتي اثارت عاصفة من السجالات تنطلق من أن المعالجة في مجال الايديولوجيا والوعي لا تكمن في الأفكار التي يحملها الناس في أي مكان بل تكمن في ما يمكن اعتباره ارثاً ايديولوجياً للبشرية. وهو ما يتمثل بالضبط في الافكار الليبرالية في القرن العشرين. لقد واجهت الليبرالية الفاشية والنازية واسقتطهما وواجهت الشيوعية فهزمتها , وهذه المنافسات اصبحت في حكم الموتى , وهو يتساءل :- بعد ذلك هل بقي هناك منافسون ايديولوجيون؟
يقرر جواباً عن هذا السؤال :- ان الديمقراطية الليبرالية تشكل فعلاً منتهى التطور الايديولوجي للانسانية , والشكل النهائي لأي حكم انساني بعد انهيار الاتحاد السوفياتي , ما يعني نهاية التاريخ وتحقق الانتصار الشامل للنموذج الحضاري الغربي كخيار وحيد لمستقبل الانسانية. ففي نهاية التاريخ لا يبقى منافس حقيقي للديمقراطية الليبرالية ولكن مع ذلك هناك امكانيتان حسب فوكوياما تتمثلان بالدين والقومية.
فعلى المستوى الديني لم يظهر في العالم الحديث الا الاسلام كنظام ايديولوجي متماسك شأن الليبرالية والماركسية , له نظامه الاخلاقي الخاص , وعقيدته الخاصة في العدالة السياسية والاجتماعية. وهو يعترف بأن الاسلام هزم الديمقراطية الليبرالية في اجزاء متعددة من العالم الاسلامي , وهو لا يزال يشكل تهديداً كبيراً للممارسات الليبرالية حتى في البلدان التي لم يستطيع استلام السلطة فيها مباشرة.
ويخلص الى ان المسلمين لن يتمكنوا في المدى المنظور من منافسة الديمقراطية الليبرالية في عقر دارها في مجال الأفكار , لكنهم قد يفعلون ذلك في بلادهم. ومع ذلك يبدو مطمئناً الى ان المستقبل حتى في البلاد الاسلامية هو للأفكار الليبرالية التي تتمتع بجاذبية مميزة وسط قطاعات واسعة من المسلمين وبخاصة في المئة والخمسين سنة الماضية.
ان السياق المنطقي لأطروحة نهاية التاريخ يؤول الى انتقاء أسباب الصدام بين الدول والشعوب كمحصلة طبيعية لسيادة شكل الحكم الأكثر عقلانية بلا منافس ايديولوجي حقيقي. على إن فوكوياما ينعطف عن هذا السياق المنطقي بشكل مفاجئ مقرراً ان العالم في المستقبل سينقسم الى جزء ما بعد تاريخي يضم الدول الديمقراطية وجزء آخر يظل دائماً في التاريخ ودورته المفتوحة ويشمل الدول غير الديمقراطية الا اذا انتقلت الى جنتها ، عندها فقط ترقى الى الجزء ما بعد التاريخي , فالخط الفاصل بين العالم بعد التاريخي والعالم التاريخي يتغير بسرعة.
في العالم الأول سينتهي الصراع لمصلحة التفاعل الاقتصادي بين دولة وستفقد سياسة القوة أهميتها. وبالتالي فان الحروب والأخطاء العسكرية ستنتهي بين ظهرانيه , بينما يبقى العالم المنخرط في التاريخ مواصلاً لأنقساماته ونزاعاته وصراعاته الايديولوجية والقومية والدينية نظراً الى توفر أسبابها. وبالتالي فالخلاص والنجاة للأمم والشعوب هو بالالتحاق بركب الديمقراطية الليبرالية. أما العلاقات بين العالمين فسوف توفر لها محاور عديدة يتصادمان فيها وستظل مشحونة بالحذر والخوف المتبادلين بحيث تبقى الكلمة الفصل للقوة , وتظل بالتالي الامبريالية بما هي هيمنة على مجتمع آخر بالقوة والحرب أحدى الثوابت في الدول التاريخية وسيلة تحقق بها الغريزة التيموسية التي هي المحرك الأساسي لنشوب الحروب والصدامات بين البشر.
البديل الآيديولوجي
لقد تحقق شبه إجماع كوني على اعتبار الديمقراطية الليبرالية النموذج الأسمى للنظام السياسي واكتمال حركية التاريخ تتجسد في الدولة الليبرالية الحديثة . وحتى لو لم ينجح النظام الليبرالي على المستوى الواقعي في عدة مناطق , إلا انه أصبح النظام السياسي الأكثر شرعية ولا يوجد مشروع أو بديل آيديولوجي او سياسي له الإمكانيات الكافية لتحديه , فقد أصبح الأفق الأسمى الذي يتطلع إليه البشر والذي سينتهي إليه كل نظام اجتماعي كيفما كانت طبيعته وولاءاته الايديولوجية والقيمية , فمن بين مختلف الأنظمة السياسية التي ظهرت عبر التاريخ الإنساني من الملكيات إلى الارستقراطيات وحتى الأنظمة الثيوقراطية والفاشية والشيوعية, يبقى الشكل الوحيد للحكم الذي حافظ على اكتماله وصدقيته حتى نهاية القرن العشرين هو النظام الديمقراطي الليبرالي .        
لكن , لماذا سيصبح النظام الليبرالي هو الأساس للانخراط في التاريخ الكوني وتحقيق الدولة العالمية الليبرالية ؟
يعتقد فوكوياما مقتفياً خطوات كانط , هيغل , ماركس , بوجود تاريخ كوني موحد للإنسانية يختزن تجارب كل الأزمنة والشعوب , وهذا التاريخ يتجسد اكتماله حين يتحرر من التناقضات والصراعات وتحقق الإنسانية شكلاً مجتمعياً يستجيب  لرغباتها الأساسية .
ويرى فوكوياما ان التناقضات الجوهرية في المجتمعات الغربية الحديثة قد انتهت فلم تعد هناك مشكلات أساسية لم تجد لها حلاً داخل المنظومة الليبرالية الحديثة وهذا ما يعد بقدوم عصر الدولة العالمية المنسجمة والتي يعتبر الاتحاد الأوروبي نواتها الأولى .
