التسمية سلطة ، اليس هذا ما قال به نبي القوة نيتشة ، ولا شك انه كان يقصد به العرب ، فالعرب يعشقون الشعر والأسماء والألقاب ، حتى و إن كانت على حسابهم ، ولا دليل على ذلك خير مما يسمونه بنكساتهم ونكباتهم وهم في افتخار بقدرتهم وحنكتهم على ايجاد مثل هذه التسميات ، ولكن إلى أين ؟
النكبة ، النكسة ، النكلة… هذا هو حال العرب ، وحال الهزائم التي يمنون بها باستمرار ، وعدوهم يسرح ويمرح لاعبا على جباه أنهارهم ، ملتهما عسلهم ومقتلعا أشجارهم ، وراميا ثمارهم ومهدرا دمائهم قبل مائهم .
في سماء عام 1948 ، حلقت غيمة أسمتها عاهرة كانت ناظرة إلى الأعلى منذ الأزل ، وهي تراقب النجوم والأقمار ومداراتها باحة عن نجمة الحب او قمر الشرف او حتى شمس القيود الخفية ، لكن أشعة عيناها كانت تتردد عليها باستمرار بالفشل الذريع من ايجاد ما تبحث عنه ، وتحت سطوة هذا الفشل المتكرر أصبح الفشل عادة لها يمارس سلطته بأن أفرغ فيها حيواناته المنوية التي انبتت ما أسمته هي ب”الأمل” . وانبت الأمل الحلم ، وانبت الحلم التفاؤل ، وانبت التفاؤل فشلا جديدا . وهكذا دواليك يبقى الأمل والحلم والتفاؤل ديكورات مختلفة لفشل حقيقي يسيطر عليها .
نظرت العاهرة الى الغيمة ، كانت بيضاء ، بيضاء جدا ، راقبتها منذ همت بالصعود حتى استقرت في موضعها ،ثم اطلقت تسميتها : غيمة الكرامة.
في 29اغسطس من عام 1897 ، صعد هرتزل الى المنصة في المؤتمر الذي اطلق عليه المؤتمر الصهيوني الأول ، حاملا بيده اليمنى علبة كبريت وبيده اليسرى سيجارة كوبية ، صعد الى المنصة واشعل ثلاث سجائر وهو صامت والجمع الغفير امامه محدق فيه ينتظر منه ادنى حرف يتساقط من شفتيه ، لكن الصمت طغى على هرتزل حتى مد يده للمرة الرابعة ينوي اخراج سيجارة رابعة ، لكن علبة سجائره كانت قد نفدت ، فحمل اوراقه التي كانت موضوعة على المنصة ونزل خارجا من القاعة .
اضطرب الجمع الغفير من ذلك ، ثم صعد بضعة اشخاص يستطلعون ما كان هرتزل يحفره على خشب المنصة طوال مكوثه هناك ، بحثو كثيرا ولكنهم لم يجدوا شيئا ، الى ان قام طفل صغير ، هو اصغر الحاضرين بالإشارة لأبيه أن انظر الى تلكم الرسمة ، وهنا كانت القصة .
انزلت العاهرة عيناها عن الغيمة التي سمتها “غيمة الكرامه ” بعد ان حدثها شاب وقف الى جانبها للتو ، سائلا : الى ماذا تنظرين ؟ – الى تلك الغيمة . – ما بها ؟ . – لا اعلم . اعتقد انه كان يتوجب عليها ان تحملني معها. – ولماذا ؟ . – انها غيمة الكرامة ، وانا الان بلا كرامه ، فلماذا لا اصعد مثلها . – ومن اسماها بهذا الاسم ؟ غيمة الكرامه ؟ . –نعم ، انا أسميتها بذلك . – ولماذا ؟ . – لم استطع ايجاد اسم اخر لها . – ولماذا تسمينها أصلا . – يجب تسميتها ،يجب تسميتها حتى تكون .
