ونعود إلى معلم الاشتراكية الأول.. واعتذر إذ أبدأ بتسجيل حيرتي من هذا المعلم الواسع الثقافة الشجاع في تردد، والمتردد في شجاعة لكن حيرتي تمتد حتى اسمه فهل رأيتم رجلا يكتب اسمه بطريقتين مختلفتين فهو في كتابه “الاشتراكية” وفي بعض مقالاته يكتب اسمه “نيقولا حداد” ثم في كتاب علم الاجتماع يكتبه نقولا الحداد، وهو كثيرا ما يحاول أن يفطم نفسه عن الاحتكاك برجال الدين ثم فجأة يتذكر واجبه فيرد على اكثـرهم شراسة في العداء للاشتراكية. وعندما تأسس الحزب الاشتراكي المصري لم ينضم إليه، بل اكتفى بالتأييد من بعيد، فهو رجل لا يحب أن يقيد نفسه بقيود حزبية، وربما لم يكن معجباً بتركيبة القيادة الحزبية فيه أو لم يعتقد بإمكانية استمراره ملتزماً بالبرنامج الذي أصدره.
وفيما هو بعيد عن صفوف الحزب هاجم الشيخ التفتازاني تأسيس حزب اشتراكي في مصر في مقالين عنيفين ) نُشرا في الأهرام بتاريخ 24-8-1921 و7-9-1921) مدعياً أن الاشتراكية كمبدأ معادية للدين الاسلامي، وفي ما يُربك هذا الهجوم قيادات الحزب الوليد يقوم نقولا ليرد عليه في مقال بالأهرام (13-9-1921) ويقول فيه.. أود أن ألفت نظر الشيخ التفتازاني إلى المسائل الآتية : أولا: أن الاشتراكية ليست كما يفهم من مقالته بتاتاً فإذا شاء أن يتحقق حضرته من ذلك فليتفضل بأن يطلع على ما جاء في برامج الاحزاب الاشتراكية.
ثانيا: أن الاشتراكية عقيدة اجتماعية لا دينية ولا شأن لها في الدين إلا أنها أكثر انطباقاً على الاديان السائدة من سائر النظامات الاجتماعية المعايرة والحاضرة. ثم أن بيان الحزب الاشتراكي الذي أُنشئ حديثاً في مصر على اختصاره ينفي هذا الوهم”.
ومع ذلك فإن نقولا حداد لم يشأ أن يتدخل في الصراعات التي صاحبت نشأة الحزب سواء تلك التي نشبت داخله والتي انتهت بتحوله إلي حزب شيوعي أو الصراعات السياسية والصحفية والأمنية التي واجهت مؤسسي الحزب. ويمكن القول أن هذه المعارك قد دفعت نقولا إلى قليل من التستر انه ذلك النوع من التستر الذي سبق أن اورده على لسان فرح انطون عندما تجادلا معاً في أن يهدأ انطون بعد أن نقل له تحذيراً من مندوب عن دار الاحتلال البريطاني لأن أي “شطط” في كتاباته سيغلق الجريدة التي يحررها فوراً، وبالفعل امعن فرح في الهجوم وامعنت ادارة المطبوعات في اغلاق اية صحيفة يحررها، وفيما ينصحه نقولا بالتروي وتقليل حدة ما يكتب قال انه لن يفعل وسأله نقولا وماذا ستفعل إذا اغلقوا اية صحيفة تحررها؟ قال “نقوم بحركة التفاف نكتب كتبا وروايات والشعب ذكي يفهم.
وكانت اولى حركات الالتفاف هي اصداره كتاب “علم الاجتماع” من مجلدين ضخمين يمثلان كل ما يريد أن يقول. ونقرأ غلاف الجزء الأول (وهو من 230 صفحة من القطع الكبير) وعلى الغلاف . علم الاجتماع- حياة الهيئة الاجتماعية وتطورها- تأليف نقولا الحداد- صاحب مجلة السيدات والرجال- الكتاب الاول- حياة الهيئة الاجتماعية ويبحث في تكون المجتمع وأطواره ، وفي عقلية الجماعات والرأي العام، وفي العوامل المختلفة التي كونت المجتمع وطورته وفي اعتراك هذه العوامل وتوازنها”.
أما الكتاب الثاني (336 صفحة من القطع الكبير) فغلافه يقول ” علم الاجتماع- الحياة الاجتماعية وتطورها- تأليف نقولا الحداد – صاحب مجلة السيدات والرجال – الكتاب الثاني- تطور الهيئة الاجتماعية – يبحث في جسمانية المجتمع ومشابهة انظمته لأجهزة الجسم الحيواني، وفي نواميس التطور الاجتماعي وانطباقها علي نوامس التطور الطبيعي وفي تاريخ التطور الاجتماعي أي تاريخ التمدن، ويلم بأدوار التمدن الثلاثة فجر التمدن وصباحه ونهاره، ضحى وظهرا وظهيرة”. والحقيقة أنني تأملت الغلافين وتأملت مثلا غلاف كتابه الأول والمكون من كلمة واحدة هي “الاشتراكية”، ويمكنني أن اقول بإطمئنان أن هذين الغلافين هما في الجوهر، جوهر حركة الالتفاف فالإغراق في تفاصيل الكتابين يكشف عن محاولة ماكرة تبعد الخصوم شيوخا وحكومة وحكاما عن كشف مكنون محتوى الكتابين ففيهما حديث مسهب عن الاشتراكية وعن الماركسية وعن كثير مما لو آتي سافرا لتعرض نقولا لعصف شديد القسوة.
ولدينا من هذا البحث طبعتان “الأولي ناشرها انطون الياس بالقاهرة، والثانية طبعت في بيروت عام 1982” وسننتقل بينهما. والحقيقة أن مطالعة هذين الكتابين تكشف عن جهد كبير جداً بذله نقولا حداد ليس فقط فيما اورده من معلومات ومقارنات موسوعية، وإنما ايضا في اعتماده الشديد الذكاء على المقارنات بين جسم المجتمع وجسم الإنسان والحيوان وهو ما يعطي كتابته قدرة على الالتفاف.. والشعب ذكي يفهم. ويقول نقولا حداد في مقدمة الكتاب الأول “لم اجرؤ على تأليف هذا الكتاب في هذا الموضوع المعقد البواطن، إلا بعد أن قضيت خمسة عشر عاما ادرس وأطالع نخبة المؤلفات الاجتماعية على اختلاف وجهاتها ومناحيها. ومع ذلك بقيت اتهيب الكتابة في هذا الموضوع لتشعب الابحاث فيه ولاسيما أن كلا من المؤلفين قد نحى فيه منحى يختلف كل الاختلاف عن مناحي الآخرين وسبب هذا الاختلاف أن هذا العمل حديث العهد في دائرة العلوم فلم يتفق بعد على نوامس للاجتماع يتمشى عليها المجتمع الإنساني طويلا لاعتبارها قواعد ثابتة لهذا العلم، لأن تقلبات الاحوال الاجتماعية وتغيراتها السريعة بالنسبة لتغيرات الطبيعة لا تدع للباحث الاجتماعي فرصة أن يتثبت من سنة اجتماعية مطرده.
وأسأل: هل كان الامر كذلك أم هي حركة التفاف أخرى موحيا أن هذا العلم كالزئبق لا يمكن الامساك بمفرداته؟
ونترك مقدمة الكتاب في منتصفها لنواصل.
نقلا عن المدي