إن الدولة العالمية الليبرالية لن تعرف تناقضات كبرى ورغبات الإنسان سوف تعرف الإشباع الكلي، لذلك، لن يكون هناك صراعات حول قضايا جوهرية أو أسئلة كبرى تهم مستقبل البشرية . فلن يحدث في عصر نهاية التاريخ أي تطور نوعي في ما يخص المبادئ والمؤسسات والقيم الأساسية المتحكمة في المجتمعات الليبرالية ولن تكون هناك حاجة إلى رجال السياسة والعسكر بل فقط إلى موظفين إداريين وتكنوقراط  لتدبر النشاط الاقتصادي . ولن يصنع الإنسان التاريخ في هذا العصر حيث سيفقد كل روح ثورية للتفاعل مع التاريخ لتغييره وتطويره و سيقنع فقط بالحفاظ على الوضع القائم , واستمرار بعض المشكلات كالقوميات والأصوليات الدينية والأنظمة الاستبدادية . في الوقت الحاضر يرجع إلى أن مجموعة من المجتمعات ما زالت تحاول بكل جهدها للالتحاق بالمجتمعات التي دخلت مرحلة مابعد التاريخ .                                                  
لكن , ألا يوجد بدائل ايديولوجية وفكرية بإمكانها تحدي النظام الليبرالي ؟
يرى فوكوياما انه بعد انتصار الليبرالية على منافستيها الأساسيتين الفاشية والشيوعية لم تعد هناك تحديات حقيقية كفيلة بمنافسة النظام الليبرالي ويعتبر إن الأصوليات الدينية والتيارات القومية تحديات ثانوية قد يخلقان بعض المشاكل لكنهما يفتقدان العالمية والشمولية .
ويركز فوكوياما كثيراً على الإسلام حيث تعتبر الدول الإسلامية مجموعات تعيش خارج التاريخ الحديث وليس في العالم المعاصر غير الإسلام يطرح النظام الثيوقراطي كبديل للنظام الليبرالي .وعلى الرغم من كون الإسلام يشكل نظاما ايديولوجياً منظماً له منظومته الأخلاقية ونسقه الاجتماعي والسياسي الخاص ودعوته دعوة عالمية تخاطب كل الناس متجاوزة كل الحدود الاثنية والوطنية وعلى الرغم من انه انتصر على الديمقراطية الليبرالية في عدة مناطق من العالم الإسلامي إلا انه حسب فوكوياما لا يمتلك جاذبية وقبولاً كبيراً خارج العالم الإسلامي، وعلى المدى البعيد سيكون العالم الإسلامي أكثر قبولاً للأفكار الليبرالية ,ولهذا يحاول الأصوليون الإسلاميون التنديد بالنفوذ المتزايد للقيم الغربية في المجتمعات الإسلامية .                                                               
وعلى اثر ذلك ازداد تأثير فوكوياما على اعتبار الإسلام المنظومة الثقافية الوحيدة التي تعادي الحداثة والقيم الليبرالية يقول في هذا الإطار : يبدو انه يوجد في الإسلام أو على الأقل في الإسلام الأصولي شيء ما يجعل المجتمعات الإسلامية معادية للحداثة من بين جميع الأنظمة الثقافية المعاصرة يحتوي العالم الإسلامي اقل عدد من الديمقراطية ولا يحتوي على أية امة استطاعت الانتقال من وضع الدول الفاشلة إلى الدول المتقدمة . ربما فوكوياما ليست له لا الرغبة ولا المصلحة في البحث الدقيق والكشف عن الأسباب الحقيقية التي تجعل العالم الإسلامي لا ينجح في التحديث الحقيقي كما إن هناك تخوفاً  منالمسلمين على اعتبار إنهم من بين الشعوب الأكثر رفضاً للآثار السلبية للقيم الليبرالية الغربية , وهذا لا يعني رفضاً للحداثة والتحديث بل السعي إلى التحديث بدون السقوط في التغريب المفرط .

الآيديولوجيا والتاريخ
إن الآيديولوجيا والتاريخ يقف كل منهما إزاء الآخر بجدارة ، فان الايديولوجيا هي التي تعالج أحداث التاريخ وتصنفها ضمن مقولاتها، حتى كادت أن تكون التاريخ نفسه . كما إن التاريخ هو سرد وتفصيل لمحتويات الايديولوجيا حتى كاد أن يكون الايديولوجيا نفسها .
من هنا كان السجال ومن بعده الرهان، مابين التاريخ وايديولوجياته، والايديولوجيا وأحداث تاريخها، ومابين هذا وذاك ولدت مقولة نهاية التاريخ ذات الولادات المتعددة كيفما اقتضى أمر العلاقة بين التاريخ والايديولوجيا .
إن العصر هو الذي يحدد المبدأ، كما ان المبدأ هو الذي يسير العصر, فان المبدأ الذي يسود يحدده جيل أدرك العصر السالف، من ثم فان صفحات التاريخ ليست مرتبة بتلك العناية التي يتوهمها مصنفو نهايات التاريخ ونظرياتهم المغرقة في التنظير التي يقيدون بها الفعل الإنساني بذلك التحقيب ألقسري الذي يجعله ينمي بداهة إلى فكرة أو مقولة ما أو مجموعة من الأفكار والمقولات معاً . فكأنما التاريخ هو الذي يصنع البشر ويلغي ذواتهم ليحل محلها وعي غير منظور .
إن اكتشاف التاريخ وحده الذي جعلنا على بينة من ان النشاط الإنساني وليد الإرادة الحرة، فنحن الذين اكتشفنا في التاريخ الفترات البدائية فيه وتلك التي تتصف بالظلامية والتي تتسم بالعظمة والتي انتابها الانهيار, إنها أي مقولة بداية التاريخ أو نهايته، إن كان هناك ثمة مقولة حقيقية كهذه هي مقولة إنسانية ومحاولة لفهم التاريخ الذي لم يوجد حتماً قبل الإنسان بل تزامن وجوده مع وجود الوعي الإنساني به .
لهذا إن جاز الحديث عن نهاية التاريخ فهي مجرد تعبير مجازي عن تحقيبية مقولاتية للوعي البشري لمرحلة ما بعد مراحل التاريخ والتي ستتلوها بداهة مرحلة أخرى . إنها جدلية الوعي التاريخي لا تاريخ الوعي، فالأول يمكن تحديده ووضع خطوط عريضة لعمله ، إذ انه نظرة إلى التاريخ من داخل التاريخ ، أما تاريخ الوعي فتتجاذبه عدة عوامل يصعب معها بيان انتمائه إلى فترة دون أخرى أو مرحلة دون الأخرى ، الأمر الذي يسهل معه إضفاء صفة الإطلاق والثبات عليه . كذلك الأمر مع الايديولوجية ، وهي مطلقة ومتعصبة مثل الأديان ، إذ انها حاوية بنية مماثلة ومنتمية إلى الصنف الثقافي إلى الذهنية قبل العملية .
إنها ايديولوجية الوعي التي لا تقل عصياناً عن تاريخ الوعي في الانتماء إلى مرحلة أو فترة ,بينما الوعي الايديولوجي الذي يحاكي الوعي التاريخي يسهل أمر تحقيقه وتوظيفه ومثله أيضاً كان الرحم الذي افرز مقولة نهاية التاريخ أي التاريخ حينما يتجاهل نفسه .

