18 ديسمبر، 2024 3:43 م

نكران الثقافات

نكران الثقافات

نتيجة استمرار تيارات الهجرة في السنوات الأخيرة وخصوصا اللجوء من البلدان النامية ومنها البلدان العربية إلى البلدان الأوروبية، أثار هذا الموضوع الكثير من النقاش في الأوساط الإعلامية والسياسية والشعبية وحتى الأكاديمية وتركز حول اندماج المهاجرين وآفاقه ومعوقاته في مجتمعات بلدان الاستقبال. ومساهمة في إطلاع القارئ على جانب من الأبحاث الأكاديمية الجادة التي عالجت هذا الموضوع، أخترنا تقديم قراءة عن كتاب “نكران الثقافات” لمؤلفه عالم الاجتماع الفرنسي هوغ لاغرانج، ترجمة الباحث سليمان رياشي، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2016. يقع الكتاب في 399 صفحة.
يضم الكتاب أثني عشر قسما أو ما يشبه الفصول تتناول إضافة إلى مقدمة المترجم والمدخل الآتي: الصدام وارتداداته في الشمال، الارتدادات في الجنوب، بطالة انتقائية وتمييز، الانحرافات والدراسة والإرث العائلي، العائلات الأفريقية في فرنسا والتقاليد، الجيل الثاني أمام الحداثة، الذكورية والثقافة الفرعية والانحراف، السياسات المناطقية والتنوع الثقافي، السياسات الحضرية والاختلاط الاجتماعي، نشاط النساء والتمكين، الإدراج، خلاصة وملحق.
يعالج الكتاب مشكلة اندماج المهاجرين العرب والأفارقة والآسيويين في البلدان الأوروبية، خصوصا فرنسا. فهو يعكف، على دراسة وتحقيب الهجرات المتتالية في ضوء حاجة الاقتصاد الفرنسي إلى اليد العاملة الأجنبية خلال فترة الازدهار الاقتصادي التي أعقبت الحرب العلمية الثانية. ويتبنى المؤلف مصطلح “العقود الثلاثة المجيدة” إشارة إلى فترة الازدهار وكذلك فترات الركود وتفاقم مشكلات البطالة وتبدّل المزاج الرسمي والشعبي تجاه الهجرة والمهاجرين، ويتناول بالتفصيل تطورات السياسية الرسمية وفق تعاقب “اليسار” و”اليمين” على السلطة ونقاط التقاطع والفصل بينهما، مشيرا إلى حدود التمايز كلما وجد إلى ذلك سبيلا.
يشير المؤلف في المقدمة إلى أن الطبقات الشعبية المحلية المهددة بالبطالة وبهشاشة أوضاعها وبتدني مداخيلها وحقوقها التقاعدية، تبدي غضبها الذي يستهدف، من ضمن آخرين، مهاجري الجنوب، فيصبح هؤلاء أكباش فداء ويتلقون مباشرة، عبر ردّات الفعل الكارهة للأجانب، الاحتجاج السياسي الجمعي. علما، في أوروبا، تجلت صدمة العولمة بصعود السياسات الهوياتية وإقفال الحدود وتطوير أيديولوجيا أمنية. وفي العقود الأخيرة، كنا شهودا على تزايد حدة كراهية الأجانب، وعلى تطور حركات شعبوية تنتمي إلى أقصى اليمين. ونما التمييز في الأحياء السكنية مع تزايد الاستقطاب والتمسك بالعادات، وضَعُفَ الاختلاط في الأماكن العامة (ص 23).
من أجل فهم الإشكالات في أحياء المهاجرين، برز تفسيران في فرنسا. الأول يدّعي أن هذه المناطق قد تكون مسرح تفكك العائلات وتبدل أوجه التضامن التي تتعذر معالجتها من خلال المساعدة الاجتماعية السخية: أزمة في السلطة الأبوية، إفراط في التساهل التربوي، نقص الرغبة في الدراسة، بوصفها عوامل شائعة ناجمة عن ذلك التفكك.
