18 ديسمبر، 2024 6:46 م

نم قرير العين “أسيد” فمعاناة الأطفال الخدج صارت قضيتنا !

نم قرير العين “أسيد” فمعاناة الأطفال الخدج صارت قضيتنا !

قبل أن أمتطي صهوة قلمي وأشق غبار الكلمات لأخوض غمار مقال إنساني جديد ،أزعم بأن مأساة الطفولة ومعاناة الأمومة فضلا على قضايا الأسرة والمرأة والمجتمع الشائكة والملحة،كانت شغلي الشاغل وعلى مدار 25 عاما متواصلة من عملي في أروقة السلطة الرابعة لتتربع على مساحة لابأس بها وتشغل حيزا من مجمل مقالاتي وحواراتي وتحقيقاتي الصحفية المنشورة في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية ، ولقد  دأبت على رصد حالات فردية وأحيانا جماعية مشفوعة بإحصاءات وأرقام وشهادات حية لشهود عيان لتكون بمثابة عينات أو بالأحرى نماذج مختارة تؤشر الى شريحة ما من الشرائح المهمشة أو المظلومة في مجتمعاتنا العربية عامة،والمجتمع العراقي خاصة، ليبدأ المقال بها مشرقا ومغربا قبل أن ينتهي إليها،وفي كل مرة كانت السطور التي ترصد حالة انسانية محددة ولفرط الاجهاد الكبير الذي يعتريني من جرائها، ونوبة التأثر البالغة التي تنتابني بسببها،فضلا على حجم العصف الذهني والانفعال الوجداني الذي تحدثه في عقلي الباطن علاوة على ضميري المستتر ممزوجة بدموع حبيسة بين الأحداق تارة، وبدموع حرى تنثال على الخدين مدرارا تارة أخرى، لتحظى المقالات الانسانية بالاهتمام المنشود ، ربما لأنها تستصرخ الضمائر الحية، وربما لأنها تخاطب العقول النيرة وتداعب الأحاسيس الانسانية المرهفة وتدق أبواب القلوب الموصدة ، ولاغرو أن ما يخرج من القلب الذي يستبد به الشوق ويعتصره الألم صادقا،فإنه سيقع في قلب مقابل يتلقفه من دون استئذان،أما عن الهدف من وراء ذلك كله فيأتي لتنبيه الغافلين،وتبصير الذاهلين،وإعلاء همم المتكاسلين،ورفع معنويات المحبطين،ومقارعة المثبطين،ومحاسبة المقصرين،وتوبيخ المهملين من خلال تسليط الضوء على مآس لم تنل حظها الوافر من الاضاءة الإعلامية والاهتمام الشعبوي المطلوب وبما قد يذهل عنها نتيجة لذلك كثير من أصحاب الشأن والاختصاص، وتأسيسا على ما تقدم فها أنذا وجريا على عادتي في الكتابة الانسانية والمجتمعية أجدني مضطرا للكتابة عن موضوع مهم جدا لم يسبق لي أن كتبت عنه من ذي قبل ألا وهو موضوع”الاطفال الخدج”،وذلك بعد أن تناهى الى سمعي، ليكدر صفوي ،ويخبث خاطري، نبأ وفاة الطفل الخديج “أُسيد” بقسم الخدج في أحد المستشفيات الحكومية، حيث ظل ” أسيد ” على قيد الحياة ولأيام عدة داخل مستشفى أهلي مقابل تكاليف علاج باهظة ليس بوسع الكادحين والعاطلين وذوي الدخل المحدود تحمل أعبائها قط،ولا أدري حقيقة  هل هذا هو قدرنا نحن العراقيين على الدوام لنحيا مقابل المال، أو أن نموت بخلاف ذلك إما جوعا أو قهرا أو جهلا أو مرضا أو ذلا من دونه، ولله در أبو بكر الإشبيلي،القائل وبما يصدق فينا جميعا : 

الفقر في أوطاننا غربةٌ…والمال في الغُربة أوطانُ 
والأرضُ شيءٌ كلها واحدٌ…والناسُ إخوانٌ وجيرانُ 
طفل جميل زرع البسمة على شفاه أبويه،وألقى البهجة في قلبيهما فور ولادته الميمونة فأسمياه”أسيدا” وهو مصغر أسد للدلالة على الحزم والشدة كما تذكر المعاجم العربية، وتيمنا بالصحابي الجليل أسيد بن حضير الاوسي، وكان سيدا مطاعا مهابا وشجاعا في قومه،لتبدأ حكاية”أسيد”مع الساعات الأولى لولادته المبكرة بتاريخ 17/ 1 مساء يوم الأربعاء وفي تمام الساعة ١٠:٤٥ تحديدا ، ليكون” أسيد “بذلك واحدا من بين كل عشرة أطفال حول العالم يولدون قبل الأوان ولما يكمل فترة الـ 37 أسبوعا داخل رحم أمه بعد،ما يسفر عن نقص وعدم اكتمال نمو بعض الأعضاء الحيوية كالرئتين والجهاز الهضمي ونحوها، بحسب منظمة الصحة العالمية،فيما حددت الأمم المتحدة السابع عشر من شهر تشرين الثاني من كل عام يوما عالميا للاطفال الخدج أو المبتسرين كما يطلق عليهم للفت أنظار العالم الى هذه الشريحة وحث الحكومات أسوة بالشعوب لعلاجهم ورعايتهم على النحو المطلوب .
