تطلعت صبرة عبر عينين مثقلتين بالكرى الى اسفل الشارع وما حول بيتها ببطء، ورمقت همة ناسها بهذا اليوم وما يستوجب عليهم فعله تخليدا لصاحب الذكرى.. ثمة خليط من البقوليات على صفائح مسطحة، والقدور الكبيرة تجلس على عروشها الحديدية كأنها صور اثرية او الواح سماوية تعيد جمالها كل سنة مرة. كان الشارع تغمره البيوتات القديمة والوحيدة التي ترتفع من جهة واحدة، تشبه سفينة عملاقة تطوّق مملكة “الفسحة”* تحت قوس مفتوح بأضواء حزينة راجفة، وطقوس تقلد اعواما ضوئية من الظلم والبشر والتاريخ.. وعلى الجهة الاخرى مقهى يوسف عرسان كبرلمان لأهالي المنطقة، ومقر لهيئة شباب الفسحة تنطلق منه مواكب التعزية.. يجاوره خان المخضر الكبير أكبر مجمع لبيع الخضروات في كربلاء، ما منْ فلاح وبائع الا وكان يتواجد فيه. اما سور الخان على طول الشارع تبرز منه المحلات البارزة والمعروفة كربلائيا، فعند بابه الكبير نجارة مجيد النجار، وسيد صالح العطار، وهادي كبابي، وسوق السمك ، ومقهى لفتة ،ومحلات جواد زنكي لبيع الفواكه بالجملة…الشارع مهرجان عشوائي دائم لبيع الخضروات، ينطلق مرتادوه من صلاة الفجر حتى شروق الشمس، يفترش البقالون والفلاحون بضاعتهم المكونة من مختلف انواع الخضروات والفواكه في كل ركن وزاوية من الشارع. وتبقى المملكة مزدحمة طوال النهار بالغرباء والتجار والوسطاء لا تنصاع لأية انظمة.
أهالي المملكة الاشقياء يظهرون بشكل خاص بمحرم الحرام، كسوار متحرك متجدد في كل لحظة، غير مسبوق بمثال، عمل خال من المصالح لا نظير له، ومفعم ٌ بالتوفيقات الالهية…
لعلعت الصلوات والتكبيرات فجأة، وأحست كأن روحها انقبضت وبصرها غيم، وشعرت ان اصواتهم تتصاعد الى سطح البيت، نظرت مجددا الى الشارع وجدته قد تحول الى عاصفة من النار تفرق الناس جميعا، وداس بعضهم على صفائح البقوليات، وأشباح ترتدي ثيابا زيتونية تركض مع اسلحتها خلف الاهالي الهاربين من الضرب او القتل او الاعتقال.. فأبطال الفسحة قد اعتادوا على هجوم الاشباح الزيتونية طيلة ايام عاشوراء، لا جديد في الامر سوى التحدي في اتمام طقوس الحزن الحسيني، فقد توارثوه عن الآباء والاجداد. فمحرم يعطي الشارع لوناً أحمر، ويمزج تلويناته الاسود والأخضر، وتتشابه فيه كل البيوتات وهي تنحشر الى جانب بعضها بعضا، ابوابها مفتوحة على مصراعيها للزائرين وعلى مدار الساعة. ففتح الابواب اصبحت سُنة لدى امهات البيوت عند كل حدث يحدث في الفسحة، اشارات إلهية جعلت الاهالي يتماسكون بها في سرائهم وضرائهم، لم يعد بينهم اناس فردانيون، الفردانية لا تعمل في عاشوراء كربلاء..
سحبت صبرة على عجل آخر رغيف من تنورها الطيني، وحررت نفسها من (ثوب العمل) ونزلت مسرعة لتقف عند باب البيت، وكان كل همها هو اعاقة الاشباح الزيتونية واخافتهم بصوتها الذي بدأ يلعلع عاليا حتى انتبهت باقي البيوت وخرجت النسوة المعروفات بقوتهن، وامتزجت اصواتهن فاصبح الصوت كبركان من نار تتطاير على رؤوس الاشباح، منهم من توقّف عن الملاحقة واخر رجع ليقف بجانب القدور، ومجموعة دخلت مسجد الامام السجاد المجاور لبيت (صبرة) والمقابل لباب الخان الكبير، فتمكن الفسحاويون من الاختفاء دون اضرار او اعتقال.
