18 ديسمبر، 2024 11:12 م

نمرود الضائع بين أقبية الفساد

نمرود الضائع بين أقبية الفساد

لايفكر العراقيون كثيراً في دولتهم الحديثة، أصبح هناك ميل غريزي لكُره النظام السياسي الذي أوصل حياتهم إلى قعور الحضيض والإنهيار.

في المجتمعات الطبيعية أو التقليدية التي يحتفظ أفرادها بدرجات متفاوتة في الولاء على الأقل بمستويات الوطنية وحب الوطن، إلا أن الشعور السائد لدى أغلب العراقيين بعد عام 2003 شعوراً مُخدراً غابت عنه بوصلة الإحساس بأهمية الوطن وتراثه وآثاره بعد أن قتلوا فيهم روح المواطنة.

خبران أو حدثان في اليوم ذاته تم تداولهما في نشرات الأخبار بالفضائيات العراقية، كان الأول يتعلق بصدور أمر قبض وتحري بحق وزير الثقافة والسياحة السابق حسن ناظم في عهد حكومة الكاظمي لإتهامه بسرقة آثار كان قد إستلمها من الولايات المتحدة الأمريكية ولم يعيد نصفها، حيث تمكن من تهريبها إلى جهة مجهولة مازال البحث جارياً عنها، جريمة كشفت عنها واشنطن عندما أبلغت بغداد بعدد الآثار التي إستلمها الوزير، وتبين أن نصفها لم يصل العراق.

أما مضمون الخبر الثاني فهو فتح النزاهة ملف عمره (20) عاماً طالما أقلق الدولة العراقية وأدخلها في منازعات قضائية مع شركة دنماركية كانت تتعلق بملف (كنز نمرود)، عندما أصدرت المحاكم المختصة أمراً بإستقدام وزير الثقافة الأسبق مفيد الجزائري في فترة مجلس الحكم السابق الذي عينه بول بريمر لحكم العراق بعد إحتلال بغداد ووكيل الوزارة سربست بامرني وعدد من الموظفين بتهمة التعاقد مع هذه الشركة الدنماركية (المفلسة) لغرض عرض كنز النمرود الأثري في المتاحف الأوروبية، وعند إكتشاف أن الشركة التي تم التعاقد معها غير رصينة ولايمكنها توفير الحماية اللازمة للكنز الذهبي الذي يمثل إرثاً حضارياً للعراق فضلاً عن عدم إعتراف منظمة اليونسكو بهذا الإتفاق، مما أدى إلى تراجع الوزارة عن العقد وقيام الشركة برفع دعوة قضائية أمام التحكيم الدولي تطالب بتعويض قداره 100 مليون دولار، تم حسم القضية في عام 2015 لصالح العراق.

قضية الإتفاق مع الشركة جرت في الفترة التي سبقت عدم وجود دستور دائم أو نظام قانوني يسمح بإخراج الكنز إلى خارج العراق، مما يؤشر إلى عدم وجود صلاحية للمختصين بإبرامه وإخراجه من البلد، الأمر الذي تضمن بنوداً أضرت بمصالح العراق كان يعلم بها الوزير عند توقيعه العقد المذكور حسب لائحة الإتهام الموجه إليه بالتواطئ والتقصير.

ولمن لا يعرف قيمة كنز النمرود فهو تحفة أثرية يعود تاريخها إلى أكثر من خمسة الآف عام عندما تم إكتشافه خلال أعمال تنقيب بدأت عام 1988 وإنتهت عام 1992 وكان مخبئ في أقبية البنك المركزي العراقي عندما عثرت عليه القوات الأمريكية بعد دخولها بغداد عام 2003.

يختلط عليك التوصيف عندما تنظر إلى المشهد الضبابي وتحتار في أي خانة تضع زعامات وممتهنوا الجريمة المنظمة لأنها بالنهاية تضيع عليك العناوين إن كان هؤلاء ساسة ومسؤولين أم تجار، لصوص أو حتى مجندين لتدمير آثار البلد وربما كانوا كل هؤلاء، تُغرقك بحور الفوضى والحيرة عندما ترى حاميها حراميها.

قبل عام 2003 كانت عقوبة المُتاجرة بالآثار تصل إلى الإعدام عندما كانت الدولة عبارة عن مؤسسات وقوانين، لكنها اليوم الدولة الفاشلة التي لايزيد عمرها عن العشرينيات حين إنتعشت وأصبحت سوقاً رائجة لتهريب هذه التجارة النظيفة والمربحة.

كان من الممكن أن يكون الخبر عادياً أو مألوفاً لو تم الإعلان بالقبض على عصابة مختصة بتجارة وتهريب الآثار، لكن أن يتضمن وزيراً متخصص بالثقافة والآثار يتواطئ مع الآخرين لتهريب آثار بلده وهو المؤتمن عليها فهي جريمة لاتحدث وقائعها إلا في عالم الشياطين وفي قعور الإنهيار الأخلاقي وحضيض الإنحراف والوضاعة، لكنه العراق ذلك البلد الجريح الذي بات يتلقّى الطعنات من أولئك الذين يأويهم وغيرهم من شتى الأصناف، هو زمن الإنكسار والهزيمة لوطن مذبوح.