المطب الطوباوي:
في سياق هذه التأويلات الفوكويامية ، نرى أن أي فكرة طوباوية بإمكانها أن تحدد النهاية ، وفوكوياما يقع في نفس المطب الطوباوي ، إذ يعلن أن أفكار ماركس الطوباوية قد أعلنت نهاية التاريخ في المرحلة الشيوعية ، وأن هيغل قد آمن بأن (التاريخ يصل ذروته في لحظة مطلقة ، أي اللحظة التي ينتصر فيها الشكل العقلاني النهائي للمجتمع والدولة).
وفوكوياما يضع نفسه جنباً إلى جنب مع أولئك الفلاسفة معلناً بأن نهاية التاريخ قد دُشنت بانتصار الليبرالية الديمقراطية الأمريكية.
أن أطروحة نهاية التاريخ ليست جديدة تماماً , فهي موضوع بحث اساسي في الفكر الغربي الحديث منذ عصر النهضة , فاليوتوبيا جذبت الأهتمام منذ ترماكبانيلا (1568-1639) وفرانسيس بيكون (1561-1626) , الى هيغل والعقل المطلق / الروح الذي لا ينظر الى الواقع الا من منظور نهاية التاريخ حين يتجسد العقل الكلي ويتحقق القانون العام في التاريخ وتلغى ثنائية الفكر والمادة , حين يشبع المجتمع الاحتياجات الأساسية للبشر في المجتمع الليبرالي , ثم مع كارل ماركس حيث لا يتوقف التاريخ الا في الطور الشيوعي.
هذه الأطروحات كلها أصيبت بلوثة الرغبة في وضع الحلول العلمية الطبيعية النهائية لكل المشاكل , وبالتالي تأسيس الفردوس الارضي وأنهاء التاريخ , وهي في الخلاصة لا تختلف عن يوتوبيا تكنولوجيا المعرفة وعالمها المفترض المبشرة بانتهاء التاريخ الانساني بكل ما فيه من دينامية وصراع , كي يبدأ التاريخ الطبيعي بكل ما فيه من نمطية وتكرار.
          أن فكرة نهاية التاريخ ارتبطت كما هو معروف باثنين من كبار المفكرين الألمان أكبر الارتباط ، وهما كل من هيغل وماركس . فقد اعتقد هيغل أن تاريخ البشرية ما هو إلاّ صراع بين العقل والحرية من جانب والقوى المناوئة للعقل والحرية من جانب آخر ، وأن الانتصار في النهاية سيكون من نصيب العقل والحرية ، وعندما يتم هذا الانتصار يكون التاريخ قد تحقق تماماً وبتحققه هذا تكون نهايته.
أما ماركس وكان من تلامذة هيغل ، فقد آمن بنفس فكرة هيغل ، ولكنه رأى أن نهاية التاريخ ستتحقق بتحقق المرحلة الشيوعية التي بها ينتهي الصراع بين الطبقات وبين الأمم حيث يعم السلام والرخاء المطلق كما تتحقق الحرية للجميع.
ولاشك إن فكرة كل من هيغل وماركس عن نهاية التاريخ تتضمن فيما تتضمن ملمحاً رئيسياً ، وهو المسافة الزمنية الكبيرة التي ستتحقق في نهايتها نهاية التاريخ هذه ، بغض النظر عما إذا كان هذا الملمح يعني طوباوية هذه الفكرة أساساً أم عدم طوباويتها.
فـ هيغل وماركس يعتقدان ان تطور المجتمعات البشرية ليست بلا نهاية , ولكنه قد يكتمل عندما تجد البشرية الشكل الاجتماعي الذي يشبع حاجاتها الأكثر عمقاً والأكثر أساسية. وهكذا يكون المفكران قد وضعا نهاية للتاريخ.
فبالنسبة لـ هيغل تتجلى تلك النهاية في الدولة الليبرالية , أما بالنسبة لـ ماركس ففي المجتمع الشيوعي. هذا لا يعني ان الدورة الطبيعية للولادة والحياة والموت سوف تتوقف وان أحداثاً مهمة لن تحصل أو ان الصحف التي تتحدث عنها سوف تتوقف عن الصدور. ولكن ذلك لا يعني انه لن يكون هناك امكانية التقدم في تطور المؤسسات الرئيسية والمبادئ المتعلقة بها , لأن كل المسائل الكبرى سيكون حلها قد تم.
باعتقادنا ، إن ماركس – إن صح التعبير – هو أقرب إلى فكرة نهاية التاريخ من فوكوياما ، لأن حلم ماركس لم يتحقق بعد ، فهذا لم يحدث ، ولم يكن عدم حدوثه صدفة . إلاّ أن فوكوياما أقام مراسم جنازة التاريخ.
وهنا نرى بشكل واضح مزاجية التأويل . فماركس على العكس من ذلك رأى إن التاريخ للبشرية هو في عهد الشيوعية ، وما قبل ذلك ما هو إلاّ صراع طبقي يدل على وحشية هذا العالم . وهذا لايعني أن ماركس لم يكن عنده الجمود العقائدي ، إذ حسب ماركس إن الشيوعية هي النهاية ، لاحظوا ، إنه غير قاعدة نهاية التاريخ بل نهاية التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية – حسب التعبير الماركسي – وهنا ، أين التطور التاريخي اللاحق ؟! وأين الديالكتيك الماركسي الذي كان حاضراً قبل مرحلة الشيوعية ؟! وهل التاريخ سيبقى يدور بشكل حلزوني في ساحات الشيوعية الرحبة اللامتناهية ؟ وهل ياترى أن الصراع اللاتناحري – حسب التعبير الماركسي – لن يرتقي إلى تشكيلة اقتصادية اجتماعية جديدة ؟ فهنا تخبو تصورات ماركس الديالكتية القائلة بمطلق الحركة والتطور . فحيثيات التناقضات المستقبلية تزكيها مجريات حياتها وتراكمات يصعب على الإنسان معرفتها الآن ، فنحن لانعرفها كبشر أو كمفكرين لأننا لاننتمي إلى ذلك الجيل.
ولقد عمل ماركس بكل جهده على عدم الحديث عن مرحلة الشيوعية وملامحها باعتبارها مرحلة بعيدة الأجل جداً ، ومن ثم يستحيل التنبؤ بما ستكون عليه ملامحه هذه . أما هيغل فلقد تورط إحدى المرات وتحدث بحماس عن أن نهاية التاريخ قد تحققت بالفعل عام 1806 ، عندما انهزمت القوات البروسية أمام نابليون حامل لواء شعارات الثورة الفرنسية عن الحرية والإخاء والمساواة . ولكن المتأمل في فلسفة هيغل سيتحقق من أن ما أعلنه عام 1806 يعد تسرعاً كبيراً وتحمساً شديداً لاعلاقة لهما ببنيان فلسفته الميتافيزيقية الطوباوية بطبيعتها . لقد كان في اعتقاد كل من هيغل وماركس ، إن تطور المجتمعات البشرية ليس إلى ما لانهاية بل إنه سيتوقف حين تصل البشرية إلى شكل من أشكال المجتمع ، يشبع احتياجاتها الأساسية والرئيسية. وهكذا افترض الاثنان أن للتاريخ نهاية ، هي عند هيغل الدولة الليبرالية ، وعند ماركس المجتمع الشيوعي.