وأكبر انجاز حققه الزيتونيون هو مصادرة مكبرات الصوت التي تنثر القصائد الحسينية طيلة شهر محرم، وعند محاولة الاشباح رفع القدور السجادية من عروشها خرجت النسوة محزمات بعبيهن، وفي مقدمتهم (صبرة) وهن يحملن شعلات النار متجهات صوب القدور، مزمجرات باصواتهن مهددات بحرق كل من يمس القدور، وساعدهن حركة الحشود من زائري الامام الذين فاض بهم الشارع، وكأن النسوة اصبحن غمائم سودا. وبدأ الزوار يساعدون النسوة بإشعال النار تحت القدور دون أن ينتظروا من يدعوهم لذلك. وكل شيء من حولهن يوحي بنهار قد يكون داميا، وصبرة تقودهن بحذر، والقدور اصبحت مثل اللآلئ تضيء في السماء.
كان الجري قائما وراء شباب الفسحة الخلص، واستحال للزيتونيين الامساك بهم، رغم ان بعضهم اطلق عيارات نارية في الفضاء لإضفاء الرعب والتلويح بالتهديد بالموت، والحقيقة كان الجري وراء ابطال متوارية في كل بيوتات الفسحة القصية على الاشباح، وكأنها شيدت باتفاق مسبق وسري للغاية لهذه الايام لتجاوز ضغينة اعداء الطقوس-العاشورائية- بالتحديد، التي شهدت لسنين معارك دامية وتربصا مملا.
كانت الحكومات تعجز عن ايقاف الشعائر الحسينية فتختلق الفتن بين منطقة وأخرى. والفسحة ساحة قتال دائمة مع حاملي السكاكين والهراوات من ابناء جلدتهم، لكن العقل كان دائما يرجعهم الى السكينة والوحدة…وكان الدور المثالي ايضا لتلك المرأة القوية صبرة، حين اشتداد وطيس التنافس بين شباب الفسحة وشباب المنطقة الاخرى على انطلاق مواكب التعزية في التاسع من محرم، ايهما يدخل الحرمين الشريفين أولا. كان الطرفان مندفعين لتدمير كل منهما الاخر بعراك دامٍ كالغرباء، قد يبلغ مداه للانتقام من لا شيء. تحت ضغط شهوة الانتقام والجميع ساكن الرعب والحماس في قلبه، وهم يجهزون الخناجر والسيوف. وصبرة تخيّط راية بيضاء بحجم مخيف كتبت عليها ( السلام عليك يا ابا الفضل العباس) بلون الدم. وحين اقتربت ساعة التلاحم تعالى صراخ الشباب(حيدر..حيدر) حتى اختلطت اصواتهم بصوت البوق والطبول، والنسوة يصرخن مستغيثات، فالموت سيحدث لأولادهن امام أعينهن، فالشباب مصممون على الاقتصاص من غرمائهم. والقادمون كأنهم بحر شره يريد ان يغرق في لجته كل شيء امامه. وعند اللحظة الحاسمة كانت صبرة جاهزة كأنها حصان جامح وقف وسط الجموع وهي تصرخ بصوت ملائكي ، وبشعور وحنان حسيني مفعم بالأخوة: ( يا عباس) اطفئ شرارة الغضب بين الشباب فهم لا يفقهون معنى الاخوة. ورفعت بساعدها وسواعد النسوة الراية البيضاء وهي لا تزال تقطر باللون الاحمر كأنه دم عبيط لحظة بدء المعركة ولكن ما ان شاهدوا الراية حتى وقفوا كالتماثيل قبالتها وتعانقوا كالأحباب بعد بكاء حار على صوت عبد الزهرة الكعبي وهو يصوّر بصوته مشهد انكسار ظهر الحسين باستشهاد اخيه ابي الفضل ..
لا احد يسلم من الزيتونيين لهم الف رأس ورأس تبتر رأسا من هنا يبرز لك من هناك رأس. قالت ذلك “صبرة” وهي تنتفض بتصلب على احدى النسوة الخائفات. حيث يكون هناك ولاء وحب وثقة بالعقيدة والمذهب الموت يكون مثل الشهد.. ارفعي القلق عن نفسك ودعينا نكمل (شلة السجاد)* ..الزائرون ينتظرونها كل سنة في هذا اليوم بالتحديد الخامس والعشرين من محرم يوم استشهاد السجاد (علي بن الحسين). كان كلام صبرة لنسوة الفسحة مثل نار ملتهبة وهي مستعدة لان تحرق كل من يتجاسر على مس اي شيء يخص مراسيم طبخ التعزية السجادية..لقد تغيرت وجوههن في غضون لحظة، وقفزن للعمل مقطبات، وصوتهن حاد ممتلئ بالحماس والقوة، يشبه صوت جبل الصبر “زينب” حين حرمت فجأة من عضيدها وحامي حماها. تجمهر الزيتونيون الاشرار حول القدور وبدوا يفرقون بالعصي كبار السن من الزائرين ورجال الفسحة، ضربوهم ضربا مبرحا. وكانت صبرة والنساء يعملن بصمت بلا توقف وبسرعة هائلة. لم تزعزعهن هذه التكوينات اللاأخلاقية في ممارسة المنع الاجباري. ان الواجب المنوط بهن هو اتمام الطبخ بدلا من الشباب وصونهم من التأثيرات المؤذية.
وضعن خليط البقوليات في جميع القدور تحت صوت قائد الزيتونيين : أنا امنعكن من اتمام الطبخ..وا !، قال بانفعال وضرب بقدميه بنفاد صبر موجها كلامه الى صبرة : انك ليس أكثر طولا من فردة حذائي، سأسحق رأسك به، ان لم تتوقفي عن العمل وتحريض الناس على عصيان الحزب والدولة. تفرست صبرة في وجهه وهي مفزعة تماما، بعدها وللحظة صرخت بكل المرارة التي تقدر عليها. ففزع أمامها وصيرته غاضبا وخائفا فبدأت قذارته تظهر حين همّ بضربها امام الجميع وما كاد يفعل، فصبت عليه الماء الحار من قدر نحاسي صغير فانزلق على الارض وقد ضرب ضربا قاسيا بالأحذية و(النعل) والعصي، من قبل النسوة وسائر الزينبيات من الزائرين، مؤججات اصواتا حسينية ارهبت كل الزيتونيين، والأطفال شاركوهن فرموا بقايا الطماطم والخيار التالفة والتي اختلطت مع قاذورات أخرى. وبدا عليهم الانهيار الشخصي وخليط من الغيظ والحدة والدم الحار مما اجج فيهم حمية الغضب والكلبية النائمة في داخلهم لقد ادركوا انهم قد تمادوا كثيرا لذا لا يستطيعون التملص فقد يكون الامر مكلفا في معركة لا تتوقف الا بنهايتهم.
صبرة، عندما تتمنطق وتتكلم بصوت واثق ولغة حسينية قوية وثبات عجيب تبدو وكأنها تسمو فوق الاحداث، في خضم الخطط والهجومات المباغتة والمشاحنات سمحت له بالنهوض بالرغم من انها كانت لا تزال تضربه ضربات متتالية وبقوة. ندت عنه صرخة عالية وغريبة يمكن تسميتها صرخة استسلام وتهديد فهو شخص قاس وخبيث يعرف افانين غريبة ومتلونة، كالحرباء يظهر في كل مكان بشكل مغاير تماما عن سابقهِ. فتوقفت المعركة بسجال وعراك انتصرت به “الفسحاويات”.
وشباب الفسحة كانوا يراقبون الوضع من السطوح، فهم لا يزالون مع الحدث ليثبتوا ويراهنوا على القوة والشهامة والنبل للروح الجريحة حين يزادا نزفها، فصارت لهم مبعث حق وقوة وسحرهما كان على اشده هذا اليوم السجادي المهم… نزلوا الى الشارع حاملين السيوف والخناجر وكأنهم على استعداد ان ينازلوا قوى الشر واختلطوا بأمهاتهم يعملون كخلية نحل في توزيع بركات السجاد فامتلأ الشارع بالمهرعين للحصول على بركة هذا الزاد الذي اشتهر ان يكون دواء لكل عليل على مدى سنين طوال. اما الزيتونيون وقائدهم فاصبحوا كخيال الاموات وربوتات انقطع عنها التيار الكهربائي وانتهى شحنها عند حدود الضرب والإهانة.الجميع في الفسحة يعرفون ان صبرة امرأة زهرائية محصنة دينيا، رغم ذلك خططوا ان يحموها من عنجهية الاشرار فالكل يعلم غدرهم في أي لحظة يعود اليهم شحن صدورهم المشبعة بالغل من ايام عاشوراء، فيما اذا جاءت قوة اضافية تساعدهم على تحقيق ما فشلوا به. وأولويات هدفهم كانت صبرة بلا منازع.
