21 مايو، 2024 8:20 م
Search
Close this search box.

نهاية الاقليم السني: قصة الحلم الذي لم يتحقق

Facebook
Twitter
LinkedIn

الصراع الاقليمي في منطقة الشرق الأوسط بين الدول العظمى فيما بينها من جهة وبين الدول الإقليمية الكبرى (ايران والسعودية وتركيا) من جهة أخرى كان العامل الرئيس في تأجيج مشروع تقسيم الدول المحورية في المنطقة (وخاصة العراق وسوريا) الى أقاليم ذات إستقلال ذاتي، أو الى دول صغيرة كما حدث في دول البلقان (يوغسلافيا) بعد إنهيار المعسكر الشرقي بقيادة الإتحاد السوفيتي. العراق كان مؤهلاً لهذا المشروع بعد إحتلاله من قبل الولايات المتحدة في 2003 وحل قواته المسلحة التي كان تمثل “بيضة القبان” في توازن القوى في المنطقة. في العراق، كان هنالك إقليم كردستان الذي خرج عن سيطرة الحكومة المركزية منذ عام 1991 وكان يتمتع بإستقلال شبه ذاتي لا تنقصه عن كونه دولة مستقلة ذات سيادة إلا الإعتراف الدولي (إقليمياً وعالمياً). وكان التوجه الذي طرحه السيد بايدن (نائب الرئيس الامريكي) بتقسيم العراق الى ثلاث أقاليم هو الرؤية المتداولة في الأوساط السياسية، ولها قبول معتد به دولياً.
عدم تحقق مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أريد تكوينه من خلال حرب تموز 2006 نتيجة الفشل العسكري الإسرائيلي في تحقيق النصر على حزب الله في لبنان هو الذي أجل ترتيب الوضع الإقليمي وإعادة رسم حدود الدول وإحداث تغيير في التحالفات الإقليمية. هذا الفشل العسكري أدى الى التمدد الإيراني في المنطقة والذي لم يكن ممكناً إلا من خلال إختلال توازن القوى في الشرق الأوسط من جديد. فأصبح لإيران النفوذ الواسع في سوريا ولبنان من خلال إنحلال الدولة المركزية في بغداد. فالنفوذ الإيراني وصل الى حدود وعتبة إسرائيل، الدولة العظمى في الشرق الأوسط. والعراق بموقعه الجغرافي يمثل حلقة الوصل بين إيران وبلاد الشام.
بعد إنتفاضات الربيع العربي، أصبح ممكناً إحياء مشروع الشرق الأوسط الجديد من جديد وتفتيت دول الشرق الأوسط ليتجاوز معاهدة سايكس – بيكو التي أنشأت الدول العربية المعاصرة. والعراق بظروفه السياسية الداخلية كانت هنالك إمكانية تجزئته عملياً من خلال التواجد الشيعي في بغداد والجنوب – والكردي في الشمال الشرقي منه. الإقليم السني المنظور في سوريا والعراق هو الذي يمكن أن يكون الحاجز أو الفاصل الطبيعي لهذا “الهلال الشيعي” الذي أصبح يطلق عليه إعلامياً، ليكون سداً جغرافياً وسياسياً وثقافياً لهيمنة النفوذ الإيراني.
فالإقليم السني سيكون الرابط الجغرافي بين السعودية وتركيا، وبذلك سيعد توازن القوى في المنطقة الى سابقه. فالتمدد الإيراني الأفقي أريد قطعه عمودياً بالاقليمي السني، وأريد لهذا السد أن يكون منيعاً بشحن مذهبي مناهض للوجود الإيراني ومناقض له بعقيدته الدينية، والتي من الممكن بسهولة تجذيرها في نفوس الجماهير في الإقليم وعموم العالم العربي.
فكان إعلان تأسيس الخلافة الإسلامية – داعش في مناطق الإقليم السني المزمع تكوينه، وهي مناطق الشمال الغربي للعراق والشمال الغربي لسوريا. فحدود الدولة الإسلامية في العراق والشام ومناطق سيطرتها كان من الممكن أن يشكل الحجر الأساس لمشروع الأقاليم السني في العراق وسوريا. كان الملفت للنظر هو تحقق تأسيس هذا المشروع في العراق بسرعة مذهلة (خلال أيام وبضعة أسابيع) – فقد كان نتيجة حتمية لتفتت دولة العراق منذ عام 2003 وتقاسم السلطة بين الفرقاء الحاكمين من خلال المحاصصة الطائفية والمذهبية الذين تفانوا في تأصيل نهجها في الحكم.