         وفي معرض حديثه عن أفكار كانط عن الحرية مثلاً . نشعر أيضاً بنفس المزاجية التي استحضرها في حديثه عن ماركس . صحيح أن كانط كان يعتبر (إن تاريخ العالم ليس إلاّ تقدم الوعي نحو الحرية) . لكن كانط كان يرى الحرية بمعناها الفلسفي وليس بمعناها الليبرالي الأمريكي ، فتجيير ما قاله كانط لصالح الحرية الليبرالية الأمريكية ما هو إلاّ تقزيم واستخفاف بهذا الفيلسوف العظيم.
إن أخذ كافة المفاهيم العليا كالحرية والتطور ، في جو يفتقد إلى عملية إلصاق هذه المفاهيم بجوهرها (الإنسان) يفقدها ماهيتها ، ولابد أن نبدأ من الوازع الإنساني ، أي إن جوهر التاريخ هو الإنسان ، ويجب النظر إليه (كعنصر مبدع في هذا التاريخ وليس إلى أنه آلة فاقدة للبعد الروحي) . كما عبر عنه الفيلسوف الروسي نيكولاي بيرادييف.
فالمفاهيم العليا كالعدل مثلاً تبقى مفاهيم نسبية . أما عند فوكوياما فيسقطها على الواقع وهذا مستحيل لأنها لاتوجد إلاّ في عالم الأفكار والأحلام ، ومهما حاولت البشرية تحقيقها (أي إسقاطها على الواقع) فلن تفلح، ولكنها من الممكن أن تتجه نحوها وتقترب ولكن كم هي المسافة لاتزال بعيدة.
نلاحظ أيضاً ذلك في مجمل حديثه عن الفاشية الألمانية ومحاكاته للأسباب التي يمكن أن ينجم عنها محو البشرية ، فيقول:- إن محو البشرية هو شر فريد ونتاج لظروف تاريخية فريدة معاً التقت في ألمانيا) . ويعزو ذلك إلى أن هناك (ظروفاً تتعلق بالتقاليد الفكرية والثقافية الخاصة بألمانيا في ذلك الوقت) . ولاندري مدى تعمق فوكوياما بالتقاليد الفكرية والثقافية في ألمانيا آنذاك ، فهيغل ونيتشه بريئان من كل تصرف مهووس لهتلر . وباعتقادنا إن ما حصل في ألمانيا في ذلك الوقت يعود إلى ظروف سياسية قد أبرزت شخصية كهتلر . وليست ناجمة عن تقاليد ثقافية فكرية لألمانيا . وخلاف ذلك ، فإن عالمنا هذا يبقى مديناً للثقافة والفكر الفلسفي الألماني لجوهرها الخلاق.
ومع كل ذلك ، فإن فوكوياما قد تناسى مسألة مهمة جداً وملحة لمجتمعه الأمريكي ، إذ لم يسأل نفسه ما إذا كان ثمة هناك تناقضات أساسية غير ثانوية لم تزل ماثلة في النظام الأمريكي الليبرالي الديمقراطي الحر المعاصر ، قد تؤدي به إلى أن يتوقع أن تستمر العملية التاريخية وتنتج نظاماً جديداً أسمى من ذلك ؟

الاسلام ازاء الفوكويامية
يسفه فوكوياما القدرة الهائلة للدين وخاصة قدرته على إضفاء معنى سامي لحياة الإنسان ودوراً مادياً ومعنوياً يخرجه من بوتقته الصغيرة ويدخله في دائرة المعاني الكبرى , لا معنى له . فإذا كانت الليبرالية قادرة على إعطاء الإنسان شعوره بالتساوي مع الآخرين بشكل سلبي فان الدين عموما والإسلام خصوصاً يعطي لمعنى تساوي البشر وتعاونهم في اعمار المعمورة مفهوم المساواة الايجابية ومن ثم يربط الاستعلاء البشري بقدرته على طاعة الله المتمثلة في الإعمال الايجابية والمقيدة للبشرية ككل .
إن الإسلام يرقى بالإنسان في الكون . فالله حمل هذا الإنسان الأمانة واستخلفه في الأرض ، إذن إن الإنسان في الإسلام يتساوى مع الآخرين إلا أن استعلائه مرتبط بعمله وليس فقط بالتسليم بتساويه فقط مع الآخرين ولكنه يجعل العمل الايجابي مناط هذا الاستعلاء وبالتالي يحول القدرة السلبية البشرية أو الحيادية على الأقل إلى قوة دفع لعمل البشرية وكذلك قوة تميزية تفرق بين الإنسان العابث بالنظام الإلهي وبين الإنسان الملتزم بالنظام الإلهي الذي يقضي إلى ارتقاء البشرية من مستوى الحرية الغريزية إلى مستوى الحرية الهادفة والملتزمة باِعمار البشرية.فالإسلام على كثير من المباديء الموجودة في الديمقراطية الليبرالية كالشورى في تحديد المفاهيم الاجتماعية الأساسية وحرية العمل والثروة والمأكل والملبس وحرية الزواج والطلاق . كما انه زود الإنسان بمبادئ لحريته وعمله عن طريق مقاصد الشريعة  وكذلك طرح الإسلام ضرورة الحرية والعدل والمساواة في الأمور العامة والخاصة .
إلا إن الإسلام لم يترك هذه المبادئ دون حدود إذ إن انعتاق مبادئ الحرية والعدل والمساواة من الإطار الديني الشرعي يحول تلك المبادئ إلى مبادئ أنانية شخصية يستغلها بعض الأفراد من اجل مصالح ذاتية أنانية – كما هو حال الديمقراطية الغربية- أما ربط تلك المبادئ بالإطار الديني فيجعلها موجهة إلى خدمة الفرد والمجتمع والدولة والبشرية على العموم . إذ ان الشريعة الإسلامية تنظر إلى الكون نظرة صادقة وتنظر إلى الإنسان على انه ذلك المصدر الذي عليه التفاعل بايجابية .
من هنا فان العالم الإسلامي يشهد صحوة دينية كبرى ومع إن جزءاً كبيراً من هذه الصحوة هو سياسي إلا ان هذا التوجه السياسي لا يمكن النظر إليه على انه مشروع منفصل عن نظرة المسلمين إلى الله والكون والإنسان . فإذا ما كان هدف المسلمين هو فقط الحرية والمساواة وحتى العدل , لكن من دون توجه إيماني أخلاقي، لكانت الديمقراطية هي الهدف السياسي للصحوة الإسلامية , إلا أن الهدف الرئيسي للصحوة الإسلامية هو هذه المبادئ مع ربطها بالمفهوم الإسلامي الشامل لله والكون والإنسان . فالإسلام قادر على استيعاب الجوانب الايجابية للديمقراطية الليبرالية إلا انه قادر في نفس الوقت على رفض الجوانب السلبية للديمقراطية . فالمسلمون اليوم قادرون على تطوير آليات الشورى والحرية والمساواة إلا أنهم قادرون أيضا على رفض العبث الأخلاقي والقيمي ورفض التركيز المفرط على الملذات الدنيوية والمادية .
إن شريعة الله وسنة رسوله تزود المسلمين بمعايير تمنع عنهم الانهيار الأخلاقي والمعنوي وبسبب رؤية المسلم لوظيفته في الأرض عبر استخلافه , فان انهيار الايديولوجيات الاشتراكية وصعود الديمقراطيات الليبرالية يعني ان على المسلم الاستفادة من هذا التغيير في المسار التاريخي للايديولوجيا التي تثبت فشلها واحدة تلو الأخرى بسبب بعدها عن حقيقة الإنسان وتطلعاته .
فالحرية هي وسيلة تمكن الإنسان من تحقيق ذاته التي خلقها المولى عز و جل لأهداف معينة . أما أن تصبح الحرية هي الهدف فماذا يفعل الإنسان بتلك الحرية ؟ لقد اظهر فوكوياما انه عندما تتمكن الديمقراطية الليبرالية من السيطرة على التاريخ الايديولوجي أي عندما تصبح الحرية والمساواة هما المعياران الأساسيان في حياة البشرية عبر سيطرة العلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية والاجتماعية فان الإنسان يتحول إلى إنسان تعوزه الجرأة والحيوية والهدف، ويعيش حياة أشبه بحياة الحيوان منها بحياة الإنسان .
إذن ان الإنسان يكتفي بذلك الاعتراف بأنه كغيره عدد من الأعداد . أما القيمة الإنسانية المتمثلة بالعمل والإيمان بأهداف إنسانية فإنها تصبح اثرا تاريخيا لا قيمة لها. والسؤال الأهم ماذا يفعل الإنسان بتلك الحرية والاعتراف ؟ والجواب الذي نستمده من فوكوياما إن البشرية تدخل حيز المجهول وقد يعيد التاريخ نفسه .
  كما إن العالم الإسلامي في معظم مناطقه يتحول مجدداً إلى الإسلام ليس فقط كدين بل أيضا كنظام حكم وأسلوب حياة . فالمسلمون قد بدءوا بالفعل عملية اخذ النقاط الايجابية للديمقراطية عن طريق الشورى مع ضابط الشريعة الإسلامية . كما يتبنون أسس الحرية والعدالة والمساواة من ضمن مقاصد الشريعة كما انهم يأخذون بالأسس الايجابية للرأسمالية ويضعون فوقها ضوابط من الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي . بمعنى آخر لقد أثرت وستؤثر الديمقراطية الليبرالية في الفكر الايديولوجي العالمي بكل تشعباته , إلا إن شيوع الديمقراطية الليبرالية لا يعني تنبيهاً بالمطلق وفي العالم كله .
قد تكون الديمقراطية النموذج الغربي التي يريد أن يجعله فوكوياما أساس فكره الايديولوجي والذي يريد الغرب أن يفرضه على العالم الغربي . إلا إن قوى عديدة في العالم وعلى رأسها العالم الإسلامي ستأخذ من الديمقراطية ومن الليبرالية ما يناسب تراثها الأصيل وبالتالي قد تكون الديمقراطية الليبرالية احد الوسائل التي توظفها الحضارات والثقافات الأخرى من اجل صحوتها ويقظتها والتي ستقف حجر عثرة أمام زحف الديمقراطية الليبرالية وأمام سيطرة العالم الغربي على العوالم الأخرى .

نهاية الفوكويامية : أفكار ورؤى
كان هناك تاريخ ، لأن هناك تناقضاً وصراعاً بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وبما أن ذلك التناقض والصراع قد انتهيا بعدما انتقل المعسكر الاشتراكي إلى اعتناق القيم الرأسمالية (اقتصاد السوق والليبرالية السياسية) وبالتالي فإن التاريخ نفسه قد انتهى.
إن فكرة فوكوياما عن نهاية التاريخ تفتقد إلى أية درجة من العمق والشمولية التي تميز فكرتي كل من هيغل وماركس . فهو يرى إننا نعيش بالفعل نهاية التاريخ ، وعلى الأقل بداية هذه النهاية . كيف ؟ يجيب:- لأنه الآن وبعد هزيمة الشيوعية أو الفكر الماركسي ، تحقق انتصار الليبرالية ، وجاء هذا الانتصار بعد معاناة طويلة تأكد خلالها الكثيرون خاصة شعوب تلك المناطق التي سادتها الشيوعية من فشل أية نظم أو أفكار عدا الليبرالية بمفهومها الغربي.
وطالما أن العالم قد أصبح الآن أو يوشك قريباً أن يكون بحراً شاملاً من الليبرالية والديمقراطية . إذن، فلقد انتهى الصراع بين الليبرالية والديمقراطية وأعدائهما ، وبذلك يكون التاريخ قد انتهى.
ويعلق فوكوياما على ذلك قائلاً:- إن الوجود البشري بدون تناقضات وبدون صراعات وجود كئيب ولايمكن أن يوحي سوى بالضجر والسأم . الخطأ النظري الذي سقط فيه فوكوياما يكمن في كونه قد سحب حلقة واحدة من حلقات التاريخ المتمثلة في المواجهة بين الشرق والغرب ، على التاريخ برمته.
حقاً هناك نهاية للتاريخ ولكن فقط نهاية تاريخ الصراع الاستقطابي بين الشرق والغرب.
ولأن التاريخ يوجد في حركة دائمة لاتعرف السكون والتوقف ، فهو لم ينته بين الشرق والغرب ، إلاّ ليبدأ بين الغرب والجنوب.
فـ فوكوياما يعترف بشكل أو بآخر باحتمالات التنامي القومي على أساس إنه التحدي الآخر للأيديولوجيات، فإنه لايعني بذلك الفكر القومي في العالم الثالث . فعالم فوكوياما أحادي ، عالم أول لايرى خارجه ، ولعل هذا هو الذي يجعل أفكاره محدودة وقابلة للدحض.
