20 ديسمبر، 2024 6:58 ص

نقل التكنولوجيا.. من التوريد الى التوطين والابتكار

نقل التكنولوجيا.. من التوريد الى التوطين والابتكار

لاشك ان عملية نقل التكنولوجيا من البلدان الصناعية إلى البلدان النامية لا تزال إحدى الإشكاليات الرئيسة التي تواجه الاقطار النامية في عملية التنمية،لأنها وان كانت قضية تهم الطرفين،المصدر للتكنولوجيا،والمستورد لها في نفس الوقت،حيث يسعى الطرفان لتحقيق أكبر قدر من العائد،واعلى مستوى انتفاع ممكن من وراء عملية نقل التكنولوجيا،الا ان القوة التفاوضية لا زالت تميل بشكل واضح لصالح المصدر،لأسباب تقنية، واقتصادية، اضافة الى مسألة الاحتكار، وخاصة للتقنيات المتطورة.

 كما ان التقدم السريع في استيلاد تكنولوجيات جديدة،بات يتعدى حدود مجرد ما يحصل عليه المستفيد من معرفة جديدة، الامر الذي شكل تغييرا جذريا في طرائقيات تكوين المعارف،واكتسابها عند نقلها،حيث يتطلب الامر بجانب اشكالات الاستيعاب،معايير مضافة لرصد سرعة التغيرات في سوق التكنولوجيا،ومواكبتها بكفاءة ،وما يترتب على هذا الواقع الجديد من تحديات جديدة  ينبغي الانتباه لها. 

ولا شك أن نقل التكنولوجيا سيظل أحد الأهداف الرئيسة للدول النامية ليس مرحليا فقط،بل لأجل قد يطول،باعتبار ان التقنية الحديثة هي من اهم وسائل تحقيق التنمية والازدهار، لتجاوز التخلف، والوصول الى الاكتفاء الذاتي، في مختلف العلوم والمعارف،لاسيما في عصر  يتجه فيه الاقتصاد الدولي نحو الانفتاح الاقتصادي التام ،والعولمة الاقتصادية،الامر الذي  سيزيد من حدة المنافسة، ويصبح امتلاك التقنية المتطورة نقلا، واستيعابا، وتطويرا،وإنتاجا،عنصرا حاسما في القدرة على النمو، والتطور، والاستقلال،وهو حال تفتقر اليه الدول النامية في الوقت الحاضر.

  على انه ينبغي أن يوضع في الاعتبار أن التكنولوجيا الجديدة لا تكفي في حد ذاتها لتحقيق التقدم ، والنهوض من واقع التخلف، الذي يعيشه كثير من بلدان العالم النامي،ولكن الحراك العلمي والفني المتواصل داخل المجتمع نفسه، ومع العالم الخارجي،هو الذي يحول المعلومات إلى معرفة، وينمي التراكم المعرفي مع الزمن،حيث يفترض ان يؤدي ذلك التراكم الى تغيير نوعي في طرائق تكوين المعارف،واكتسابها عند نقلها، وصولا الى مرحلة الشروع بإبداعها، وتصنيعها في مرحلة لاحقة. 

ولا بد من الاشارة الى أن العوامل الاجتماعية، والثقافية، والبيئية، تؤثر على التكنولوجيا وتتأثر بها،وذلك لان التقنية هي ثقافة بيئة متفاعلة مع عناصر المعرفة المادية، ومكوناتها الصناعية. فاستخدام التكنولوجيا الجديدة لابد أن يكون له أثر على ثقافة وافكار الناس الذين يتفاعلون معها، وما يمكن أن يصحب ذلك من عادات، وسلوكيات فردية، وجماعية. وعلى ذلك فلا مفر من إعطاء العوامل،والشروط الاجتماعية، والثقافية، الاهتمام الكافي في عملية نقل التكنولوجيا الجديدة ،واستيعابها، وتوطينها.

