19 ديسمبر، 2024 12:51 ص

نمر سعدي والتجول الشعري في أمكنة حضور الحبيبة

نمر سعدي والتجول الشعري في أمكنة حضور الحبيبة

ضحكُ الدمشقيَّةِ الغيداءِ يغسلني .. بلهفةِ الدمعِ حتى لستُ أنكفئُ

رغم حرارة ريح يوليو/تموز المتسربة من شباك غرفتي، تغريني كلمات أصدقائي المبدعين من الشعراء والشاعرات، فألتزم الصمت، وأرتكن للتأمل، حيث أحلق بأجواء الجمال التي تحملها الكلمات الراقصة أمامي.
فكلمات تتخفى لخجلها في البوح، ومنها تظهر ما تبطن بهدوء، ومنها تصرخ منفعلة، وكل هذا ينطوي برومانسية جميلة تدخل الروح، فتجعلها محلقة في سماء الطهر والانفعال الجميل، مؤسسة لفتح نوافذ من حدائق الحب النقي، بتلك الأدلة المخبأة في قلوب لا تعرف إلا الحب، ولا تكره إلا القبح، فتراها قلقة منفعلة تبحث عن الحقيقة.
عشت مع كلمات الشاعر نمر سعدي، وهو يتماهى مع المكان ويمارس نشاطه الشعري في خفاء اللغة وتجلي الصورة. يقول:
“شاعرٌ هوَ أم داعرٌ إذ يقولُ
ظُفرُ تلكَ التي كنتُ أحببتُها لدقائقَ معدودةٍ في مكانٍ نسيتُ…
ربَّما كانَ في حرمِ الجامعةْ
ربمَّا في القطارِ البطيء
ربمَّا في حدائقِ عينينِ صيفيَّتينِ تضيئانِ ما لا يُضيءْ
ربمَّا في الطريقِ إلى الموتِ أو صخبِ الحافلةْ
ربمَّا في مساءٍ بظلِّ المجمَّعِ أو في انتظارٍ طويلٍ طويلٍ لما لا يجيءْ
ربمَّا في ندى الوردِ أو في خطى السابلةْ
كانَ يلعنُ هذي الحياةَ بعينيهِ أو روحهِ الشاعرةْ
كانَ يهذي بغيرِ فمٍ:
ظفرُ تلكَ التي كنتُ أحببتُها لدقائقَ معدودةٍ في جهنَّمَ
حتى ولو سُميَّتْ عاهرةْ
أحنُّ وأفضلُ من كلِّ زوجاتيَ العشرِ….
عانقتهُ ثمَّ وصَّيتهُ بصغارِ الملائكِ.. ودَّعتهُ وبكيتُ.. انتهيتُ من الليلِ
ثمَّ مشيتُ.. مشيتُ.. تشقُّ الخيولُ المجنَّحةُ الماءَ فيَّ ولا تستريحُ الخيولُ
شاعرٌ هو أم.. فوضويٌّ جميلُ؟”
وهنا أراه رغم تعففه، فإنه ينفعل ويتهم الشاعر المتماهي في ذاته بالدعارة الجسدية، وهو يخفي نقاء حبه، ويتجول في أمكنة حضور الحبيبة، سواء كانت تلك الأمكنة حقيقية مرئية، أم افتراضية لا مرئية، كحرم الجامعة والقطار، كمكان مرئي، وكحدائق العينين أو ندى الورد.
وهي أمكنة افتراضية لامرئية، ليؤسس الشاعر نمر سعدي، بهذا لفلسفة الحضور الجمالي لأنثاه، محاولا الانفعال ضد ثورته الجسدية، بدليل قوله: “ثمَّ مشيتُ.. مشيتُ.. تشقُّ الخيولُ المجنَّحةُ الماءَ فيَّ ولا تستريحُ الخيول”.
وهنا كناية بالخيول عن الانفعال العاطفي الذي يجتاح ذاته الرافضة لرغبة عابرة، لا تشبه جمالية الحب، تلك العاطفة النقية التي تسكن الأعماق وتحركها نحو ما هو أجمل في الحياة. ومن هذه المسارات اتجهت القصيدة العربية الجديدة في سياقات تطورها وتحديثها المتنوعة إلى الاشتغال على المعنى الشعري بوصفه تجربة تتجاوز حدود الدلالة الكبرى، لتدخل في فضاء السيمياء، فكان المكان موضوعا رئيسا وأوليا من موضوعات هذه التجربة.
وبما أن الجسد الشاغل الأساس للمكان والمنتج الأول للمعنى، فقد احتفت به القصيدة الجديدة وقاربته بمناخ مختلف ورؤى متعددة، غير أن ذلك لم يكن بالعمق والأصالة المطلوبين عند الكثيرين، لكنه عند البعض الآخر الواعي لحساسيات مفرداته وخلفياتها كان عميقا واصيلا ومنفتحا على فضاء الموضوع.
من هنا تخفى نمر سعدي في أمكنة مثلت حضور الحبيبة، بتأويل المعنى الشعري. وتعايش مع المتضادات في قصيدة “ذئب الغواية”، بثورة انفاعلية متوترة بين فخي (التفاح ، الدفلى) كثنائية متضادة تظهر قلقه، وكذا في (البنفسج، الحروب) هذا التضاد والتناقض، حقيقته الحياتية تتسم بالوجودية الحتمية، باعتبار أن الشر والخير والحق والباطل والجمال والقبح، موجودة في ساحات الحياة، وما الشعر ومشروعه إلا عمل يقع في دائرة اللاممكن، لهذا سيبقى الشعر والشعراء، ينزعون عن هذه الحتمية الوجودية، ليعيشوا السمو الروحي والبحث الدائم نحو صعود سلالم النقاء والجمال.
يقول أبو الحسن الندوى: “إن الإنسان ليس عقلًا مجردًا ولا كائنًا جامدًا يخضع لقانون أو إدارة قاصرة، ولا جهازًا حديديًّا يتحرك ويسير تحت قانون معلوم أو على خطٍّ مرسوم، إن الإنسان عقلٌ وقلب وإيمان وعاطفة وطاعة وخضوع وهيام وولع، وحب وحنان، وفي ذلك سر عظمته وشرفه وكرامته، وفي ذلك سر قوته وعبقريته وإبداعِه وسرُّ تفانيه وتضحيته، وبذلك استطاع أن يتغلب على كل معضلة ومشكلة”، فهل يكون الشعر ساحة لصناعة الفكر الجمالي هذا ما يسعى له شعراء العربية اليوم، ولاسيما بعد التلاقح الفكري بين شعوب المعمورة من خلال المعلوماتية والعولمة الثقافية التي توفر هذا التلاقح، وتعمق إشكالية التناصية بين الأفكار وأشكال إيصالها للمتلقي.
وكان حراك الشاعر نمر سعدي باتجاه حجز منطقة متميزة، يتحرك فيها معلنا عن رؤية ذات موقف محدد، وهي العيش ضمن منطقة الافتراض الشعري، ومن ثم التواصل مع فعل الوجود الواقعي، بأسئلة متواصلة، كما في قوله:
“ماذا تريدُ الأسئلة؟
ما هوَ الظمأُ؟
الأقحوانةُ.. عطرُ الماءِ.. شهوتُهُ
المرأةُ.. النورسُ.. الحوريَّةُ.. الرشأُ
يبكي على يدِها من عشقهِ برَدى
وينتهي في حوافيها.. ويبتدئُ
تُعلِّمُ الشبقَ الفضيَّ في شفتي
طيورُها.. كيفَ حولَ النارِ ينطفئُ
الياسمينةُ أجلوها.. فينثرني
صوَّانُها الرخوُ.. أو يعلو دمي صدأُ؟
تسقي خطايَ فراشاتِ البحارِ ولا
تهذي بغيرِ شظايا.. ما هو الظمأُ؟
قصيدتي جرَّها الفاشيُّ حافيةً
من شعرِها.. والندى الجوريُّ يهترئُ
أكلَّما خمشَتْ عصفورةٌ عُنُقي
جاءَ ابنَ زيدونَ من ولَّادةٍ نبأُ؟
ضحكُ الدمشقيَّةِ الغيداءِ يغسلني
بلهفةِ الدمعِ حتى لستُ أنكفئُ
أروادُ فيها بعينيها تُعاتبُني
وليسَ تغفرُ لي نسيانَها سبأُ”
فنجد هنا تحولات القصيدة عنده في تناصاتها مع أسماء معروفة في عالم الأدب العربي كابن زيدون، نجدها تتحول إلى ما يشبه فتاة، يجرها الفاشي من شعرها، إلا أنها تتضمخ بالندى وعطر الجوري إذن “لاتوجد في الفن حقيقة عامة مشتركة، ولذلك لا تنشأ مشكلة في الفن إذا اختلفت وجهات نظر الفنانين لشيء واحد، لأن لكل منهم حريته في التعبير عن الحقيقة”.
وعبر شاعرنا هنا بأسلوب قرآني جميل عن خلجات نفسه الباحثة عن حقيقة الجمال والتي كنّاها بـ “طيورُ المعاني الحبيسة”، وبهذا التعبير عن الحب من خلال اللغة التي يقول عنها أدونيس: “اللغة أكثر من وسيلة للنقل أو للتفاهم، إنها وسيلة استبطان واكتشاف، ومن غاياتها الأولى أن تثير وتحرك، وتهز الأعماق وتفتح أبواب الاستبطان.
إنها تهامسنا لكي نصير، أكثر مما تهامسنا لكي نتلقن. إنها تيار تحولات يغمرنا بإيحائه وإيقاعه وبعده. هذه اللغة فعل، نوات حركة، خزّان طاقات والكلمة فيها أكثر من حروفها وموسيقاها، لها وراء حروفها ومقاطعها دم خاص ودورة حياتية خاصة، فهي كيان يكمن جوهره في دمه لا في جلده، وطبيعي أن تكون اللغة هنا إيحاء لا إيضاحا”.