إن السؤال الأصعب والأعمق إنما يتصل بصلاحية الديمقراطية الليبرالية ذاتها وليس فقط باحتمال انتصارها على منافسيها في عالم اليوم . فعلى فرض إن الديمقراطية الليبرالية أصبحت الآن آمنة من خطر أعدائها في الخارج ، فهل بوسعنا أن نفترض إمكان استمرار المجتمعات الديمقراطية الناجحة على حالها إلى الأبد ؟ أم إن الديمقراطية الليبرالية فريسة تناقضات داخلية ، هي من الخطورة بحيث يمكن في النهاية أن تزعزع من دعائمها كنظام سياسي ؟
إنه مهما كانت سحابة وعينا مثقلة بالأفكار فلن تمطر قطرات أيديولوجية تجرف التاريخ وتنهيه . فالتاريخ لم يصل إلى النهاية بتطبيق الأيديولوجيا الليبرالية الديمقراطية الحرة . فنهاية التاريخ هذه ستكون زمناً محزناً ، ففيه لايكون مكان للفلسفة ولا لمثل جديدة.
فـ فوكوياما لا يأتي في هذا الصدد وعبر مئات من الصفحات بما ليس معروفاً من تراث الليبرالية. فالليبرالية ليست سوى الأسم السياسي الذي اتخذته تيارات الفكر المنفعي الذي طبع الثقافة الانغلوسكسونية منذ منعطف الحداثة حتى ايام التداولية البراغماتية وما يسمى راهنا بالفلسفة التحليلية مع بعض الفوارق من حيث المنهج. غير ان الجديد الذي يدخله فوكوياما على خطاب الفكر الانغلوسكسوني / الأمريكي المعاصر هو محاولة تغيير المقدمات التقليدية لهذا الخطاب. فبدلاً من اعتماد تراث الواقعية النفعية كما هو عند مؤسسيه الأوائل …. فأنه يبحث عن المصادر الأوربية وبالذات يرجع الى الفكر الألماني عند أحد أكبر أعلامه , هيغل. ولا يتوقف عند هذه المحطة الكبرى للفكر التاريخي بل يمضي قدماً الى عمق الفكر الأغريقي فيصل مقدماته الأولى بثوابت التحليل الأفلاطوني للذات والمدينة والعالم. ولا ينسى ان يعرج خلال طريقه على أحد مؤسسي الأقنوم المعاصر حول المجتمع المدني وهو روسو. ويغدو هيغل مستنده الأساسي.
إن منطق فوكوياما قد أيقظ فكرة مفادها إنه إذا كانت هناك فعلاً نهاية للتاريخ فإنها لاتصل إلينا بسبب انتصار الأفكار الليبرالية الديمقراطية ، وإن التاريخ واللاتاريخ هي في نهاية المطاف مفاهيم مجردة وميتافيزيقية كالمادة والروح وكالخير والشر.
كما ان القارئ لـ فوكوياما يواجه مستويين للنص , أحدهما المصرح عنه وهو جملة التحليلات السياسية المشوبة دائماً بسلطة الأحكام المسبقة والقبلية , والثاني ويتعلق بالمقدمات الفلسفية الشمولية التي تقحم من أمكنتها القصية الخاصة بها , في حين آخر يتعلق بالقصدية الخاصة بعقيدة الكاتب الأصلية. ولا شك فان هذا المنهج الذي يوصف بأزدواجية المختلفين يهدف الى فرض التسليم بتلك العقيدة , ولكن ليس عن طريق حقانيتها الخاصة التي تظل مواربة غير مطروحة أبداً لا للعرض ولا للنقاش بل حسب اوّالية اللصق والالتصاق بذلك المستوى الآخر من المفاهيم التي يؤتي بها قسراً وحشراً , فلا يفسح الكاتب أي مجال لأمكان التحقق من المقدمات للوصول الى تلك النتائج المفترضة. بمعنى ان الاستعانة بأفلاطون وهيغل وكوجيف – وأن كان الثالث هذا ليس من مستوى ولا من سجل الاولين – قد لعبت ما يفوق دور الشهادة على ما يريد الكاتب أثباته , اذ صار لأفكار هؤلاء الفلاسفة دور المقدمات المنطقية الضرورية التي تمتلك حقيقتها في ذاتها. وبذلك اخرج فوكوياما أفكار هؤلاء الفلاسفة من معرض التحليل والنقد وجعلها مرتكزات نهائية لما يطرحه من فهم خاص حول تحقيق نهاية التاريخ. فلقد اهمل وترك كل ما يتعلق بنهاية التاريخ كأطروحة فكرية قابلة في حد ذاتها لأثارة أكبر وأهم النقاشات. اعتبر ان النهاية حقيقة مسلم بها ولا سبيل الى أي نوع من أشكال مراجعتها والتيقن من دلالتها. وحصر المشكلة في العثور على الحدث التاريخي الذي يحقق هذه النهاية.
تبقى أخيراًً الإشارة إلى بعض نقاط الضعف الخطيرة التي تعاني منها دراسة فوكوياما ، فهو فرغ فكرتين عملاقتين لهيغل وماركس من محتواهما ، فقط ليملأهما بما يشبه عبث الأطفال ، وهناك عدد كبير من الكتاب الغربيين الذين لايرون فيما كتبه أكثر من نكتة . فهو تجاهل على سبيل المثال حتى لو سلمنا بمقولته الأساسية ، صراع المصالح داخل العالم الليبرالي نفسه بما يعني فساد فكرته عن نهاية التاريخ ، كما إنه انطلق من مفهوم غربي مركزي تماماً ولم يلتفت إلى أهمية وثقل أيديولوجيات أخرى شديدة الأهمية والخطورة كالإسلام مثلاً.
إن المجتمع التقليدي لايتغير وإنما يتقلب ، والتقلب لايعني بأي حال التغيير ولايعني السكونية بأي حال أخرى . فالظاهرات لاتعيد نفسها إلاّ بمقدار ماتتحرك ضمن المساحة المتاحة لها على محيط الدائرة لتظهر في حلبة التدوير من جديد ، وهو الأمر الذي رسخته الظاهرة الرأسمالية على اختلاف نماذجها ساعية مع الزمن إلى تسيد نموذج يوتوبيا الخراب عبر الحضارة أحادية الجانب السائدة الآن.
أقول هذا ، مع يقين أن ثالوث – العنف ، الخراب ، الإرهاب – كان سائداً في أغلب العصور التي مرت بها المجتمعات الإنسانية في الوقت الذي تلازم تواجده مع ثالوث آخر هو – التنوير ، التثوير ، التغيير.
لقد أثار كتاب فوكوياما سيلاً هائلاً من التفسيرات والإعتراضات , وقد اتخذت الانتقادات كل الأشكال الممكنة , اذ ارتكز بعضها على فهم سئ لمقاصد المؤلف الأولية , والبعض الآخر هاجم بشكل أكثر عمقاً صلب موقف المؤلف بالذات , فالعديد من الناس وقع في خطأ أولي من جراء استخدام المؤلف لكلمة التاريخ. اذ اتخذوا هذه الكلمة بمعناها الأصطلاحي , أي الاحداث التي تقع .. الا ان الذي اشار اليه المؤلف الى نهايته لم يكن بالطبع التاريخ كتتابع لاحداث وأنما التاريخ كجزء مسار متماسك للتطور الذي يأخذ في الحساب تجربة جميع الشعوب في آن معاً.
فنهاية التاريخ – في رأيي – مفهوم ينطوي على مفارقة بل على تناقض داخلي , ستوجد على الدوام احداث , وسيحدث على الدوام حدث ما , اذ لا يمكن للزمن ان ينتهي. والتاريخ والزمن يسيران معاً. فنفس الفكرة ونفس الواقع يحمل هاتين القسيمتين , اذن ليس للتاريخ نهاية.
ان نظرة فوكوياما للتاريخ التي اشرنا اليها قبل قليل .. تقترب كثيراً من نظرة الفيلسوف الألماني هيغل. وقد جعل منها كارل ماركس جزءاً من محيطنا المألوف عندما استعار على وجه الدقة من هيغل مفهوماً أصبح اليوم ضمنياً لدى استخدامنا كلمات مثل:- بدائي أو متقدم وتقليدي او حديث في كلامنا عن نماذج المجتمع البشري المختلفة.
كان ثمة تطور متناسق للمجتمعات البشرية منذ الأنظمة القبلية القائمة على العبودية والتعدد الثقافي وحتى الديمقراطية الحديثة والرأسمالية المحكومة بالتكنولوجيا , مروراً بأنواع مختلفة من التيوقراطيات والأنظمة الملكية والارستقراطيات الأخرى ذات النمط الأقطاعي.
لم يكن المسار التطوري صدفوياً ولا غامضاً وان لم يكن يجري دائماً بحسب خط مستقيم , وحتى لو كان باستطاعتنا ان نتساءل اذا ما كان الانسان أكثر سعادة وفي حالة أفضل بسبب نتائج هذا التقدم التاريخي.
إن عصر نهاية التاريخ سيكون حزيناً ومملاً . نتيجة التقدم العلمي والديمقراطي والسلام والرخاء الاقتصادي فان الإنسان سيكتفي بتدبير الأمور الاقتصادية، التقنية، والبيئية، وبتلبية رغباته الاستهلاكية وذلك تحت إشراف التكنوقراط والبيروقراط .
وسيكون هذا إيذاناً بنهاية الفنون والفلسفة والانجازات الكبرى للعقل البشري . لهذا سيفقد الإنسان روح الشجاعة والإبداع والجرأة ليتحول إلى حيوان استهلاكي خال من العواطف والطموح . وسيولد هذا ملل الإنسان وحنينه إلى إثارة الحروب والثورات لامتلاك القوة والعظمة عبر تحريك التاريخ من جديد .
يقول فوكوياما في هذا الإطار : نهاية التاريخ مرحلة ستكون جد حزينة , الصراع من اجل الاعتراف, الاستعداد للتضحية بالحياة من اجل قضية مجردة, الصراع الايديولوجي العالمي الذي كان يستدعي الجرأة , الشجاعة , والتخيل المبدع , كل هذا سيعوض بالحساب  الاقتصادي وباللجوء اللا محدود للحلول التقنية وبالاهتمامات البيئية وبإشباع رغبات المستهلكين في عصر ما بعد التاريخ ، لن يبقى غير الصيانة المستمرة لمتحف تاريخ البشرية.
وبشكل مناقض للروح الاقتصادية لخطاب نهاية التاريخ يعبر فوكوياما عن قلقه من الخواء الروحي , الانحطاط الأخلاقي والمادية المفرطة للغرب والتي قد تؤدي إلى انهياره :إننا نمتلك قوة مالية ومادية هائلة ولكن هل لدينا القوة المتميزة والضرورية لتوظيفها بشكل ايجابي من اجل خدمة مصالحنا الخاصة ؟ الا نسير على خطى الرومان ؟ الا نتحسس على المستوى الأخلاقي العلامات الضمنية لنوع من الانحطاط ؟ وإذا كان الغرب ومؤسساته وقيمه مازالت تعد بالكثير من الثقة, فان هذا يجب ألا يسمح لنا بإغفال بعض الاتجاهات المقلقة , كالاستهلاكية المفرطة , انهيار الأسرة , تراجع روح المسؤولية والتضامن , وهذا ما دفع بفوكوياما إلى إعادة الاعتبار للعوامل الثقافية من خلال التركيز على دورها الفعال في التنمية الاقتصادية وخلق الثقة وضمان التماسك الاجتماعي والعائلي .

الخاتمة
قد يكون كتاب فوكوياما من أهم ما صدر على الصعيد الايديولوجي في الغرب الامريكي بعد عدوان المؤسسة الامريكية على العرب , وتفكك الاتحاد السوفياتي , وزوال كل ما كان يعنيه مصطلح المعسكر الشرقي. ولعل تميزه ذلك لا يصدر اولاً عن طرافة البحث وغزارة المادة بقدر ما هو وثيقة أو بيان اول تعلنه الليبرالية , وهي تجدد نفسها وتزمع استئناف مشروعها وحيدة هذه المرة لا ينازعها أي جبار آخر ايديولوجي أو عسكري أو سياسي أو معارضة قادرة. لذلك لا يعتمد الكتاب قوة المحاجة الفكرية ولا الحقيقة التاريخية بقدر ما يستند الى ما تحصل من أمر واقع بحسب المصطلح الاستراتيجي. لكن هذا لا يعني ان الكاتب لم يحاول ان يحشد ما يستطيع من الموضوعات الفكرية والتاريخية التي تساعده على أنارة اطروحته.
إن كل ما ذكرناه آنفا  .. لا ينال من أهمية الكتاب ولا قوة الحجج ولا تماسك الموضوع الذي يبقى مستنداً إلى خلفية فلسفية قوية ومترابطاً بقوة منطقية ليس لها إلا أن تثير الإعجاب . أما المأخذ فهو على النتيجة وبصفة أدق ليس على النتيجة ذاتها بقدر ما هو على وضعية أو كيفية هذه النتيجة من حيث القول أنها تمثل نهاية التاريخ . ومأخذنا على الكاتب والكتاب وما تضمنه من طروحات ليس جديداً , إذ انه هو الآخر أي المأخذ يستند إلى أسس فلسفية ومنطقية معينة قادت قبلنا أناساً انتقدوا أفلاطون وهيغل وماركس من حيث قفزهم إلى نتائج لا تتناسق مع طروحاتهم الرئيسية ذاتها . فإذا كان هيغل قد تعرض للانتقاد حين أعلن نهاية التاريخ بقيام الدولة الروسية وانتصارات نابليون ومبادئ الثورة الفرنسية من حيث أن ذلك لا يتواءم منطقياً مع منهجه الجدلي . الذي لا يعرف الثبات حتى الوصول إلى الوعي المطلق الذي هو نهاية الكمال الذي هو بدوره مسار دائم وصيرورة سرمدية لا نهاية لها فان ماركس هو الآخر تعرض للانتقاد أيضاً حين أعلن ان قيام الشيوعية- زاعما انها الجنة على الارض – هو نهاية التاريخ كما نعرفه أو بداية التاريخ الفعلي وفق تعريف ماركس الذي يرى ان التاريخ لا يبتدئ إلا حين يتحرر الفرد من الحاجة وبالتالي الاستغلال ومن ثم الاغتراب وذلك لان مثل هذا الإعلان لا يتوافق مع الجدل الماركسي ذاته والقول بالتناقضات اللولبية الدائمة التي لا تهدأ. وكذلك تعرض افلاطون للانتقاد لان فلسفته القائمة على أحقية من يعرف أن يحكم قد تحولت فعلا إلى تبرير وشرعنة لنظام الحكم الارستقراطي بغض النظر عن أسس هذه الاستقرائية ، كما انه من ثم يشرعن ويبرر لتلك المجتمعات ذات الانساق المغلقة التي تمنح الدولة حق التقرير والتمثيل وذلك على حساب الفرد ذاته وذلك كما يعبر كارل بوير في انتقاده لافلاطون .                                                               
الشيء نفسه يصدق على الطروحات الجديدة القديمة لفوكوياما من حيث تحول الفلسفة إلى ايديولوجيا أو تبرير الايديولوجيا وذلك ليس بالقول ان الليبرالية اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً هي أفضل نظام ممكن من الناحية العملية والتاريخية , وليس مجرد نظام مفترض أو يوتوبيا ولكن بالقول ان الليبرالية هذه هي نهاية التاريخ .
وان كان لابد من قول ختامي في هذا المجال فهو لن يكون متعلق بالموضوع ذاته بقدر ما هو متعلق بموقعنا نحن العرب من هذه القضية . وبذلك نعني بكل إيجاز انه إذا كان هناك  يقولون بنهاية التاريخ  فإننا هنا مازلنا على هامش التاريخ ولم يبدأ التاريخ عندنا بعد هذا إن كان سيبدأ ناظرين إلى الحالة التي نحن فيها . وعلى ذلك فان نقاشنا للتاريخ ونهايته ونحو ذلك هو من باب المشاركة التجريدية وكذلك هو موقع انتقاداتنا في هذا المجال .
أما بالنسبة إلى الحالة العربية عموماً فان علينا أن نفعل الكثير من اجل الوصول ولو متأخرين إلى هذه المرحلة التي ننتقدها تجريدياً ألا وهي المرحلة الليبرالية بكافة تفرعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية . وبعد ذلك فقط يمكننا المشاركة في الجدل الدائر حول نهاية التاريخ موضوعياً ومن ثم المشاركة في صنع مرحلة ما بعد نهاية التاريخ التي هي أعظم نقد موضوعي لفكرة نهاية التاريخ ذاتها .
وبرغم إنني وفق معطيات الحالة الراهنة اشكُّ في إمكانية انتقالنا من الهامش إلى المتن فإنني لا املك إلا أن أتفاءل أو أحاول التفاؤل إذ لعل هناك بقية من حياة تكون بذرة لحياة جديدة وإلا فانسوا انكم قرأتم ما سبق …
ستبقى للقوة الكلمة الأخيرة , هذه هي الخلاصة الذهبية , وسيبقى الموعدون بجنة نهاية التاريخ هم القبيلة البيضاء / الشقراء وحدها , أما الآخرون , معظم الانسانية , فلم يعد تصنيفهم في خانة المتخلفين , يكفي للتعبير عن رحلة التصفية الأخيرة. ان هذا المصطلح سيظل يوحي باستمرار رسالة المتقدم في الأخذ بيد المتخلف – عبء الانسان الابيض – بينما المطلوب من هذه التصفية , التصفية االمطلقة بين سكان الجحيم التاريخي المحكومين ابدياً بمصيرهم والنخبة الفائزة بالنعمة الخلاصية وحدها من دون العالمين.
وبعد:- لمن المستقبل ؟ ولمن القرن الواحد والعشرين ؟ وفي أي الخرائط ستصب جهات العالم الصامدة في ثقب بعيد من التاريخ ؟ وهل إيماءات اكتمال نضوج الهيمنة ستؤكد أن القرن الحالي سيكتبه عازفو البيانو وكاتبوا الروايات ، ورجال الدعاية القادمون دوماً من الشمال ؟ هل هناك من مشروعية تعطي الإنسان الحق في الخروج من حوصلة اليوتوبيا ومن خراب حلم الآخرين ومن كابوس الذات؟

الهوامش

* ثيموس أو الغريزة الثيموسية , هي صراع الفرد أو الجماعة من أجل فرض الاعتراف والسيطرة على الآخر , وقد اعتبرها فوكوياما تأسيساً على مزج مفهوم الثيموس الأفلاطوني ومفهوم العقل عند هيغل المحرك للتاريخ الانساني وروح الحياة. فهذه الغريزة التي دفعت السيد الى اخضاع العبد , ولن ينتهي هذا المسار منطقياً قبل أن يسيطر على العالم كله أو أن يموت دون ذلك فالسبب الأصلي للحروب لا يتعلق ببنية نظام الدول بل برغبة الأسياد في أن يعترف بهم , وأن طموح الأسياد الثيموسي يمكن أن يأخذ أشكالاً أخرى كالدين مثلاً.

 

المراجع
المراجع التي استعنا بها ، اعتمدناها للمراجعة والتوكيد والاستقراء لما ورد في دراستنا .
1. احمد موصللي – حقيقة الصراع، الغرب والولايات المتحدة والإسلام السياسي، د ط ، مؤسسة ألف ليلة وليلة ، د م ، 2003
2. تركي الحمد- ويبقى التاريخ مفتوحاً، ط2،دار الساقي ، بيروت ،2002
3. عبد الغني عماد-سوسيولوجيا الثقافة، المفاهيم والإشكالات .. من الحداثة إلى العولمة ، ط1، مركز دراسة الوحدة العربية ، بيروت ،2006
4. عبد الله عثمان عبد الله – ايديولوجية العولمة ، من عولمة السوق إلى تسويق العولمة ،ط1،دار الكتاب الجديد المتحدة،بيروت ،2003
5. غازي مسعود- بين الثيموس وبروميثوس ، مجلة الجديد في عالم الكتب والمكتبات (الأردن ) ، العدد 3 (صيف / 1994)
6. فرانسيس فوكوياما – نهاية التاريخ وخاتم البشر ، ترجمة – فؤاد شاهين وجميل قاسم ورضا الشابي  الإشراف والمراجعة والتقديم – مطاع صفدي ، ط1، مركز الإنماء القومي ،بيروت ،1993
7. محمد سعدي – مستقبل العلاقات الدولية ، من صراع الحضارات الى أنسنة الحضارة وثقافة السلام ، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت ، 2006

[email protected]