تقف عتبة النهاية في القصة موقف الحسم في السرد وتمثل نهايات النصوص الادبية السردية خواتيم جمالية وموضوعية تؤثر كثيرا في التشكيل النهائي للنصوص، فالنهايات الناجحة تعزز قناعة القارئ بالجدوى والغاية من القراءة عموما ، فالبداية والنهاية عتبتان تمثلان مرحلة العبور من النص واليه، وهما ذات موقع استراتيجي بين المبدع والقارئ كما أنها من ناحية أخرى تؤطر النص وتساعد على اتمام البنية النهائية.
والمدونة العربية النقدية لم تعتن بالأهمية القصوى لهذه العتبة، إنما اغلب الدراسات اثارت الموضوع وفق معطيات ومعايير انطباعية ذاتية، كما ان الدراسات القرآنية لم تدرسها بشكل دقيق ومكثف برغم اهميتها في جمال النص وروعته، وتبرز هنا اشكالية التأطير والتأصيل للقصة القرانية، وهل يمكن زج مصطلحات القصة الادبية في القصة القرانية؟ ام انهما جنسان ادبيان مختلفان ؟
واذا تأملنا مصطلح القصة القرانية ـ كما تقول سعيدة مرجاني ـ لاحظنا ان هذا المصطلح المركب لم يكن رائجا لدى الاقدمين حينما يتحدثون عن القصص القرانية المذكورة في القران الكريم، ولعل السبب يعود الى انهم لم يكونوا يعدون مفهوم القصة مفهوما ادبيا وان القدماء كانوا يحافظون على مسافة بين القران الكريم وبين الاجناس الادبية ، الا ان الباحثين في العقود الاخيرة حاولوا هدم هذه المسافة وخلق مزواجة بين الطرفين.
وان الانحياز لجهة سواء الاقدمين ام المحدثين يعد خرقا لقواعد البحث العلمي ولصفة الحياد الايجابي كما ان النقاشات مازالت مستمرة في مصطلح القصة القرانية وتكمن المشكلة في استعمال المصطلح دون مراعاة الحدود الفاصلة بين الفهم القراني والفهم الادبي فالنص القراني ذات ابعاد الهية لا يقدر البشر عليها فمنشؤها هو المبدع الاول الازلي وهي قصص واقعية، اما النص الادبي فمخترعه تحت تأثير الخيال الادبي، فيجب مراعاة خصوصية القران للفهم الصحيح للنصوص القرانية وعدم التاثر بالعلوم الاخرى فان نقل اي مصطلح في مجال معرفي الى مجال معرفي اخر لا يخلصه من جذوره السياقية والنظرية التي استنبت فيها و المصطلح يكون مثقلا باصوله المعرفية وان نقل من مجاله الاصيل.
لكن يبقى راي المحدثين في ان كثيرا من العلوم تم استعمالها وتوظيفها في الفهم القراني من كافة المجالات وقد عززت الايضاح والاستدال على عظمت النص القراني فلا يقف الفهم عند حدود معينة لان القران الكريم يصلح لاي زمان مهما تطورت مفاهيمه ومصطلحاته وعلومه .
وما يهمنا ـ هنا ـ احد العناصر المهمة في بناء القصة الحديثة وهو عتبة النهاية وسنحاول استتدراج قصة عيسى (ع) لفهم السياقات القرانية وكيف تعامل النص المقدس مع انهاء هذه القصة ، وربما تسنح لنا الفرصة في قادم الايام ـ ان شاء الله ـ اعداد دراسة متكاملة لفهم نهايات القصة القرانية وبيان اعجاز القران الكريم. فقد وردت قصة نبي الله عيس (عل في اكثر من موضوع واية وسور متعددة ذكر (ع) بأسم عيسى (25 ) مرة وبأسم المسيح (11 ) مرة وكناه القران ابن مريم (23) مرة .
وتبدا القصة من تتبع البدايات وعلاقتها بالسيدة مريم (ع) تمهيدا للدخول في المضمون من جهة وبيان الاختبار الالهي واشتراك ثيمة الولادة بين مريم (ع) وعيسى(ع) ومسألة اختبار اليقين لدى عمران وزوجته وهو من سلالة سليمان بن داود وكان اماما للاخيار في وقته ولم ينجب ولدا اذ كانت زوجته عاقرا وطلبت من الله ان يهب لها ولدا تقر بها عينها وعين زوجها ، فاستجاب الله عز وجل لها ومنحها ما طلبت لذا نذرت ان تهب وليدها عبدا مخلصا وخادما للمعبد .
( إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
وجاء المولود انثى وتستمر القصة في سرد الاحداث لتصل الى النهاية المفتوحة تحت تاثير الهندسة المعمارية للحكاية فانها تطلق طاقة اثارة التساؤل فالنهايات المفتوحة تسمح بتنشيط التفكير والتدبر ( ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون) ، فإن القران الكريم قال في نهاية قصة عيسى(ع) يبين حماية الله لنبيه ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) فهذه النهاية تنفح على الدنيا والاخرة في مشهد اختفاء (البطل) وانسحابه من الاحداث في الدنيا ويظل المنكرون في حيرة وشك وهذا تناص مع بداية قصة مولده (ع) فالبداية مطبوعة بالشك والنهاية ختتم بالشك بحدث رفعه الى السماء ، اما في الاخرة تطيح القصة بانكار غير المؤمنين ليعلموا ضلالتهم ، ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) .
اذن نحن امام احدى العناصر الابداعية والجمالية للقران الكريم في سرد نهايات القصة بما يضمن تحقق الاهداف الدينية من القصة عموما ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) وكذلك بيان الغايات الجمالية الفنية ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ ).