22 نوفمبر، 2024 11:04 م
Search
Close this search box.

نقلُ الصلاحياتِ للمحافظاتِ … الحصادُ المرّ

نقلُ الصلاحياتِ للمحافظاتِ … الحصادُ المرّ

لن اجادلَ في أهميةِ نظامَ اللامركزيةِ، لأني مؤمنٌ اصلاً إنّه من أفضلِ أنظمةِ الحكمِ في العالمِ، كما لنْ اناقشَ النظريةَ كونها متكاملةً وتحلَ الكثيرَ من مشاكلِ المجتمعاتِ وتمَ تطبيقُها بنجاحٍ في العشراتِ من الدولِ، وكما قالت عنها منظمة (UNDP): “انّها أكثرُ من مجردِ عمليةٍ، بل هي طريقةٌ للعيشِ”، لكنّي أودُّ في هذهِ الورقةِ الإشارةَ الى بعضِ المشاكلِ والسلبياتِ التي رافقتْ التطبيقَ العملي لهذهِ النظريةِ في العراق وخاصةً على ضوءِ التعديلِ الثاني لقانونِ المحافظاتِ غيرِ المنتظمةِ بإقليمِ رقم (21) لسنة (2008)، وهي بالمناسبةِ لا تحتاجُ الى متخصصينَ كونها من الأمورِ التي يلاحظها المتابعُ للشأنِ العامِ فضلاً عن العاملين فيهِ، كما يمكنُ ان يلاحظَها المواطنُ العاديُ كونه يعانيَ منها أصلاً، ولهذا اقول:
من أهمِ مبادئِ اللامركزيةِ هي (للشعبِ الحقُ في المشاركةِ في تحديدِ نوعِ وكميةِ الخدماتِ العامةِ التي يريدها)، فمن المعروفِ أنَّ الناسَ هم الأدرى بما يحتاجونَ من مشاريعٍ وخدماتٍ في مناطقِهم وبالتالي لابدَّ من اشراكِهم في عمليةِ اختيارِ هذهِ المشاريعِ وهذا ما يوفرهُ نظامُ اللامركزيةِ، ولكن بالواقعِ لمْ تستطعْ السلطاتُ المحليةُ في المحافظاتِ تنشيطَ المشاركةِ الشعبيةِ في عمليةِ تحديدِ الأولوياتِ والمشاريعِ، ولمْ يتمْ اجراءُ لقاءاتٍ أو استطلاعاتٍ لبيانِ رأي المواطنينَ في تحديدِ تلكَ الأولويات وبالتالي معرفةِ آرائِهم فيما يحتاجونهُ من خدماتٍ، بلْ بالعكسِ حدثَ تدخلٌ من بعضِ المسؤولينَ المحليينَ في اختيارِ المشاريعَ بشكلٍ استنسابي لمحاباةِ منطقةٍ ما أو عشيرةٍ ما أو شخصٍ ما، وهذا سبّبَ ارباكٍ واضحٍ، خاصةً ان موازناتِ المحافظاتِ غيرُ كافيةٍ اصلاً لتغطيةِ كلُ هذهِ الطلباتِ، الامرُ الذي أدى الى العجزِ الكبيرِ في موازناتِ أغلبِ المحافظاتِ، والكثيرُ من المشاريعِ غيرِ المفيدةِ، وعدمِ رضىٍ واسعٍ بين صفوفِ الناسِ.
وهناكَ مبدأٌ ثانٍ هو (كلما اقتربَ مستوى تمثيليةِ الحكومةِ من الناسِ فإنها تعملُ بشكلٍ أفضلَ)، وعليهِ فقد تمَّ تشكيلُ المجالسِ المحليةِ في الدولِ التي تتبنى هذا النظامُ لضمان المشاركةِ الفعالةِ بحيث يصلُ مستوى المشاركةِ الى اصغرِ تجمعٍ سكاني، (في سويسرا مثلاً يوجد 2896 مجلسَ بلدةٍ، نصفِها يبلغُ عددُ سكانِها حوالي (840) نسمةً)، ولكن ما حصلَ ان السلطاتِ المحليةِ في المحافظاتِ قد استأثرتْ بالسلطةِ ولم تنقلها الى مستوياتٍ أدنى، ليس الى القرى والتجمعاتِ السكانيةِ الصغيرةِ كما هو مطلوبٌ، بل إنّها لم تنقلْها حتى الى السلطات المحلية في الوحدات الإدارية التابعة لها، وهنا لمْ تتحققْ إرادةَ المشرعِ ولم يصدقْ أسمُ اللامركزية عليها.