أما التفسير الثاني فيشدّد على الانطواء على الذات بين المهاجرين القادمين من أفريقيا وتركيا على نحو خاص. إن هذا التفسير يضع في المقدمة خطر الانحرافات الجماعاتية، فيرى فيها بذور الاحتجاج على القانون العام والقيم الجمهورية. ووفق هذا الفهم، فإن هذه الأحياء تخضع شيئا فشيئا للعادات والتقاليد القادمة من مكان آخر والتي تعتبر غير متلائمة مع المبادئ الأساسية للمجتمعات الغربية. وهذا في نظر السكان الأصليين تعبير عن رفض الاندماج لا يمكن التساهل معه: فالجماعات المهاجرة أو المتحدرة عن الهجرة تكون مذنبة لعدم “سلخها ذاتها” عن ثقافتها الأصلية، وبقائها خاضعة لما يُفترض أنه إيعازات صادرة عن عادات وممارسات مناقضة جذريا للمعايير الأولية لمجتمع الاستقبال.
إن شعور أوروبا بأنها تتعرض لاجتياح الجنوب وجد سنده بالقلق أمام عالم مفتوح، وقد انتشر هذا الشعور وأثّر بشدة في الرأي العام كما في المشرّعين المدفوعين بحرصهم على مراعاة قلق المحيط، فأخذوا بالعبارة الشهيرة لميشال روكار “لا تسطيع فرنسا أن تستقبل كل بؤس العالم”، متناسين القسم الثاني من العبارة “… ولكن عليها أن تعرف أن تأخذ حصتها بنزاهة” (ص 65).
لقد تطور شيء من جنون الحصار، وأصبحت شنغن(1) شعارا لأوروبا- القلعة، ووافقت الأحزاب كافة، باستثناء أقصى اليسار والخضر، بهذا القدر أو ذاك، على الإقفال التام للحدود(2). وبدل أن يدفع الاتحاد الأوروبي باتجاه السياسات الأكثر تقدما، بات القاسم المشترك الأصغر هو القاعدة. في أيامنا هذه، كما في روما القديمة، هناك دوائر من الهشاشة المتنامية: في المركز هناك وطنيو البلاد، ثم الرعايا الأوروبيون، يليهم المقيمون من خارج الاتحاد الأوروبي، ثم القادمون من خارج الاتحاد وغير المقيمين، ثم طالبو اللجوء…الخ. وفي نهاية الإطار الخارجي، على الحافة القصوى يقف المهاجرون غير القانونيين (الذين من دون وثائق).
في فرنسا، كان الأجانب الأكثر شبابا حاضرين بنسب مرتفعة في سجلات العاطلين عن العمل في الأحياء الفقيرة. وبصرف النظر عن أصولهم، وصلت معدلات بطالة الشباب إلى نسب تبعث على الدوار في الأحياء الحساسة(3) منذ نهاية الثمانينيات. وهذا يعني في الواقع أن معظمهم متحدرون من المهاجرين. لقد دفعت العائلات المهاجرة الضريبة الأقسى للانكماش. وعلى الرغم من الإنكار إلا في صفوف اليمين المتطرف، فقد بدأت تُمارس أفضلية التوظيف الوطني بصورة مواربة ولكنها شديدة الوضوح. ففي كل مكان بدأت البطالة تتخذ شكلا مكانيا واثنيا.
في الأحياء الحساسة يحاول الناس تجنّب الاختلاط الإثنوثقافي أكثر مما يتجنبون الاختلاط الاجتماعي. وبحسب المؤلف، نحن لسنا بمواجهة تمايز كان دائما موجودا بدرجة تقل أو تزيد بين الأحياء الغنية والأحياء الفقيرة، ولكننا أمام رحيل اجتماعي اصطفائي ضّخم الفصل العرقي. إن تحليل الديناميات الديمغرافية للفترة 1990-1999 يظهر ما يتعدى التمزق الاجتماعي: تراجع ديمغرافي في مناطق، وارتفاع نسبة السكان المتحدرين من الهجرة الأفريقية. وفي السين أفال عاشت الأحياء التي شهدت نموا ديمغرافيا قويا بين 1975-1982، المحصلة الأكثر سلبية للهجرة خلال 1990-1999. ومن أصل خمسين تجمعا سكانيا في فال دو سين، حيث أجرى الباحث الاستقصاء، فإن الأحياء التي خسرت سكانا هي تلك الأكثر ازدحاما بـ “المهاجرين”. إذ يجري ترك أحياء الرسامين ميليه وديغاس، والأطباء كلود برنار، وغيرها (ص 132).
وضع الغوت دور وهو حي شعبي ليس استثنائيا، إنما هو عنوان لحي شعبي في مدينة كبيرة، حيث يعيش الكوادر وأصحاب المهن الثقافية أو الفنية على مقربة من العائلات المهاجرة من أصل أفريقي من دون أن يتشارك أطفالهم المدارس نفسها ولا أمكنة الترفيه نفسها.
في تقرير عن الشرطة والأقليات سلط جوبار وليفي الضوء على فوارق مهمة مرتبطة بالملبس والمظهر العرقي وبمزيج من الاثنين في عمليات المراقبة على الطريق العام في باريس قريبا من محطات القطار وفي أمكنة العبور الكثيف. أما تحليلات جوبار المنطلقة من أسماء العائلات وعلاقتها بمخالفات الإهانة والتمرد في محكمة مولان، فتظهر تمييزا في إدانات “السود” و”المغاربيين” الذين ينالون عقوبات بالسجن أطول بمرتين تقريبا مما يناله “الأوروبيون” على المخالفات نفسها. وهذا تحيز ظاهر ومهم. لكن هذه الدراسة حول أحكام العدالة لا تظهر تحيزا ثقافيا واضحا في الأحكام عندما يتم الأخذ في الاعتبار الظروف الخاصة بكل وضع: السوابق، المثول أمام المحكمة من عدمه.
يرسم الفصل المكاني للأجانب بدقة شديدة خريطة اضطرابات عام 2005 في فرنسا، في الواقع لم تكن معنية بهذه الاضطرابات جميع أحياء السكن الاجتماعي ذات النسب العالية من عائلات الأجانب الكبيرة الحجم، أو ممّن هم دون سن العشرين. وإذا اعتمدنا فصل السكان الأجانب في أحياء المدن الحضرية الحساسة، بوصفه مؤشرا للاضطرابات، يمكن أن نستخلص أن احتمال حصول اضطرابات ينخفض إلى النصف في المدن التي يضعف فيها الفصل، ويصل إلى 80 في المئة في المدن التي يرتفع فيها نسبيا مؤشر انفصال سكان الأحياء الحضرية الحساسة عن باقي المدن. ولكن الفصل والعزل لا يستنفدان فهم المصاعب الدراسية وانحرافات الأطفال والمراهقين المتحدرين من الهجرات الأفريقية والتركية.
يتناقض بقوة توزيع مرتكبي الجنح المفترضين، وكذلك الفجوة في الإنجازات المدرسية في الصف السادس، تبعا لأوضاع الأهل الاجتماعية والمهنية. فالمراهقون الذين يعاني آباؤهم من بطالة دائمة، أو عاطلون عن العمل في أعمار تقل عن الستين عاما، يفوق مستوى انحرافاتهم على نحو محسوس انحرافات أولئك الذين يتحدّر أهلهم من أوساط شعبية غير هشة، بل حتى أولئك الذين آباؤهم من الكوادر المهنية أو من أصحاب المهن الوسيطة. وبعد امتحانات البروفيه(4) في المدارس، فإن أكثر من 30 نقطة من النسبة المئوية، تفصل معدل نجاح أبناء الكوادر والمهن الوسيطة، عن الأطفال الذين يعيش آباؤهم في حال بطالة أو المعلنون أنهم عاطلون أو متقاعدون.
يطرح المؤلف فرضية تتعلق بالفروق بين الشبان المتحدرين من الهجرة الأفريقية والهجرة الآسيوية إلى فرنسا، ويتساءل لماذا نحن أمام تضخم الإخفاقات من جهة، وتضخم النجاحات المدرسية والاجتماعية-الاقتصادية من جهة أخرى؟ الجواب معقد، كما يقول. ولكن إذا أخذ في الاعتبار مراهقين قادمين من أوساط اجتماعية متشابهة، يبدو من الصعوبة تجنب أسئلة الدوافع والقيم. ويقول على مستوى التعميم الشديد هذا، نجدنا مرغمين على صوغ فرضية التوجه نحو “النجاح المدرسي” المدعومة ثقافيا لدى الآسيويين. توجه من هذا النوع لا نجده على هذا المستوى لدى الأفارقة. فقد أظهرت دراسات عديدة أن الشبان الآسيويين يستفيدون من عادات عائلية شديدة التضامن، وفي الوقت نفسه شديدة التطلب من كل أعضائها، وهي مؤاتية للنجاح المدرسي (ص 171).
