ملاحظة/ كتب هذا المقال في شهر نيسان ولم ينشر، مع ضرورة التذكير بأنه غير مكتمل.
الحد الفاصل بين الحرب الثانية والحرب الثالثة (المفترضة) يحتوي على أحداث غيرت مجرى التاريخ؛ صراعات عسكرية وسياسية وإقتصادية، سقوط آيدلوجيات ودوّل عظمى وخلافتها بأخرى لا تقل عظمة، تطورات تكنولوجية مذهلة..كل شيء بحركة مستمرة، لذا لم يعد للممارسات التقليدية حضور مطلق. فالحرب العالمية الثالثة ليس لها نقطة بداية أو نهاية واضحة؛ إنما إكتشافها يأتي بعد تحقيق أهداف الحرب للطرف المنتصر أو قد تنتصر الأطراف جميعها وربما جميعها تُهزم!.
الحرب الثالثة مستعرة منذ سنوات، غير إنّ أدواتها المباشرة غير مرتبطة بوضوح مع أقطابها الرئيسية. لمحة لعلاقة حلفاء أمريكا بداعش أو صناعتهم ودعمهم لها، وعلاقة حلفاء روسيا بالحرب ضد داعش؛ تكشف إننا قطعنا شوطاً طويلاً من الحرب.
الحرب العالمية الثالثة ليس من أهدافها صياغة جديدة للعالم، فتوازن القوة يمنع نصراً ساحقاً أو هزيمة شاملة للأقطاب الرئيسيّة المتصارعة.
مسرح الحرب، هو الشرق الأوسط، سيما المناطق الرخوة كسوريا والعراق واليمن، والأطراف أصبحت واضحة..هذه أطراف معادلة الحروب، وهي مكتملة وتتفاعل منذ زمن، فضلاً عن تواجد أو غياب عوامل مساعدة. هذه الحرب لا تشبه الأولى والثانية في نقطة جوهرية؛ إبعاد العمليات عن أراضي أقطاب الحرب. ثمة إختلاف آخر، ذلك المرتبط بمرونة سياسية. وتحديداً هذا الفرق، يجعلنا غير ملتفتين لطبيعة الحرب الكونية التي تجري في مناطقنا. إذ نجد أمريكا وروسيا، رغم نشوب الصراع، بجلوس وتفاوض مستمر، إيران كذلك تخوض الإتفاقات وتحاور. لكن الحقيقة الجارية على الأرض، وحدها أصوات المدافع ودموع المعذبين من يفصح عنها. سنوات الحرب..
إنّ لكل طرف في هذه الحرب مجموعة أهداف، إنسجامها أو تقاطعها؛ حدد الدول المنضوية تحت كل طرف من تلك الأطراف. أبتدأت عندما قرر بعض الأنظمة التابعة للقرار الإمريكي، أن تتدخل علناً في أحداث داخلية لدول عربية. تلك التدخلات، رغم تأثيرها السلبي على الشعوب والحكومات المستهدفة، غير أنها لم تحقق أهدافها. ومن هنا أصبح ملف النزاع العسكري، عرضة للمساومة والتبادل بين الأطراف المتحالفة على تغيير المنطقة لصالحها ( تركيا، قطر، السعودية) والكيان الصهيوني بأعتباره المستفيد الأكبر من الصراع.
ملف التدخل العسكري، إبتدأ من قطر وتركيا ثم صارت الغلبة للسعودية نتيجة لفشل القطريين في الحسم. إِلَّا أن سنوات الحرب الأولى في سوريا، مع إنها لم تحقق أهدافها، فقد صنعت أبشع قوى التطرف والإجرام على مدى التاريخ، وبعد تعاظم قوة تلك التنظيمات الإرهابية؛ أصبحت جميع الأطراف تواجه تهديداً مشتركاً. الخليج وتركيا، لا يمكنهم المضي خطوة واحدة دون موافقة الإدارة الأمريكية، والأخيرة لا يمكنها القبول بتنظيم كداعش أو النصرة، قد تقبل به ضمن حدود السيطرة، لكن أن يتضخم ويتغوّل بالطريقة الحالية فهذا لا ينسجم مع العقلية الأمريكية. بالطرف الآخر، هناك دول تحارب المشروع برمته، سواء بداعش أو بغيرها..الرفض الأمريكي ل(داعش) إنسجم نسبياً مع تلك الدول التي تقاتل الإرهاب. ولعل هذه آخر سنوات الحرب، في حال غُلّبت لغة الحوار والمصالح المشتركة للعالم على اللغة الإقصائية.
تفعيل الدور الروسي في سوريا والتدخل المباشر في العمليات العسكرية ضد الإرهاب، لا يشكل تصعيداً ضد الولايات المتحدة، سيما إن إشارات صدرت من البيت الأبيض تدل على رغبة للتعاون ضد الإرهاب. الروس كسبوا عدة نقاط في تدخلهم هذا؛ فمن ناحية إحراج التحالف الدولي الشكلي الذي لم يحقق أي شيء على الأرض، وهنا تثبت روسيا على إن قدرتها أكبر أو توازي الأمريكان وحلفاؤهم. من ناحية أخرى إمكانية فرض الحلول السياسية المقترحة لإنهاء المشكلة السورية، فالأمريكان لا خيار لهم سوى التعامل مع الواقع أو الرفض وهذا يعني الحرب المباشرة والتي يتجنبها الأمريكان لحسابات تتعلق بأمكانية المحور الروسي.