لم يجد الوالد الصابر المحتسب(ع. م.م) بدا من الذهاب بفلذة كبده الى أقرب حاضنة مخصصة لرعاية الأطفال الخدج تمثل – رحما صناعية بديلة لحين اكتمال نموه – في أي مستشفى حكومي إلا أنه لم يجد مكانا فيها لقلة الأجهزة المطلوبة مقابل كثرة الولادات، وعبثا حاول إيجاد ضالته وهو يدور بين المستشفيات حائرا ومشفقا على ولده دوران القطب في الرحى من الساعة الـ ٧ صباحا وحتى الـ ١٠ ليلا، ولكن وبعد أن ضعف نبض “أسيد” وأصيب بالجفاف أضطر والده للذهاب به إلى أقرب مستشفى أهلي لانقاذ حياته مهما كان الثمن،ليتم وضعه في جهاز الانعاش الرئوي”فنتليتر”وهكذا لمدة ستة أيام متتالية،تراوحت تكاليف علاجه وفحوصاته اليومية المخصصة لرعاية طفل من الأطفال الخدج ما بين (٤٠٠ الف – ٥٥٠ الف دينار) كل ذلك ما خلا حقنة الرئتين = ٥٠٠ الف دينار في اليوم الاول من الولادة ولاسيما وأن الطفل الخديج يعاني من عدم اكتمال الرئتين ، ولكن وبعد أن أثقلت الاعباء المادية الباهظة كاهل أبويه أضطرا لنقله بعد جهد جهيد الى أحد المستشفيات الحكومية ليفارق ” أسيد ” الحياة في اليوم التالي من جراء ندرة التخصص المطلوب لرعايته، زيادة على صغر حجم أوردته وشرايينه، فضلا على ضرورة مراقبة حالته الصحية الحرجة على مدار الساعة وبوجود الطبيب المختص ، وبما لم يكن متيسرا ولا متاحا داخل المستشفى الحكومي !
توفي “أسيد” مساء الاربعاء ٢٥/١،في نفس ساعة ولادته تقريبا،ليخرج والده له شهادة ولادة ووفاة في آن واحد وفي ذات اليوم الذي ذهب به الى المقبرة لدفنه  بعد الصلاة عليه وفقا للقول الراجح عند جمهورالفقهاء ، فحلقت روح أسيد الطاهرة الى بارئها بصحيفة بيضاء نقية ناصعة لم تكدر صفوها الآثام ، ولم تعكر بياضها الذنوب، ليكون ” أسيد ” بذلك شفيعا لأبويه كما ورد في الحديث النبوي الشريف “إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبته”، كذلك ما ورد في الحديث الحسن”إذا ماتَ ولَدُ العبدِ قالَ اللَّهُ لملائِكتِهِ قبضتم ولدَ عبدي ،فيقولونَ نعم ،فيقولُ ،قبضتُم ثمرةَ فؤادِهِ ، فيقولونَ نعم ، فيقولُ ماذا قالَ عبدي، فيقولونَ حمِدَكَ واسترجعَ ، فيقولُ اللَّهُ ابنوا لعبدي بيتًا في الجنَّةِ وسمُّوهُ بيتَ الحمْدِ” .
وبما أن الشيء بالشيء يذكر فلن يغيب عن بالنا تلكم الجرائم النكراء التي ارتكبتها قوات الاحتلال الصهيوني الغاشم بحق الاطفال الخدج حين قطعت الكهرباء عن الحاضنات داخل مستشفى الشفاء في قطاع غزة ما تسبب بتوقف محطات الأكسجين وأجهزة الانقاذ ووفاة 8 أطفال منهم قبل أن يتم إجلاء البقية ممن ظلوا على قيد الحياة في اللحظات الأخيرة وهم في حالة حرجة، لتكرر قوات الاحتلال جريمتها مجددا في مستشفى النصر للاطفال هذه المرة ما أسفر عن وفاة خمسة اطفال خدج عثر على جثثهم المتحللة لاحقا ! 
لقد كتبت ما تيسر لي كتابته عن الطفل الجميل “أسيد” لألفت عناية المسؤولين ومن يهمهم الأمر الى ضرورة بذل الوسع للاعتناء بالاطفال الخدج وايلائهم الرعاية الصحية الكافية،مشفوعة بتخفيف الأعباء المالية داخل المستشفيات الاهلية ،وتوفير العلاجات والأجهزة الحديثة المخصصة لانقاذ حياتهم داخل المستشفيات الحكومية،لأن الدول والحكومات التي لاتهتم برعاية أطفالها، ولا بولادتها الحديثة فإنها ستعض أصابع الندم مستقبلا ولات حين مندم .