من أبرز مزايا اللامركزيةِ هو تقليلُ الروتين الحكومي واختصارَ الحلقاتِ الزائدةِ في الادارةِ، ولكن هذا يتطلبُ وجودَ كوادرٍ إداريةٍ وفنيةٍ وعلميةٍ كفؤةٍ وبعددٍ كافٍ لتلبيةِ الحاجاتِ المتزايدةِ لأبناءِ المحافظةِ، والسؤال: هلْ المحافظاتُ تتوافرُ على هذهِ النوعيةِ من الكفاءاتِ؟ يمكن لأي مُلاحظٍ متتبعٍ الإجابةِ على هذا السؤالِ بالنفي، لكونِ المحافظاتِ لمْ تعملْ على اعدادِ هذهِ الكوادرِ، رُغمَ أنَّ المشرعَ عندما سَنَّ القانونَ قد أعطى فرصةَ عامين للمحافظاتِ لكي تعدَّ هذهِ الكوادرُ، كيف يمكنُ لكوادرٍ فشلتْ في قيادةِ المحافظاتِ قبلَ نقل الصلاحياتِ ان تنجحَ بهذهِ الصلاحياتِ الكبيرةِ؟ وكانت النتيجةُ تراكمَ العملِ المكتبيِ وتباطؤِ عمليةِ اصدارِ القراراتِ كونها انتقلتْ وتركزتْ بيدِ شخصٍ واحدٍ ولمْ يخولْها الى المستوياتِ الإداريةِ الأدنى، بل أدى الى تدخلِ غيرِ المختصينَ في عملِ الدوائرِ المتخصصةِ، مثل الصحةِ، التربيةِ، الزراعةِ، … الخ، الامرُ الذي أدى الى الارباكِ الواضحِ في العملِ.
من مقوماتِ اللامركزيةِ أنَّ المحافظاتِ تستطيعُ تعظيمَ وارداتِها الماليةِ والتصرفِ فيها حسب احتياجاتِها الفعليةِ، (في جنوبِ افريقيا مثلاً، والتي يوجد فيها 284 مجلساً تمثيلياً، تستطيعُ تلك المجالسُ جمعَ الأموالِ والتحكمِ فيِها بنسبةِ %90)، لكن في ظلِ الظروفِ التي يعانيَ منِها العراقُ وانتشارُ الفسادِ (العراق يحتلُ المركزَ 169 من بين 180 دولةً حسب آخرِ تقريرٍ لمنظمةِ الشفافيةِ الدوليةِ)، سيكونُ هذا باباً جديداً للفسادِ ولانتشارهِ بالأطرافِ بعدَ أنَّ كانَ يتركزُ بمعظمهِ بالمركزِ، كونَ الأموالِ ستنتقلَ الى المحافظاتِ، ولا اعتقدُ أنَّ المسؤولينَ المحليينَ ملائكةٌ!
إِنَّ اللامركزيةَ تقومُ أيضاً على الاعترافِ بوجودِ مصالحَ وحاجات محليةٍ مختلفةٍ ومتمايزةٍ عن المصالحِ الوطنيةِ على مستوى البلدِ، وهذهِ المصالحُ تحددَها الجهاتُ التشريعيةُ المحليةُ عن طريقِ اعدادِ ستراتيجيةِ التنميةِ المحليةِ (PDS) التي تنفذُها الجهاتُ التنفيذيةُ عبرَ خططِ التنميةِ السنويةِ الشاملةِ (IPAPs)، ولكنَّ السؤالَ: أينَ هذهِ الستراتيجيةُ؟ وهل يعرفُها المشرعُ أصلاً؟ وهلْ تمَّ تنفيذُها من قبلِ الجهاتِ التنفيذيةِ؟ فيكونَ السؤالُ الكبير: أذن كيفَ تُميز وتُحدد مصالح وحاجات أبناء المحافظة؟
اغلب ُالدولِ لمْ تنتقل الى اللامركزيةِ بشكلٍ سريعٍ بلْ احتاجتْ الى وقتٍ طويلٍ نسبياً لكي تتوافقَ مع هذا النظامِ، كما حصلَ في اميركا وبريطانيا مثلاً، لكنَّ العراقَ انتقلَ من نظامٍ شديدِ المركزيةِ قبلَ عامِ (2003) الى نظامٍ لامركزي بعدهُ، وهذا الانتقالُ السريعُ غيرُ منطقيٍ بالمرةِ، فقد كانَ من الافضلِ انَّ يتمَ هذا التحولُ بشكلٍ تدريجيٍ وعلى مراحلَ متتاليةٍ لكي يتفهمَ المجتمعُ العراقيُ دورَهُ في الحياةِ الاقتصاديةِ والسياسيةِ، بعدَ انَّ كانَ معزولاً تماماً عن صناعةِ الاحداثِ، وبالتالي فإنَّ هذا التحولَ السريعَ وغيرَ المخططِ لهُ قد جاءَ بنتائجٍ عكسيةٍ سلبيةٍ على المجتمعِ، ولهذا فقد عملتْ بعضُ الوزاراتِ على نقلِ بعضِ، وليس كلُ الصلاحياتِ، على سبيلِ التجربةِ، ومع هذه الصلاحياتِ القليلةِ فقد سجلتْ بعضُ المحافظاتِ فشلاً ذريعاً، ومع ذلكَ فقدْ كانَ المسؤولون فيِها يريدونَ المزيد من الصلاحياتِ، اعتقدُ، أيها السيدات السادة، أنَّ المواطنَ غيرُ مستعدٍ لأن يكونَ حقلاً لتجاربِ السياسيينَ الفاشلينَ، مع العلمِ أنَّ موضوع نقل الصلاحيات ليسَ مطلباً جماهيرياً ولا يحوزُ على اهتمامِ المواطنين اصلاً.
والنتيجةُ: اللامركزيةُ من أفضلِ الأنظمةِ لكنَّ الوقتَ غيرُ مناسبٍ لتطبيقِها في العراقِ.

أحدث المقالات