22 ديسمبر، 2024 11:35 م

” نهارات بلا تجاعيد” لعبدالرزاق الربيعي : موت المعشوقة يعيد الانبعاث

” نهارات بلا تجاعيد” لعبدالرزاق الربيعي : موت المعشوقة يعيد الانبعاث

عرف الأدب العراقي القديم في الحضارة السومرية تعدّدات العناصر المكونة للأدب القديم ومن أهمها الشعر الأكثر حضوراً وتمركزاً في الحياة العامة الدينية والثقافية .

وكان للطقوس حضور مهيمن للغاية ، لذا برز ضمن هذه الفعاليات البدئية الشعر وخصوصاً ما له علاقة بالزواج الإلهي المقدس . وتحول هذا الطقس حاضراً وفاعلاً وتزاوله الممالك السومرية ، في الربيع والصيف . وكانت الإلهة أنانا / عشتار هي الإلهة العروس ، والإله دموزي / تموز هو العريس . وينوب الملك عن الإله الشاب ، والكاهنة عن أنانا في الشعر المكتوب عن طقس / عيد الجنس المقدس وهذا تمجيد كبير للجسد ، ساهم بإنتاج نوع من الشعر اللذي ، أو نصوص تمجيد الجسد . وتميزت النصوص الأكدية من القرن الرابع عشر ق . م بعنوان نشيد لدموزي وأنانا . ومن هذه النصوص هذا المقطع للدلالة : أيها الرجل الشاب المحب .
تعال أيها الراعي ، يا عاشق عشتار
سوف اغني للراعي المقدام ، سأبتسم للراعي اللامع .
الآن . خذني الى المنزل أيها الراعي
كيف سأبتسم للرجل المفعم بالحيوية
عندما تعرف عيني اليمنى
سوف اتيح لك البقاء هذه الليلة ، أيها الشاب
الليلة … هذا المساء
حبك جوهري ، ابتسامتك ذهب
تعال جذلاً ، أيها الملك .
الإشارة لشعر طقس الجنس المقدس ، يقتضي المرور سريعاً لنصوص الندب والمرائي التي تناولت المدن وهي الاكثر حضوراً والملوك والأصدقاء والزوجات وما تضمنه ديوان الشاعر عبد الرزاق الربيعي ” نهارات بلا تجاعيد ” تضمن عديداً من النصوص الشعرية المتنوعة التي تتمركز حول العلاقة الثنائية بين الذكر والمؤنث وما تبثه خزانات العشاق وما تحكيه مستعاداً خزانات الذاكرة . وأكثر ما أثارني وأنا اقرأ ديوان صديقي الشاعر المعروف عبد الرزاق الربيعي ” نهارات بلا تجاعيد ” هي نصوص الاستذكار والاستعادة من سرديات الذاكرة التي حافظت على مرويات كثيرة . وانا معجب جداً بقدرات الربيعي الفنية التي استحضرت محكيات الماضي ، الما قبل الغياب وتعامل معها بوصفها تمجيداً لتاريخ طويل ، نهضت فيه شعرية عالية . ونهضت مرويات كثيرة . كان الشاعر الربيعي وظل وحده الخازن والحافظ والمردد لها ، وكأنه عبر ذلك لا يؤشر نسيان الما قبل . بل يستحضره ويستعيده وكأنه يعيشه بكل لحظاته . هذا ما توحي به المرائي والبكائيات . ولأن هذا الطقس الثقافي والديني كان وظل وسيستمر ، ذهب إليه عبد الرزاق الربيعي ، من أجل أن يعطي عشتار وقوة ويضفي عليها طقسيات الماضي الخالدة التي منحتها بقاء أبدياً .
ملايين الأعين / بكت عليها / جنباً الى جنب / مع الأرواح الرهيفة المحتشدة / في ساحات الحداد / وسرادق العزاءات / عدد لا يحصى من الصلوات / على روحها البيضاء / في عرضها الاخير / ص43.
عشتارته الغائبة في فضاء طقسها العشقية استحضرها الشاعر محمولة بأجنحة الملائكة / رفرفت على طريق معراجها / الى السماء . اضفى عليها خصائص مقدسة ، تشبه بالآلهة المذكرة ، لهم مكان سماوي وارضي . والإلهة عشتار سماوية وأرضية ، متماثلة مع الأمّ الكبرى / الأرض الرمزية الأمومية ، لم يتركها بيضاء الجسد / بل أخذها نحو طريق المقدس ، الخاص بالأنبياء من خلال معراجهم وهم يصعدون السماء .
منحها مقدسات ، لم يحز عليها إلا الرموز ، ويبدو بأن فاطمة أحد أهم رموز الدنيا . الفضاء الذي عاشها وشاخ فيه الشاعر عبد الرزاق الربيعي ، هو يرى آلهته تتحضر للغياب لحظة ، بلحظة ، متماثلة مع لإلهة المقدسة التي تعطلت طقوسها الدينية في ممارسة الجنس المقدس ، ولن يكون لها حضور في شارع المركب في احتفالات الاكيتو وحطت وجلة / فوق الشارع الذي حمل اسمها / والساحة التي سيقف بها / شامخاً / تمثالها ساحراً / الاف القلوب شيعت / جراحها / العشوائية / الى مثوى الجمال / مئات معارض الاناقة / علقت صورها / على زجاج واجهاتها التي ابيضت من الحزن / عشرات الفضائيات / وضعت / على بسمتها اشرطة عويل / ص45//
غابت الإلهة المجروحة ، وهذا النص البياض قدم لنا مروية عن المعشوقة المجروحة ، كل المملكات يواجهن الموت / والغياب ، لكنهن متوجات بالبياض . الهة الشاعر غابت ، حاملة جروحها أمام عينيه وهو يرى الاجل يدنو منها ، لا بل فيه هي التي غابت وهو الباقي حاضراً ، لكنه لا يقوى على الكرب ، لأنه غائب . فالكينونة ثنائية منها ومنه ، ومن المعشوقة والعاشق . لذا لم ينسها ابدا امسك بها ولا وسيلة لديه غير الندب والمراثي التي يحكيها الشعر . والزوجة الغائبة التي حضر لحظة الغياب ، حاملة معها رفرفات الملائكة البيضاء ، ورائحة دم الجروح التي رآها وعرفها جيداً لذا . لم تبصر عيناه بباحته إلا بي / ليس هناك سواي / قلت لقلبي / اخلع نعليك ” يا قلبي (ادخل ) فدخلت / وجدت المسجد / مكتظاً بالحشد / وما من يتعبد / فيه عداي / تجاوزت الاعمدة / المصطفة كالجند / شققت طريق كالمحراب ، صعدت / وكبرت / بكل ضجيج الارض / المخزون بحنجرتي / ص23.
مرثية خاصة بالمعشوقة الغائبة ، التي زاولت تمثيل دور الملائكة التي لاحقتها بآلاف الاجنحة وهي تعلن حقيقة اسطورتها التي عرجت معها نحو السماء وزاولت دور انانا / عشتار . هي المرأة التي غابت حاملة جروحها تنفرد بكل ما يميزها عن غيرها . لكن بكائية الشاعر ومرثياته ذات الأصول السومرية البدئية ، هي التي انفردت بما يميز الفضاء والذي لم يكن فيه غير الشاعر فقط .
” ليس هناك سواي / قلت لقلبي ” اخلع نعليك ” يا قلبي / هنا تتضح قدسية بدئية مع رجل اجتاز سيناء ولم يجتز محكية الحب الذي لم يعرفه من قبل بقداسة تضفي صفتها على المكان عبر الحزن او الفرح ، لان الراوي وجد المكان مزدحماً بالملائكة المرافقة للجثمان الملون بالجروح ، وهو يغادر . لكنه انتبه أخيراً بأنه الباقي وحيداً ، هو المتعبد وليس احد غيره بمعنى هو الذي ادركت خسارته ، لان الغياب هو الذي التقط افراحه وجعله وحيداً .
سار الجمع الذاهل خلف
ضياء هداي
وتفرَّق لمي .
في طرقات الوحشة……
ساعتها ….
لم اسمع / غير نحيب خطاي / س444//
أهم ما يضيء هذا النص الندّبي هو محكياته التي تعاود حضورها لحظة بعد لحظة . فالعويل لديه اصوات / ايقاعات ، لكنه بالمحكي يتحول اشرطة وحتماً ملونة ، لكنها بالنهاية تحوز سوادها . اثنا عشر طبيباً / هرعوا لمنصات / الطبيب العدلي / ليشرحوا أعضاء الزهرة / بحثاً عن عشبة ” عشتار ” التي فقدتها في طريقها / من أحضان أرز / لغابة كلكامش.
لان الغائبة عشتارية لأكثر من سبب ، أولها قال الربيعي لها بدئيات لها صلة مع جلجامش وثانيهما إن المعشوقة اضفت صفة اسبق ، ذات قدسية ، منحتها سببية الخراب والصراع وانتصار الجدل بين انكيدو وجلجامش . بغائبة بجروحها وأمامها اثنا عشر طبيباً / هرعوا لمنصات / الطب العدلي / ليشرحوا أغصان الزهرة / بحثاً عن عشبة عشتار التي فقدتها في طريقها / من أحضان الارز / لغابة جلجامش .
التزامن واضح وتداخل الامكنة او الجغرافيات ، لكن التباعد لا يلغي التشارك والتزامن . لا تعطيل ما بين الاثنين فأن الغائبة ابنة الفردوس والحاضر في غائبة الأرز ، والعناصر النواحية بين الاثنين لم تلمع الوحدة العميقة بين الغائبة والحاضرة عبر السردية النمطية والمنقولة واقعياً للحدث اللحظي ، الذي أفضى بها الى الغياب وهذا الخرق النمطي الذي خلخل النص يعني عدم قدرة الشاعر مقاومة ما حصل امام عينيه . لكن الانتباه قاده الى غابة الأرز والعشبة المسروقة ما هي الا غياب الجسد ، ولحظة الغياب تعطل الرمزيات المشتركة بين الاثنين اللذين خسرا الاغنية البدائية . وظل الصمت قاسياً لا يحفز احد منهما وهنا مكمن التراجيديا :
نائيان يسكنان
مثلما اعتادا
بلا مكان / ص112