التواجد الروسي في المنطقة حتى وإن حقق هدفه وفرض حلاً للأزمة السورية، لكن أزمات المنطقة لا تتوقف في دمشق. وهذا يعني إن هذه المرحلة قد تشهد إنسجاماً بين الطرفين، رغم إنّ الإحتكاك وارد وقد يؤدي إلى مرحلة (حرب نووية) في حال تعثرت المفاوضات المستمرة لغاية الآن.
الأوربيون يبدون أكثر حماسة للإحتكاك أو لإفتعال صدام يُجبر الروس على التخلي عن مشروعهم (تحطيم القوى المتطرفة بكل أشكالها). وهنا تكمن نقطة الحرج، فروسيا عندما قررت خوض المعركة، كانت مدركة تماماً لقدراتها وقدرات من يتقاطع معها، ولعلها أرادت أكثر من إستعراض قوة أو دعم حليف.
نقطة التحوٌل الجوهرية، هو ضغط اللجوء الإنساني وأحداث باريس الأخيرة التي جعلت البوصلة الفرنسية تتغير بوضوح أكبر، وهذا التغيّر يعني تنازل باريس عن هدفها الذي تحمست له طوال سنوات (إسقاط النظام السوري) لحساب هدف آخر؛ “القضاء على الإرهاب”.
هذه النقطة جعلت الفرنسيون يقتربون من الروس، ولهذا معنى أكبر في الحسابات الدولية؛ إذ إنّ الخمسة الكبار توافقت أهداف ثلاثة منهم لم تلتق منذ سنوات طويلة (روسيا..الصين..فرنسا). الصمت الإمريكي لا يبعث على الريبة، وتبدو أمريكا أكثر توافقاً مع روسيا في المرحلة الحالية، بينما تتقاطع مع حلفاؤها (الخليج وتركيا).ما بعد الطائرة الروسية..
تريّث في روسيا رغم الإنزعاج المصحوب بإتهامات موسكو لإنقرة، وقلق في أنقرة عكسته تصريحات الرئيس التركي ومحاولاته في التنصل عن معرفة هوية الطائرة مرة، والإتصال أو الجلوس مع الرئيس الروسي مرة أخرى. عند هذا الحد كانت الصورة غامضة والأحداث مفتوحة على إحتمالات عدة؛ غير أنّ قمة المناخ في باريس حملت إدانة (أمريكية-أوروبية) ضمنية أو غير معلنة، وإمكانية للتخلي عن الإتراك. إشارات تلك الإحتمالات مررت من خلال مؤتمر صحفي للرئيس الروسي مع مجموعة من الصحفيين الروس والفرنسيين، إذ وضع أنقرة ضمن قائمة رمادية عندما إتهمها علناً بدعم الإرهاب وإستخدامه لتحقيق “مصالحها السياسية”. لم تكتف إدارة بوتن بتوصيف تركيا فقط؛ إنما كانت خطواتها الجوابية على الإتراك غير متوقعة على ما يبدو من خلال الحيرة التركية..بعد جملة عقوبات إقتصادية، عزز الروس مواقعهم العسكرية في سوريا بإضافة منظومة (أس٤٠٠) ونشاط بحري يتصاعد، فضلاً عن الحديث حول إقامة قاعدة جوية ثانية على الأراضي السورية.
الخطوة الأكثر ثقة في الحراك الروسي، هي الأنباء الواردة من قبرص؛ إذ بعد زيارة وزير الخارجية الروسي تسرّبت أنباء عن إكتمال الإتفاق بين الجانبين على تدشين القاعدة الروسية في قبرص مدعّمة بأسطول بحري ومنظومات دفاع جوي!.
إذن هي القاعدة البحرية الثانية في المتوسط للروس، وهذا يعني إنّ موسكو تحث الخطى لتطويق أقوى دولة في ثلاثية (تركيا-سعودية-قطر).
لقد وفر أردوغان للروس مبررات قطعت حبال الود في العلاقة السابقة بين الطرفين، ويبدو إنّ هذا يسرّع في عملية حسم الحرب الكونية التي تشهدها المنطقة العربية.نهاية الحرب لابد أن تشهد مستجدات تحقق مصالح مهمة في منطقة الصراع والعالم بصورة عامة، وعلى الأرجح ستكون النهاية غير مستهدفة لخرائط الدول والحدود؛ إنما تستهدف بعض الأنظمة التي وصلت مرحلة شيخوخة، سيما تلك العابثة في الأمن والسلم العالميين. تركيا، قطر، والسعودية؛ دخلت حقلاً ملغوماً لا يمكن الخروج منه بسلام.
ثمة تساؤل يدور في مخيلة الخليجيين والأتراك على حدٍ سواء: هل ستبقى أمريكا متفرجة ويستمر صمتها إزاء التمدد الروسي؟!في الواقع تساؤل غبي؛ فأمريكا لا تدخل حرباً شاملة من أجل تمر بضعف كبير.