أفترض أن الشعور بالمهانة وغياب الاعتراف يكتسبان قوة خاصة، لأن أوجه اللامساواة المرتبطة بالاستحقاق والجدارة في مجتمعاتنا، كما يذكر المؤلف، تقوم على أساس كونها عادلة، بينما النجاح في مباراة المساواة والجدارة مرسوم سلفا جزئيا، بسبب العوامل المورثة: الجنس، الوسط الاجتماعي، والأصل الثقافي. وبقدر تدخّلها باكرا، وتركها حيزا ضيقا لعمل كل فرد، تكرّس اللامساواة الصعوبات المدرسية المبكرة.
ارتبطت البطالة الضخمة والانتقائية بمكان السكن والأصول العرقية، حيث انخفضت معدلات النشاط، وازدادت تبعية سكان الأحياء الحسّاسة لتغيير مواقعهم الاجتماعية. كما أن اشتداد الفصل بين بعض مجموعات المهاجرين- وخصوصا المجموعات المغربية والتركية وسود الساحل في أفريقيا من جانب، والسكان المحليين من جانب آخر- قوى التباين في العادات والسلوك. أليس هذا ما يشرح عميقا كيف أن الأحياء الحضرية الحساسة، وكذلك المعازل في المدن الخاضعة للفصل في أمريكا الشمالية قبل ثلاثين عاما، تشكل أماكن تَمركُز الاضطرابات الحضرية.
تطورت منذ ثلاثة عقود نزعة تجدُّد التقليد في أوساط الجيل الثاني من المهاجرين من أفريقيا الساحل وتركيا والمغرب على نحو خاص. على الصعيد الديني، كما في موضوع الزواج وتصوّر الأدوار ذات العلاقة بالجنس، فإن العديد من متحدري المهاجرين تبنوا مواقف مغرقة في تقليديتها، عابرين في الاتجاه المعاكس طريق جيل آبائهم في سبعينيات القرن العشرين. الشبان ممن هم في حال إخفاق دراسي على نحو خاص، محشورون في توتر مزدوج: إنهم مهمشون وغير موثوق بهم في المجتمع، وعليهم أن يستعيدوا احترامهم لأنفسهم. ومن أجل ذلك عليهم تأكيد ذواتهم في مواجهة المجتمع الذي يحط من قدرهم. وهذا يحرّك فيهم التأكيد الهوياتي والديني(5).
خلال عقدين أو ثلاثة، نرى أن مدن الهجرة لم تتحول إلى الفردانية الحديثة، بل على عكس ذلك باتت معوقات الحرية فيها مقبولة على نطاق واسع من الجيل الجديد، كما لو كانت أمرا طبيعيا.
للمقارنة، طور وليام ويلسون القريب من الديمقراطيين، في كتاب له صدر عام 1987، تحليلات كان لها تأثيرا قويا في الولايات المتحدة. لقد رفض فكرة أن الانحرافات في المعازل تحيل إلى تعطل وظيفي نوعي في العائلات السوداء، مع أنه سجل تشوهات قوية فيها. لقد الحّ حينها على واقع أن تفكك هذه العائلات يتم بقدر ما تختفي مواقع العمل في مراكز المدن، حيث يسكن السود الفقراء، وحيث الطبقة الوسطى السوداء كانت تهجر الأحياء الآخذة في التحول إلى معازل. وقد اعتبر التغيرات في بنية الاستخدام عاملا مقررا في تفكك العائلة هذا. وكانت قراءته متركزة أولا على العوامل الاقتصادية (ص 251-252).
إن السمات الخاصة للمجتمعات الأوروبية التي كانت مضمرة، وقليلا ما كانت مرئية، ولكن الحاضرة حتى في المجتمعات المنسجمة مثل السويد وفرنسا غداة الحرب العالمية الثانية، باتت اليوم منظورة من خلال حضور المهاجرين من ثقافات أخرى.
