23 ديسمبر، 2024 11:12 ص

نم سيدي الجواهري نم

نم سيدي الجواهري نم

في محاولة وصف قد أخفق في طرحها، أو لعلي أتهَم بالمغالاة في سردها، وإن نجوت من الإخفاق والمغالاة فإني سأقع في شرك التشاؤم والقنوط، وإن نفذت من شرك الأخيرين، فالنظرة السوداوية ستكون محصولي مما أنا ماضٍ في قوله. أما لو سلمت من هذي وذاك وتلك، فأني سأحسد نفسي إن عدت بخفي حنين، إذ أني سأعود بالمرارة والخذلان، ذلك لأن الأمر كما يقول مثلنا: (العضه بالجلال) أو لعله كما قال الحارث بن وعلة:
قومي هم قتلوا أميم أخي
​ فإذا رميت يصيبني سهمي
في سطوري الآتية سأصف بلدي كما أراه اليوم، وسواء أكنت مصيبا أم مخطئا! فإني على أقل تقدير عراقي، شربت من دجلة العراق، وتيممت بفراته، وأكلت من ثمار أرضه ما لذ لي وطاب، وعشت بين كنفاته أيام مسرات وأفراح، وأرقتني في لياليه منغصات وأتراح، وقضيت فيه من حلو السنين ومرها، قصيراتها وطويلاتها، مايربو على نصف قرن من الزمان. هذا كله سيشفع لي إن أخطأت في الوصف “فالطير يرقص مذبوحا من الألم” وقطعا ماهو براقص.
أقول في عراقي وعراق أكثر من ثلاثين مليون مواطن من أمثالي أنه:
عراق الأصدقاء الذين أضحوا أعداءً في ليلة وضحاها.
عراق اللحم الذي يتبرأ منه الظفر بيسر وسهولة وبلا عناء.
عراق يوسف وأخوته
عراق بات فيه الوفاء عملة كاسدة، وراجت فيه عملة الغدر حتى غدت هي السائدة، وعليها المعول، وبها التعامل والتداول.
عراق القائل: “الوفاء لأهل الوفاء وفاء، والوفاء لأهل الغدر غدر، والغدر بأهل الوفاء غدر، والغدر بأهل الغدر.. وفاء”.
عراق أبي فراس الحمداني في بيته:
وفيت وفي بعض الوفاء مذلة
​ لإنسانة في الحي شيمتها الغدر
عراقه أيضا بقوله
حفظت وضيعتِ المودة بيننا
​ وأحسن من بعض الوفاء لك الغدر
عراق الشاعر أحمد الصافي النجفي الذي عاد الى العراق بعد نصف قرن من النفي، لكنه عاد اليه أعمى، فصارت سلوته الجلوس على قارعة الطريق، ليشبع سمعه من أحاديث المارة من العراقيين، فقال يتحسر:
ياعودة للدار ما أقساها
​ أسمع بغداد ولا أراها
عراق قيس بن الملوح، حين قالوا له أن ليلى في العراق مريضة، فقال:
سقى الله مرضى بالعراق فإنني
​ على كل مرضى بالعراق شفيق
فإن تكُ ليلى بالعراق مريضة
​ فإني في بحر الحتوف غريق
عراق الجواهري الذي سلم كثيرا، بل كثير جدا، على هضبات العراق وشطيه والجرف والمنحنى، ولست أدري إن بُعث الجواهري اليوم، هل يبقى يردد بيته الأخير في قصيدته تلك
سيبقى ويبقى يدوي طموح
​ لنجم يضيء وفجر يلوح
لعل ظنه سيخيب، إذ سيدرك مرغما أن لا نجم أضاء ولا فجر لاح. فنم سيدي الجواهري نم، وتيقن أن مكانك الذي تسكنه الآن، أجمل بكثير من عراقك اليوم على الكرة الأرضية.