عاد الجميع الى اماكنهم منتظرين عودة هرتزل من عند البقالة الصغيرة التي كانت تبيع السجائر الكوبية ، بعدما نهضو ورأو ما رسمه هرتزل على اسفل قدم المنصة ، كانت الرسمة عبارة عن قلب حب صغير ، يخترقه من المنتصف سهم ، وفي بداية السهم هنالك صورة فتاة ناظرة الى اخر السهم التي رسم عليها هرتزل صورة غيمه بيضاء .
انتهت حرب ال48 بتهجير ما يقارب 800000 ألف فلسطيني من بلادهم إلى البلاد العربية المجاورة ، فضلا عن عدد “الشهداء ” التي خسرتها الجيوش العربية في “الفزعة ” التي قاموا بها في حرب ال 48 ، بعد ان صاحت المآذن “وامعتصماه” ليرد صحراهم و أخضرهم وجافهم ورطبهم ان ” والبيكاه” .
لم ينبثق عن النكبة سوى اتفاقيات هدنة دائمة بين الجانبين ، و إعلان قيام ما يسمى ب “دولة اسرائيل” ، ورضوخ ما يسمى ب”الجانب العربي” واستمرار التهديدات ، واستمرار الانتظار العربي أيضا لصيحة “وامعتصماه” أخرى توقظهم من سباتهم أو بالأحرى تقطع عليهم بولهم .
تضافرت أسباب كثيرة اجتمعت مع بعضها البعض ضد الاجتماع العربي الأول في عام 1948 ، في صراعهم ضد العدو الصهيوني الذي وقفت الى جانبه الدول الغربية مساندة له في هذه الحرب ، وخرجت اسرائيل منتصرة في هذه الحرب ، ومعلنة قيام دولة “اسرائيل” ومستولية على اغلب الاراضي التي نص قرار الأمم المتحدة قبلها بسنة على اعطائها للعرب الفلسطينيين ضمن بنود التقسيم التي حصلت ، وما حصل بعدها من اتفاقيات هدنة وقعتها مصر ، لبنان ، الاردن ، سوريا مع اسرائيل .
وجاء الوعيد ، حرب ال67 ، النكسة ، الهزيمة الثانية ، عار العرب الثاني ، حرب الفزعات الثانية ، والنتيجة كسابقتها ، هزيمة أخرى انبثق عنها السيطرة المادية والمعنوية لإسرائيل على كل الأراضي العربية ، ولا مبالغة في ذلك ، حتى كاد الجيش الإسرائيلي ان يوثق جملته المشهورة التي ستغدو كآية يمكن ان توضع كآية في القرآن وهي تقول : الجيش الذي لا يقهر .
تناول الشاب يد الفتاة التي بدأت حتضر عندما رأت غيمتها تعود الى الأرض ، لم يدر الشاب ماذا يفعل ، سوى ان هم الى الفتاة وامسكها مجلسا اياها على ركبتيه وعيناها قد اصابهما الوله والتعب في نظراتها العميقة الى هذه الغيمه . تناول الشاب يد الفتاة ،ثم تناول فمها ليتناول بعد ذلك ما طالته يداه من جسمها ، وبدأت الغيمة بالعلو مع ذلك أكثر فأكثر . استيقظت الفتاة اثر ذلك من اثر نزول غيمتها لتجد نفسها شبه عارية بين احضان الفتى المتشادق كما وصفته بعد قليل ، والذي لم ينل منها سوى صفعة ارعبت كل الجنود ،مما اضطرهم للانسحاب ،وبذلك تقدمت القوات الاسرائيلية لتدحر مجموعة الشبان اللبنانيين الذي هرعو مذ سمعو باطلاق صفارات الانذار الى حمل اسلحتهم والوقوف على الحدود اللبنانية في انتظار السيارات السعودية التي ستقلهم الى الاردن ليأخذو السائق الذي سيعود بهم الى العراق ليأخذو اسلحتهم ثم ينطلقون بعد هذه الفسحة الجميلة لمحاربة العدو .
