نعم، مئات بل ألوف الكتاب المتنورين المتحررين من عبودية الطائفة والقبيلة والمدينة يكتبون، منذ عشرات السنين، عن العدل والحق والفضيلة ,لم يتمكنوا من تحويل وضيع إلى شريف، وشيطان إلى ملاك، وظالم إلى عادل، ومختلس إلى أمين.
فالقول الفصل كان منذ أن تعلمت البشرية كتابة التاريخ وحتى اليوم من حصة المقصلة والخازوق، ولصاحب السيف والخنجر والسكين، ثم أصبح اليوم من حق مالك المفخخة والطائرة المسيَّرة، وقائد الميليشيا، ومُرشد القتلة، ومموِّل الانتحاريين، ولا عقاب ولا حساب.
والشيء بالشيء يذكر. فقد شاءت مساويء الصدف أن اجتمعنا، ذات مرة، بوزير من وزراء الزمن العراقي المر، فتطرق الحديث معه إلى المعارضة وبياناتها وأخبارها، ومقالات كتابها التي تتحدث عن المخالفات والجرائم التي يرتكبها أصحاب السلطة، فردَّ بعجالة، ودون أن يتروى، قائلا، “أنا لا أقرأ ولا أسمع ولا أتكلم، أوصيتُ العاملين في مكتبي وجميع أفراد أسرتي وحمايتي وكبار موظفي الوزارة وقلت لهم، لا تُدخلوا علي أي شيء تافه من كتابات المعارضين، لا تشغلوني بهذه (الترهات)”.
والحقيقة أن هذا الوزير لم يأتِ بجديد. فمنذ بدء الحضارة البشرية كان هناك حاكم ومحكوم، ظالم ومظلوم، سارق ومسروق. وأسوأ حاكم هو الذي لا يسمع إلا صوته، ولا يرى إلا رأيه، والأشد سواً هو من يضع في بطانته أشطر وُعّاض السلاطين الذين يجمّلون له قبحه، ويُحلون لهُ حرامه، وهم يعلمون.
ومنذ قديم العصور كان الشغل الشاغل للمفكرين والفلاسفة والأنبياء ودعاة اللاعنف أن يغسلوا أدمغة البشر من أمراض الأنانية وجنون التملك، وأن يمنعوا استعباد القوي للضعيف، والغني للفقير، والرجل للمرأة، والكبير للصغير.
ثم، بالمقابل، نشأت، لصدّهم ومنع انتشار أفكارهم، جبهاتٌ ومنظماتٌ ومؤسسات يقودها ويمولها متنفذون وحكام وبِطانات ومَوالي بهدف إبقاء الحال على حاله.
فمن المَلك العادل حمورابي، إلى مئات الفلاسفة والكتاب والمصلحين الذين جاؤوا بعده وساروا على هديه، كان الجهاد قائما من أجل تقنين العدالة، وتثبيت حدودها، وتحديد حقوق البشر، وواجبات الحكم والحاكمين.
وصولا إلى سقراط الذي صاح في القرن الخامس قبل الميلاد: (أيها الإنسان إعرف نفسك). فقد أراد خدمة قومِه فقتلَه قومُه لأنه نادى بضرورة وجود شريعة أخلاقية أبدية.
ثم جاء بعده تلميذه أفلاطون فعاش ومات وهو يبحث عن الحكومة العادلة التي قال إنها لا تأتي عفوا، ولا بد لها من التمهيد والتربية والتعليم.
ثم كونفوشيوس الذي أقام فلسفته على القيم الأخلاقية، واشترط أن تكون الحكومة خادمة لشعبها.
ثم زرادشت وبوذا. ثم من جاء في عصرنا الحديث من فلاسفة وعلماء ومفكرين وعبقريات إنسانية لم تتوقف عن الوعظ والتنوير دون جدوى. فكل هذه القامات العملاقة لم تخلق حكومة عادلة واحدة، ولم تمنع واحداً من أصحاب الرؤوس الفارغة والقلوب الخالية من الرحمة والعدل والفضيلة من أن يصبحوا قادة وزعماء.
أما ولد فلاديمير بوتين، مثلا، في ظلال الماركسية وقضى ثلثين من عمره في دراسة رسالتها التي قامت على التبشير بسلطة الكادحين والعمال والفقراء؟. إذن كيف لم يعرق جبينه ولم يرق قلبه وهو يرسل العشرات من طائراته لترمي قنابلها الحارقة على مواطنين سوريين معارضين لنظام لا يقتل غير الكادحين والعمال والفقراء، وقد يكون منهم مناضلون رفاقٌ له في الماركسية لم يفعلوا شيئا سوى أنهم رفضوا الدكتاتورية والفساد والطائفية، وطالبوا بالحرية والعدل والسلام؟.
شيء آخر. ألم يتفقّه خميني، ووريثه خامنئي، بحضارة الفرس العظيمة التي قامت على مباديء زرادشت وتعاليمه؟، ثم ألم يدرس ويتعمق ويتبحـر، كما يزعم ويدعي، في قيم ثورة الإمام الحسين على الظلم والظالمين وأهدافها؟ إذن كيف ينام ليله بعد أن يكون قد أمر حرسه الثوري وقادة ميليشياته العراقيين واللبنانيين واليمنيين بأن يُحرقوا الضرع والزرع، في هذه المدينة المسالمة أو تلك، ويَقتلوا ويُهجّروا ويغتصِبوا وينهبوا؟ ألا يؤرقه أنين ضحاياه ومنهم إخوة له في المذهب الواحد والعقيدة؟.
سؤال آخر. هل صحيح أن العالم الغربي الديمقراطي المتحضر لا يعرف ما يجري في سوريا والعراق ولبنان واليمن؟، أم إنه يرى ويسمع ولا يتكلم؟
وهل إن حكومات عصر المركبات الفضائية لا ترى في دكتاتوريات القرن الحادي والعشرين ودواعشهِ وحشوده الشعبية ما يهدد أمنها ويسيء لحقوق الإنسان؟
وهل صحيح أنها لا تعرف من يمول الإرهاب، ومن يسلحه، ومن يؤويه، ومن يتستر على قادته القتلة والجزارين؟.
أما نحن، فلن نمل ولن نكل، وسنبقى نكتب لهم ولا يقرأون، وإن قرأوا لا يفهمون، وإن فهموا لا يعقلون!!!!.