في الثمانينيات، حاول اليسار في فرنسا الذي كان في السلطة أن يواجه، وبحق، قضايا البطالة والعجز التربوي والنقص في الاختلاط الاجتماعي في الأحياء. واستهدف وضع القواعد لسياسة تستهدف معالجة هذه النواقص عبر تشجيع مشاركة السكان. وبما يشبه قطيعة شبه جذرية مع التفسيرات التي تركز على البعد الفردي للانحرافات، فإن جزءا من اليسار ركز مبكرا على موضوع الأمكنة، فشار إلى إهمال الأحياء التي يجب النهوض بها، وتوفير أجوبة تشاركية تعتمد تفعيل مسؤوليات القائمين على الأمن والسلامة كافة، ومسؤولي السكن والمدارس، وبطبيعة الحال الشرطة والعدالة. إنها سياسات تعتمد مجموعة مهمة من إجراءات المساعدة على إيجاد الوظائف المخصصة للمناطق المأزومة.
وبحسب المؤلف هناك العوائق الاجتماعية القوية التي لم نستطع أو بالأحرى لم نرد التطرق إليها في التقارير الرسمية. فسبب الإخفاق النسبي لسياسات المدينة يتمثل برفض الفصل بين أهداف الاختلاط الاجتماعي والاختلاط الثقافي، على ما في ذلك من استخفاف بساكني الأحياء الفقيرة والعائلات المهاجرة وأطفالها. فمع اتساع المسافة الفاصلة والإقصاء يستحيل الدمج (ص 294).
واحد من عوامل إخفاق التمكين غير ناجم عن عجز في الوسائل، بل عن فقدان ثقة المستفيدين المحتملين الذين لا يشكّلون جزءا من الترتيبات الاجتماعية. وتصدم السياسات المحلية اليوم بارتياب الفاعلين المحليين المنبثقين عن المجتمع المدني، وهو ارتياب يتأتّى من الادراك السلبي المتكوّن لديهم من السياسة الشاملة تجاه مهاجري الجنوب. ويتساءل المؤلف، “هل في الإمكان أن نطور عملية الاندماج ونحن نشهر في وجه المرشحين للهجرة إلينا تهديدات الإقصاء؟” ( ص 321).
بقي معدل الامتناع عن التصويت في الانتخابات في مدن المهاجرين قويا. إن نتائج الانتخابات المناطقية لعام 2010 التي تشكل امتدادا لحالة الامتناع عن التصويت في الانتخابات السابقة، يجب أن تُوقظ المجتمع الفرنسي أكثر مما تفعل السياسات المحروقة، كما كتب لوك برونر. فمع معدلات امتناع تتجاوز الـ 70 في المئة من المسجّلين، عبّر سكان الأحياء الحساسة عن شعورهم بأنهم خارج الحياة الانتخابية وخارج النظام السياسي وخارج فرنسا.
مع نهاية القرن الماضي باتت البلدان الأوروبية، وبدرجات متفاوتة، مجتمعات متعددة ثقافيا وتمتلك قوة محدودة وترى ميزتها المقارنة تخسر وسط عالم متعدد الاقطاب. فهذه المجتمعات لم تعد تمتلك الانسجام الذي صنعه التاريخ من خلال إعادة التشكُّل وسياسات الدمج التعسفية. وحملت الهجرات الحديثة من الجنوب تقاليد متباينة. ويشير المؤلف، نلاحظ في أوروبا خلال العقود الأخيرة ردتَي فعل: تتمثل الأولى بكونها ردة فعل على التحديث الذي تسرّب إلى العادات في عموم القوس العربي-الإسلامي. ويمكن إدراك ردة الفعل هذه، في جزء كبير منها، بوصفها ردة فعل لاحقة على السيطرة الاستعمارية ورفض الصدارة الغربية. أما ردة الفعل الثانية، فتتمثل في حركة انكفاء أخلاقي تنتشر في هذه المنطقة والبلدان الغربية أيضا. وقد تزاوجت هذه العوامل عبر التوترات بين المهاجرين والسكان الأصليين في أوروبا. وفي هذا السياق عفى الزمن على نماذج الاندماج الأوروبية الي شكّلت مرجعية الدولة-الأمة المنسجمة، وكانت حصيلة التاريخ في القرنين الماضيين.
يرى البعض أن الشبان المغاربيين غير مندمجين، بل يصعبون على الاندماج. ويرى آخرون، على عكس ذلك، وهم صراحة من دعاة التعدد الثقافي، يؤكدون أن الاندماج الثقافي للشبان المتحدرين من هجرة المغرب العربي(6) أمر منجز. ومن أجل دعم هذا التأكيد، يشيرون إلى الموقع الذي لا يمكن تجاهله والذي يحتله الشبان المغاربيون في بعض المجالات مثل الراب والهيب هوب والبريك دانس والكوميديا، وفي ميادين الرياضة، وبدرجة متواضعة في مجال السينما والأدب، حتى لو كان اختراقهم للحياة السياسية وللتلفزيون حديث العهد. ولكن، وفق هؤلاء الكتّاب، فإن الاندماج الثقافي للشبان المتحدرين من الهجرة لا يعني اندماجا كاملا، لأن الأبعاد المختلفة-الاقتصادية والسياسية والثقافية- ليست مترابطة بصورة طبيعية. ويؤكد د. بيروني أن ما يفصل بين المهاجريين المغاربيين والسكان الأصليين، ليس العجز عن الاندماج الثقافي، بل عن الاندماج الاقتصادي والسياسي (ص 325-326).
يبدو ضروريا أن نكفّ عن التفكير كما يقول المؤلف باعتبار خصوصيات مجتمع الاستقبال مسألة قابلة للتعميم. فمعاييرنا هي معايير خاصة بالحداثة الغربية، وهي ليست حتى تعبيرا عن العالمية. كما أن المعايير الثقافية للمجتمعات التي قَدِمَ منها المهاجرون لها أيضا خاصياتها. ثم إن الهجرة ليست مواجهة بين مجتمعين، بل مشكلة جماعات وجب عليها عندما غادرت بلدانها، أن تُعيد بناء أشكال جديدة من المخالطة الاجتماعية (ص 360).
إن ترميم الصلات وتعزيزها بين سكان مدن الهجرة والمؤسسات يفترضان مسبقا اعترافا سياسيا، وبالتالي نقديا. وما يجزّئ المجتمع هو أزمة ثقة المهاجرين بالمؤسسات وبالمواطنين الآخرين. فسلطة الخطاب المعادي للأجانب، وأشكال الأفضلية، وأشكال التمييز، واتساع عمليات التدقيق تبعا للون البشرة (سود) و(عرب)، أمثال فاقعة محفورة عميقا في الممارسات الإدارية. ويذكر المؤلف، يُظهر سلوكنا اليومي أننا لا نريد سكن الأحياء ذاتها، ولا تلقي العلاج في المشافي ذاتها، ولا إرسال أطفالنا إلى مدارس “هؤلاء الناس” ذاتها. والمسافات التي يحتفظ بها السكان الأصليون، بصورة متعمدة بهذا القدر أو ذاك، حيال المهاجرين القادمين من جزر الأنتيل وأفريقيا وتركيا، والذين استقروا في أرضنا منذ أجيال عدة أحيانا، ساهمت فعليا في التقليل من جودة الخدمات، خصوصا المدارس في أحياء المهاجرين. ولن يكون في المستطاع التغلب على هذه العوائق إلا بصورة غير مباشرة، عبر التشجيع، وباتباع سياسة عامة تعير اهتماما للفروق الثقافية، وتطوير نخبة مهاجرة في هذه الأحياء أو في جوارها.
الهوامش
تضم منطقة شنغن حاليا 26 دولة أوروبية، وقد الغت هذه الدول التنقل فيما بينها بجوازات السفر، أي أصبحت دولة واحدة لهذا الغرض، وتعود تسميتها إلى توقيع الاتفاقية في شنغن في لوكسمبورك عام 1985.
حول تناقض السياسة الأوروبية بشأن الهجرة، راجع: محمد الخشاني، “التحولات الديموغرافية في البلاد العربية واتجاهات الهجرة إلى أوروبا”، استشراف للدراسات المستقبلية، الكتاب الخامس (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، ص 30-58.
المناطق الحضرية الحسّاسة، تسمية أُعطيت للأحياء التي كانت موضوع سياسات المدينة.
المقصود امتحانات نهاية المرحلة المتوسطة.
للمزيد راجع: فرايزر إيغرتون، الجهاد في الغرب: صعود السلفية المقاتلة، ترجمة فادي ملحم (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، خصوصا الفصل الثاني الذي يعالج مسألة اغتراب المهاجرين في بلدان الهجرة، ص 39-76.
للمزيد حول الهجرة من المغرب العربي إلى أوروبا راجع: هاشم نعمة فياض، هجرة العمالة من المغرب العربي إلى أوروبا: هولندا نموذجا، دراسة تحليلية مقارنة (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012)، ص 26-48.