سيطرت القوات الإسرائيلية على مزارع شبعا وما يقارب أربعة وعشرون قرية لبنانية في إطار المطاردة السريعة التي حصلت بين القوات الإسرائيلية والشبان اللبنانيون ، م سيطرت على الجولان وشبه جزيرة سيناء وغيرها . .
تحركت الفتاة بعد الصفعة القاسية نحو ملابسها لترتديها على ابطأ صورة يمكن ان تشاهدها ، ثم هرعت الى الشاب الذي اوجع اعضاءها الجنسية بذكر همومه السابقة ، فجلست على ركبتيه بمؤخرتها السمينة قليلا ، ثم تحركت شفاهها قائلة : ولماذا تخبرني بهزائمكم ؟ ألا تكفيني هزائم مؤخرتي ؟
– هزائم مؤخرتك انتصارات أمام هزائمنا .
– وماذا ستفعلون ؟
– الجميع يعد العدة ، سننتصر هذه المرة .
– تنتصرون !! كيف ؟ في نشرات الأخبار لم اسمع عنكم إلا الهزائم المتلاحقة .
– لم اسمع عنكم ؟ أولست منا ؟
– حروبكم هذه لا يشرف العاهرات خوضها
– ولماذا ؟
– انت تعلم لماذا ؟
– لا ..لا اعلم
– حروبكم كلها هزائم
– لا
– كيف لا ، النكبة والنكسة ، وما أعقبهما من هزائم ، ثم مراحل الانتفاضات المتكررة التي لم يذهب ضحيتها سوى أطفال فلسطين الأبرياء ، ورجالها ونسائها ، وماذا بعد ؟
– لكننا نعد العدة ، النصر قادم
– لا نصر لكم ، لماذا تحيون أصلا
– لماذا نحيا ؟
– نعم ، لماذا تحيون .. في الحرب لم نرى نفعكم وفي السلم لم نره أيضا ، فأين يقع نفعكم إذن ؟
– القادم أفضل
– بل القادم أنكل
– أنكل ؟
– نكبة ، نكسة ، نكلة
– لماذا ؟ أقول لك سننتصر
استمرت المناوشات بين الجانبين ، العربي والاسرائيلي ، في كل يوم هنالك “مقتول ” عند العرب ، ومولود جديد لدى الجانب الاسرائيلي ، سقوط طائرة العرب ، وميلاد طائرة عندهم ، محاولة اختراع منجنيق العرب ، ومحاولة صنع قنبلة نووية عندهم ، حديث العرب عن اسرار الوضوء ، وحديثهم عن اسرار العقل والفيزياء والكيمياء والمفاعلات النووية والصواريخ العابرة للقارات . لحى العرب في تطاول ، والبنيان عندهم تكاد تمس السماء ، شهاداة العرب من الشيخ الحافظ القارئ العزيز المجل خادم الكعبين والشرفين والسنامين وكل شيء فيه اثنين ، وجوائزهم من نوبل وغينيس وكبرى الجامعات الغربية .
اجتياح لبنان في ال82 ، وبعدها في ال85 ، والعمليات ضد حزب الله وغيره من المقاومين ، والانتفاضة الاولى ، والانتفاضة الثانية ، والحرب على غزة ، والاسلحة المحرمة دوليا التي تستخدمها اسرائيل ، وبناء المستوطنات ، واستمرار عمليات التهجير ، والبيعات التي حصلت ، وما باعه حكام العرب علنا …
– أوف ، عدت لترهاتك ، قلت لك توقف
– لا لن اتوقف ، قلت لك ، يوما ما سننتصر
– وانا قلتها لك وسأعود لقولها لك للمرة المليون : يوما ما ستريني انتصاراتكم و أريكم مؤخرتي .
– ماذا ؟
– إنها باقية كالجبال ، باقية كما نهضت وكما ستبقى ، ولن تندثر ، ستندثر في حالة واحدة ، اذا ذهب العرب ، يذهبون في المجاري ، فالريح ارفع من ان تحمل الهشيم .
-ولماذا ؟
– أعيدها لك مرة أخرى : يوما ما ستريني انتصاراتكم و أريكم مؤخرتي .