أما التعصب المذهبي على أعلى مستوياته والذي إنتهجه داعش في دولته إنما كان هدفه أن يشكل البعد الأيديولوجي-العقيدي لهذا الإقليم فيؤلف بين أبنائه ويوحدهم حول هذا الكيان. ولكن النهج الدموي في الحكم الذي سار عليه داعش نخرت في إمكانية إستمرار هذا المشروع. فحالة التوحش الهمجي الفاقع هي التي أنهت تقبل الجماهير لهذا الإندفاع الايديولوجي – المذهبي. كما أن التصفية العرقية – الدينية لا يمكن استيعابها دولياً في القرن الواحد والعشرين. فالمشروع الداعشي الممهد لقيام الإقليم السني لا يمكن أن يتماشى مع العصر الذي يعيش فيه، فإنه يتماشى مع العصور الوسطى.
ومما زاد في عرقلة إستتباب مشروع الإقليم السني هو استمرارية النظامين في سوريا والعراق من خلال ديمومة بقاء القوات المسلحة في كلا النظامين، والتي لم تكن متوقعة. فكان مثلاً تماسك الجيش السوري ودفاعه عن الدولة والنظام لم يكن في الحسبان. أما في العراق، كانت فتوى السيد السيستاني بالتطوع وتأسيس الحشد الشعبي لمساندة الجيش العراقي أوقفت حالة الإنهيار العسكري في أيامه الأولى. ولكن مع هذا، نجح مشروع داعش بإقامة نظام سياسي يشمل مساحة شاسعة تتجاوز 40% من مساحة العراق وسوريا معاً، وبتعداد نفوس تتجاوز الخمسة عشر مليون نسمة. وبهذا فالأقليم (بحدود داعش) هو أكثر مساحة ونفوساً من العديد من الدول العربية، فهو يأتي في المرتبة العاشرة في المساحة والثالثة عشر في عدد السكان. من أجل أن يُكتب لهذا المشروع النجاح، فإن الإقليم لا بد له من مقومات. فبالاضافة الى الحدود الجغرافية والموارد الإقتصادية (من خلال مسك الأرض والسيطرة عليها بالقوة العسكرية)، فإن ديمومة الدولة تحتاج الى الأمة والى القيادة السياسية الشرعية.
فمن ناحية قيادة داعش، فإنه من الصعب الإعتراف بها دولياً. فهنالك إستحالة بإعطاء الشرعية الدولية لقيادات تتبنى منهج الوحشية الفاقعة الذي أصبح جزءاً أساسياً من مقومات نظامها السياسي. ففي فترة التسعينات من القرن الماضي، كان من الصعب حصول “دولة طالبان” في أفغانستان على الشرعية الدولية مع أنها كانت أقل بأضعاف من دموية ووحشية داعش، فلم تعترف بها إلا دولتين في العالم.
القيادة السياسية السنية والتي كان من الممكن أن تكون البديل الطبيعي لتولي إدارة أقليم “الدولة” السنية فهي موضوع شائك آخر نتيجة الظروف الموضوعية في المنطقة. في الجانب السوري كانت متمثلة بقوى المعارضة (الإتلاف الوطني السوري) والذي كان حصيلة الربيع العربي. فقد أخفقت هذه القيادة في كسب الشرعية من غالبية الشعب السوري، وخاصة من الأقليات (الكردية والمسيحية والدرزية والعلوية) بالإضافة الى السنة المؤيدين للنظام، وجميعهم يؤلفون أكثر من نصف الشعب السوري، كما أن وحشية المعارضة المسلحة وهجرة أغلب سكان المناطق السنية من سوريا جعلت الدعم الجماهيري للمعارضة سطحياً لا يضاهي شعبية النظام السوري. وكانت هذه أحدى العوامل التي زادت من تماسك أغلب قوات الجيش مع النظام ووحدت قيادات السلطة الحاكمة فيما بينها، فأحالت دون سقوطها.
في العراق، فإن أغلب القيادات السياسية السنية إنما هي شريك فاعل في العملية السياسية بمكاسبها وإمتيازاتها ومنافعها. كما أن هذه القيادات تدرك من التجربة السورية أن خروجها من العلمية السياسية سيجعلها تحت مظلة الدول الإقليمية وتحت رحمة تمويلها وتقلبات معادلاتها الإقليمية والدولية. فبقائها في داخل العملية السياسية للنظام القائم إنما يحافظ على قوتها ومصالحها.
النتيجة المؤلمة للصراع المسلح، أنه أضحت غالبية أمة الإقليم السني بحدوده الجغرافية مؤلفة من مهجرين ومهاجرين. في العراق، إن عملية التخلص من داعش ودحره عسكرياً تجعل من جميع الحواضر والمدن في الإقليم أماكن خربة ومَواطن أطلال. فلن يبقى هنالك من شعب ولا أمصار – فجميع أبناء السنة في العراق سيصبح مكان عيشه وسكناه في المخيمات أو في مواطن مأواه في كردستان وفي جنوب العراق. كما أن إمكانية العودة الى مساكنهم ومدنهم ستكون صعبة وشاقة، لأن إعادة الإعمار ستأخذ فترة طويلة – وأن الجيل الجديد من الأبناء سوف لن ينتقل في ظلال تلك الظروف القاهرة، لأنه سيعتاد على أسلوب العيش وأمانها في أوطان الهجرة. هذا ما سيجعل القيادة السنية بأن تفقد شرعيتها وهي تعيش في بغداد وأربيل وعمان او في العواصم الأجنبية الأخرى. إن إنفصال القيادة عن جماهيرها – وتعرض الجماهير الى وحشية داعش لم يكن موفقاً، فالبديل الأولي الذي قدم لهم كرمز لهذا الإقليم إنما
هو أسوء من النظام الذي كانوا يعيشون تحت ظله ويعدّوه طائفياً ومجحفاً وظالماً. ومن هذا فإن حكم الإقليم السني بقيادته الداعشية الحالية مستحيلة، وأن القيادة السياسية المشاركة في العملية السياسية إنما تطعي للنظام المركزي في بغداد شرعيته، ولا تأخذ منه شرعية لوجودها.
وبهذا سيكون تحرير الموصل هو المسمار الأول والأخير في نعش الإقليم السني، فسيدفن حلم إقامة هذا الإقليم في نعشه، لأن مكونات إقامة الإقليم السني سوف تنهار كلها جميعاً بالعمليات العسكرية لتحرير الموصل – لأنه سوف يعقبه تحرير الرقة في سوريا– وبتوافق دولي.
كان من الممكن أن يكتب لمشروع الإقليم السني النجاح لو كان البديل حضارياً أو أنه يتمتع بسمات مدنية معاصرة (حتى وأن كانت منهجه دينياً وشعاراته مذهبية)، ولكن التجربة الداعشية السلفية الصاخبة قلبت كل الحسابات ووأدت التجربة في مهدها.
وفي المحصلة، فإنه على الرغم من إنتقاد جميع الحركات اليسارية والدينية والقومية لإتقافية سايكس – بيكو لعام 1917، ولكن الأنظمة التي نشأت من خلالها في الشرق الأوسط في العصر الحديث سوف يعاد لها الإستقرار تدريجياً، ومن ثم تحصل على الشرعية المحلية والدولية، وما كان ليحدذ هذا التطور الطبيعي إلا نتيجة لهمجية ووحشية تجربة نظام الدولة الإسلامية – داعش. فأول الغيث في خارطة الطريق هذه كان إنتخاب العماد ميشيل عون لرئاسة لبنان. ولكن هذا لا يعني أن الدول سوف تتعافى إجتماعياً وإقتصادياً وسياسياً لأعوام وربما لعقود قادمة، فإنما هذا يعتمد على وطنية ورؤية وحنكة القيادات السياسية في كل من سوريا والعراق على بناء الدولة على أنقاض الحرب الأهلية وأن لا يكون همهم الإستحواذ على السلطة وتقاسم المغانم.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب