اقترنت عملية استيراد التقنيات الصناعية في الوطن العربي بادئ ذي بدء، بعمليات إنتاج النفط والصناعات المرافقة بشكل رئيسي. وبغض النظر عن العقود التي حكمت العلاقة بين الشركات النفطية، والأقطار العربية المتعاقدة معها، فإن الشركات النفطية بسبب طبيعة النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي انبثقت عنه، كانت تحتكر تقنيات الإنتاج والصناعة النفطية بشكل محكم، الأمر الذي جعل الصناعة الاستخراجية العربية تواجه عند التفكير بالتوريد، والاختيار، والتوطين في مراحل لاحقة، مشكلة الاحتكار المتخصص للمجهزين والمصنعين، وموردي تكنولوجيات تلك الصناعة، وما يفرضه هذا الاحتكار من تقييدات، في عملية توريد حلقات معينة منها بذاتها، أو من غيرها من الصناعات والتقنيات المستوردة، ناهيك عن مشكلة توريد المواد المساعدة، وقطع الغيار اللازمة للتشغيل وإدامة العملية الإنتاجية.
وبعد عقود من التعامل مع هذا الواقع المقيد بالاحتكار، والشعور بالحاجة للتحرر من قيوده مراعاة لقواعد الاستقلال السياسي، والتحرر الاقتصادي، برزت الحاجة إلى ضرورة كسر الاحتكار،وتجاوز قيود التوريد ، فكان التوجه الوطني في القطاع الصناعي العربي ينزع إلى اعتماد سياسة التحرر التقني في التعامل مع عملية نقل التكنولوجيات الصناعية، ومنها بالطبع تقنية الصناعة النفطية، باعتبار ان توريد التقنية ليس مجرد عملية استيرادية تخضع لمعايير المفاضلة التجارية لعروض تجهيز التقنيات وحسب،وانما هي في حقيقة الامرعملية استيعاب بنيوية، وقدرة فنية على اختيار التقنيات الملائمة لحاجة البلد المستورد،واستيعاب اليات التشغيل والادامة،وتطويع ما يمكن تطويعه من حلقات مفاصلها وفقا لمقتضيات واقع الحال ، وتتجاوز مجرد كونها سياقات وأطر جامدة، تقف عند حد التشغيل الآلي لها، بموجب معايير المجهز القياسية، لاسيما وأن عناصر هذه الصناعة الثلاثة: المادية (المكائن والمعدات والأصول)، والبشرية (الكوادر والمهارات والسلوكيات)،والتكنيكية (المعرفة والتأهيل)، مترابطة مع بعضها البعض، في سياق المسلك التكنولوجي المعتمد في هذه الصناعة في البيئة العربية،المتشابك مع مستوى التطور الحضاري، والاجتماعي.
لذلك باتت الحاجة قائمة إلى الشروع باعتماد تنمية قومية شاملة، تنهض بالتصنيع، في كافة قطاعات الاقتصاد العربي،القطري منه والقومي،لتفادي اختلالات الفجوة بفارق التطور،وذلك باعتماد سياسات نقل وطنية للتكنولوجيات،ملائمة للخصوصيات الوطنية،واعتماد برامج عمل لتوطينها، بالانتفاع من الطاقات والكفاءات العربية، من خلال تبني المبتكرات الجديدة، وتطوير التقنيات المستخدمة، وتكييف العديد من حلقات حزمة تقنيات التصنيع المحتكرة، والعمل على تفكيكها، بتحويل الأفكار إلى عمليات تقنية، وأساليب عمل جديدة، من خلال الاهتمام بالجوانب البحثية الميدانية، وتعزيز ثقافة الابتكار في بيئات العمل العربية، وتعميق مجالات التأهيل،والتدريب بالموقع،لمعايشة الاختناقات المرافقة للتقنيات الموردة، وتسهيل وضع تصورات وآليات تحويرها، وتطويعها بما تراكم من الخبرة مع الزمن.
ومع أن هذا المشوار التنموي شاق ومعقد، ومحفوف بالكثير من التحديات، إلا أنه خطوة جادة في الاتجاه الصحيح، الذي يطمح معه المهتمون بالشأن الصناعي العربي، أن يقود إلى توطين كفوء للتقنيات الصناعية، ويحررها من كثير من قيود الاحتكار بموجب مقاييس التوريد التقليدية،ويرفع معدلات الانتفاع منها الى المديات القصوى المتوخاة من عمليات الاستثمار في توريدها.