هكذا انتهى النهار الشاق المليء بالأحداث وبصور مشرقة من البطولة راحت تترجم الحزن بالانتصار من خلال الالم وقوة صبرة والنساء اللواتي أعلن عن ميلاد عقل واع وقلب نابه وفكر مُتقد، نساء استطعن بكل حسم صيانة مملكة الفسحة بالأوقات الحرجة. يوم غلب فيه البوح، ومازالت تجول في مشاكسته علامات استفهام لا توجد له اجابة. فبين افكار متزاحمة وحمم متلاحقة من الحنق والكره الذي يملأ قلوب وعقول اهالي الفسحة من تدخل الغرباء، لكنهم ابدوا خوفهم على صبرة التي عملت موقعا مرعبا .فكيف لامرأة مثلها ان تفعل هذا الفعل الشجاع وتهم بفعل كل تلك الافاعيل؟، حيث انعقدت السنتهم عن مواجهة تلك النمرة السجادية، قلما يطالع الانسان مثلها فقد كانت انوثتها تعرف كيف تخاطب الرجال؟. والمرأة البارعة والحازمة التي قد تصير اقسى من الرجال لو اقتضى الامر ذلك.
قضت صبرة ليلتها لم تذق عيناها النوم، ولم تنعم بهدْأة الكَرى..أحست ان رعبا اخرس يتنامى في ذاتها فقالت بينها وبين نفسها : جميل ان نحمل الزمن بين ايدينا ولا نكون اسرى لهُ.. فالموت يتوشح لي قبة السماء فحيثما اُولّي وجهي يبصرني الموت. أنا شهيدة يوم استشهاد السجاد لا يمكن ان اكون في حلم. فالحب الحسيني الذي تكابد لأجله ارواحنا لا يخرج منّا الا بانتزاعها.
مع طنين البائعة الرتيب في ليل قاسي الملامح طرقت بشدة باب بيت صبرة وبذات الوقت كانت حركة قوية فوق سطح وأصوات كانت اعمق اثرا في نفسها وهي تعلم مصيرها.. استقامت من جلستها مقبلة على اثر الاصوات في غضب تنظر الى ما حولها من أبّهة المنظر كأنهم جاءوا الى اعتقال محاربة او سياسية محنكة في النضال.
اخرجوا صبرة تلك الليلة بطولها الجسيم المهيب وضخامة جثتها، ولكن بدون صوتها الجهوري تنظر بعينها الواسعتين الكبيرتين بلونهما النرجسي الى الجميع بأنفة عجيبة جعلت المشتركين في اعتقالها يضعون عباءتها على وجهها لان الابصار تتجمهر في المملكة، وزاغت حولها ولمعت عيون الغضب فيها، لكن القوة المعتقلة كانت من الكثرة ما تجعل الشجعان يتصنمون كالرخام في اماكنهم. واختفت نمرة الفسحة “صبرة” مدة من الزمن لا اثر لها ولا صوت، أفل شعاع تلك الانسانة الملتزمة في الانسانية والشجاعة، وأصبحت ذكرى خالدة على مدى السنين…
الفسحة: منطقة (الفسحة) في محلة باب الخان بمدينة كربلاء المقدسة احدى محافظات العراق ، شيدها السيد (عماد الدين طاهر البحراني) سنة1381هـ (1961م) مؤسسة مدرسة الامام الباقر(عليه السلام) الحوزوية انذاك.
شلة السجاد : هي يطلق عليها شوربة أو آش تتكون من سبع انواع من البقوليات اعتاد العراقيين بصورة عامة والكربلائيون خاصة على اعدادها في ذكرى استشهاد الامام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) في 25 محرم الحرام.