قصة الملاك الطاهر “أسيد” لم تكن الأولى ، ولن تكون الأخيرة في سلسلة مقالاتي الانسانية قطعا،فهكذا كان الحال مع الطفلة “مريم”التي وقع عليها اختياري قدرا قبل سنين خلت كأنموذج لمأساة الاطفال من ضحايا مرض” ضمورالعضلات الشوكي”الذي يفتك بالمئات من أطفالنا من دون علاج يذكر ما عدا حقنة “Zolgensma ” الأغلى ثمنا في العالم والتي يبلغ سعر الحقنة الواحدة منها 2.1 مليون دولار،وقد حظي المقال يومها باهتمام كبير لأن ما يخرج من القلب وكما أسلفت في مستهل المقال يقع في القلب ، وكان سببا في دعوتي لحضور فعاليات “منتدى الاعلام العربي”لثلاث دورات متتالية في دبي ، ولم يختلف الحال مع التحقيق الصحفي الذي تناول “أطفال التوحد”وما يعانيه الضحايا زيادة على ما يبذله ذووهم من جهد جهيد في تربيتهم وتعليمهم وتأهيلهم وعلاجهم في مجتمعات لا تخلو من السخرية والتنمر على أشباههم وأقرانهم ونظرائهم،وقد تمت دعوتي للمشاركة في مؤتمر من مؤتمرات منظمة اليونيسف في اربيل بسببه، أما عن “تحقيق اليتيم”بالاشتراك مع أحد الزملاء الأعزاء فقد حصل على المركز الرابع في قائمة”جائزة سمير قصير”الدولية التي يرعاها الاتحاد الاوربي في بيروت لأن المقالات والتحقيقات والحوارات الانسانية وبخلاف نقيضاتها السياسية المقيتة ، فإنها تجد تعاطفا كبيرا من قبل القراء على اختلاف مكوناتهم وطوائفهم واعراقهم !
وكذلك الحال مع مقال”ابراهيم الخليل”المصاب بمرض الثلاسيميا أو فقر دم البحر الابيض المتوسط ، وليس هناك من علاج شاف لهذا المرض الوراثي الذي ابتلي به حتى مماته سوى بعملية زرع نخاع تكلف الاف الدولارات خارج العراق، حيث فارق ابراهيم الخليل ، الحياة الى رب رحيم منذ ثلاثة أعوام قبل أن يتم علاجه لأنه ابن لأسرة من ذوي الدخل المحدود، وقد اخترته أنموذجا لتسليط الضوء على معاناة أطفال الثلاسيميا وبغية توفير أكياس الدم اللازمة التي يحتاجونها كل 3- 4 اسابيع مدى الحياة، اضافة الى حقن الديسفرال ،وحبوب الفوليك أسيد،ولاسيما وأن أسعارها في الصيدليات تفوق قدرة وتحمل أولياء الأمور، ومثله كان مقال”الطفل مروان”الذي أصيب بالشلل النصفي نتيجة قذيفة طائشة سقطت على مقربة من داره المستأجرة وقد اخترته أنموذجا للاطفال من ضحايا العمليات الحربية للفت انتباه المعنيين ومن يهمهم الأمر الى مأساتهم بهدف التحرك العاجل وبذل المزيد من الاهتمام لعلاجهم ورعايتهم صحيا ونفسيا وماديا، وهذا هو عين ما كنت أسعى اليه في  مقالي عن الطفلة الجميلة ” جنات الجميلي ..رسامة القدم” والتي عانت قبل وفاتها من ضمور العضلات وتكلس العظام وتقوس العمود الفقري بنسبة عجز بلغت 100 %، وكانت جنات اجتماعية وذكية وموهوبة حتى انها فازت بالعديد من الجوائز المحلية والعالمية في فن الرسم، كل ذلك لعل برنامجا انتخابيا،عشائريا،مجتمعيا، تربويا، اكاديميا يتعهد أو يتكفل بتأهيل كل هؤلاء الاطفال وأمثالهم من ذوي الإعاقات البدنية كالشلل النصفي أو الرباعي، وأمثالهم من أصحاب الإعاقات الحسية كالصم والبكم والمكفوفين، وأصحاب الإعاقات الذهنية ،ومتلازمة داون (المنغول) ، وشديدي العوق مع إن المادة 32 من الدستور العراقي تنص على، أن “الدولة ترعى المعاقين وتكفل تأهيلهم بغية دمجهم في المجتمع” .
وفي الختام لايسعني الا أن أتمثل قول ابن عساكر الدمشقي،القائل في فضل الرحمة والتراحم بين البشر: 
واشكرْ لمولاك ما أولاك من نعمٍ…فالشكرُ يستوجبُ الإفضالَ والكرما 
وارحمْ بقلبِك خلقَ الله وارعَهُم …فإنَّما يرحمُ الرحمنُ مَن رَحِما