 واذا كان من بين أهم العقبات التي تواجه عملية نقل التكنولوجيا إلى دول العالم النامي،تفشي الأمية التكنولوجية،والعجز الواضح في الكوادر الفنية القادرة على الاستفادة القصوى من التكنولوجيا،وتقليص الضياع فيها، ناهيك عن اصرار الدول الصناعية المتقدمة المالكة للتكنولوجيا على أن تظل الدول النامية مستهلكة للمعرفة، ومستوردة للسلع الصناعية، والتقنيات في حدود الدور المرسوم لها سلفا كسوق رائجة لتصريف بضائعها،بقصد تعظيم الارباح، فانه يلاحظ عدم وجود معايير تكنولوجية، وأنظمة واضحة في سياسات نقل التقنية في البلدان النامية، لضمان نقل التقنية الجديدة المناسبة، ومن ثم القدرة على توطينها ،وتطويرها لتتلاءم مع احتياجات المستوردين،اضافة الى قلة مراكز البحوث والتطوير الوطنية المتفاعلة مع مثيلاتها في الخارج، والتي تساعد على تحقيق أهداف نقل التكنولوجيا الحديثة بكفاءة.ولعل غياب التعاون والتنسيق بين القطاع الصناعي الوطني، والمؤسسات العلمية والأكاديمية بسبب عدم وجود استراتيجية تعشيق واضحة المعالم ،هو الاخر معوق كبير مضاف في هذا المجال.

 وحيث ان مؤشر نقل التكنولوجيا وتوطينها، يعد من بين أحد اهم مؤشرات التقدم الحضاري لأي دولة،الذي يضعها في الإطار الصحيح ضمن خطط وسياسات العلوم والتقنية لها،بحيث يمكن من خلالها تحديد تقنية معينة ملائمة لإمكاناتها، وظروفها المحلية، واحتياجاتها الحقيقية، وتخصيص الدعم المالي حتى يتم نقلها، واستيعابها ،والتمكن من تطويرها،فان الامر يتطلب بالاضافة لمواجهة تلك التحديات،العمل على أعادة النظر في ستراتيجية التعامل مع اسلوب نقل التقنية الصناعية  باعتماد طريق جديد يستهدف بناء قاعدة تكنولوجية وطنية خاصة  بالصناعة,يتجاوز الابقاء على اسلوب توريد المكونات المادية منها وحسب،وذلك من خلال الشروع بالتخطيط لعملية تنمية اقتصادية، وصناعية شاملة، تتطلع الى توطين التكنولوجيا النفطية، وتطويعها وفقا للخصوصية الوطنية، واستهداف خلقها في مرحلة لاحقة، ضمن افق سقف زمني منظور،بحيث يترك التمثل المعرفي العربي للتقنية بصمته التصنيعية الوطنية عليها كلا او جزءا بشكل ملموس.  

ولاجرم ان بناء التكنولوجيا المستقلة،يستوجب مزاوجة الخبرة الوطنية المتراكمة لدى الاطر،والكفاءات الصناعية العربية،وتبادل الخبرات بين العاملين في القطاع الصناعي العربي،ومراكز البحث الاكاديمي،وتغذيتها في نفس الوقت، بمعايير، ومواصفات المعرفة الام القياسية التي ابدعها التقدم العلمي العالمي بموجب عقود الانتفاع التي يتفق عليها،بقصد الاستفادة منها في استنبات التكنولوجيا الوطنية الخاصة بتلك الصناعة،والتخلي التدريجي عن مجرد التعكز على الاسقاط بالتوريد الذي طبع المرحلة السابقة ببصمته، باعتبار ان التقدم الصناعي ليس مجرد توريد للمكائن،والمعدات الحديثة وحسب،ولكنه في الحقيقة،اختراعها، والعمل على تصنيعها،بعد تهيئة القاعدة الصناعية اللازمة لذلك. 

 وبالرغم من الصعوبات التي تعترض مثل هذا التوجه، بسبب تقييدات الاحتكار،وضوابط حقوق ملكية براءات الاختبار،وأجواء سياسة الخصوصية التي تحيطها بها الشركات العابرة للحدود،الا ان التركيز على اعتماد مبدأ البحث الميداني، والتطوير اللازم في اساليب العمل لتحقيق التقدم الصناعي بتراكم المعرفة،وتفعيل الطاقات الكامنة لتلك الخبرة المتراكمة عبرالزمن،وتشجيع روح الإبداع،والابتكار في الوسط الصناعي، والأكاديمي,وتطوير برامج التعليم في الجامعات، وربطها بحاجات القطاع الصناعي،في اطار سياسة تعشيق رصينة،تقترب بواقع القطاع الصناعي من امكانيات تجسيد تلك المعطيات بمخرجات صناعية، تعود بالنفع عليه   بشكل عام،وتحرره من قيود تكامل حلقاته في السوق الخارجية كما هو عليه الحال الان.  

أحدث المقالات

أحدث المقالات