22 ديسمبر، 2024 6:57 م

نقـدية المـــؤرخ وإشكالية التناول في الكتابـة التاريخية  – هشام جعيط فــــي كتابـه ” الفتنة ” نموذجاً

نقـدية المـــؤرخ وإشكالية التناول في الكتابـة التاريخية  – هشام جعيط فــــي كتابـه ” الفتنة ” نموذجاً

 ان مـا يعوق العرب اليوم ، هو تهيبهم من الخوض فـي امهات المسائل والقضايا .. وكثيــراً مـا اعتبرت بعض المسائل التاريخية من المقدسات التي لا تمس ، واذا  مـا تطرق اليها  بعض من جلّة العلماء الذين يحظون بالثقة والاحتـرام ، فكثيراً ما تحُنط المسألة وكثيراً ما يقدس الشيـخ ، وكثيراً مـا يقع الاحجام عن تنـاول هذا الموضوع او ذاك ، لأن القراء غالباً ما يعتقدون ـ وهو خطأ شائع ـ ان لا احد يستطيع ان يضيـف جديداً لما كتبه هذا الباحث او ذاك ، وهـذه الحال تنطبق على موضوع كموضوع ” الفتنة ” او ” الفتنـة الكبرى ” في التاريخ الاسلامي .
فقـد تناول هذا الموضوع البعض من كبار الباحثين العـرب ، اضافـة الى الكثيرين من اهل الاختصاص في اوروبا وامريكا وغيرها . ولئـن سعى هؤلاء الى الالمام بموضوع شائك كموضوع الفتنـة وتقديم قراءات فيها جرأة غير مسبـوقة . فهذا لا يعني ان الموضوع قد انتهـى امره او استنفذت الرؤى وزوايا النظر التي منها ينطلق البحث فـي هذه المسألة . فـالموضوع يظل حظيرة مفتوحة بل يمكن القـول انه حظيرة ليس من السهل اغلاقها او الشعـور براحة النفس وهناء البال ازاءها.
مـن هنا ابتداءاً .. اثـيرت العديد من الاسئلة حول : ما بواعث انبثـاق ظاهرة الاغتيال السياسـي ، وبالذات اغتيال الخليفة ؟ فمعروف ان ثلاثـة من الخلفاء الاربعة انتهوا مغتالين . . ومـا معنى التحكيم والشـورى والتحـالف والخديعة والمواثيق المبرمة والعقود المخروقة ؟ ما معنى العدالة فـي الاسلام الراشدي ؟ ومـا هي الفلسفات العديدة المتصارعة حول الحكم ؟ الى أي حد مـا يزال هـذا كله يثقل على عقليتنا السياسيـة الحالية وفهمنا لتفاعل السياسة والدين ؟ مـا هو الايجابي وما هو السلبـي في هذا كله ؟
هـذه الاسئلة بين اخرى كثيرة ينبغي ان يعالجها كل مؤرخ جدي يعكف على دراسة التاريخ الهجري الاول ، المـرحلة التأسيسية من تاريخ الاسلام .
مـعلوم ، ان منهج البحث التاريخي في تناوله لأي موضـوع اشكالي ، كمـوضوع الفتنة مثلاً ـ يتطلب تقييم المصـادر الاولية لمعرفة طبيعة المعلومات التي تقدمها ، واساليب المؤرخين الذين كتبوها ، وميولهم وولاءاتهم ، واثـر ذلك في ما قدموا من روايات . . ولابد للباحث ان يعرف من اين استقى المـؤرخون رواياتهم واخبارهم ثم مواقفهم منها من حيث النقد والتوثيق . وهـذا الامر ازداد اهمية في دراسة بعـض المعلومات والفترات لأختلاف الروايات ولتصارع الميـول والولاءات حولها ، مما يتعذر معه البحـث الجاد فيها دون هذا التقييم . وهذا يصدق بصـورة خاصة على موضوع ” الفتنة ” .
وقـد شاع ان المؤرخين العرب لا ينتقدون ولا يحللون ، وانهـم يكتفون بالنقل وبالسرد وهو رأي مـا يبرره في ظاهر الاشياء اذا اريد بذلك تحليـل الروايات والاستنتاج منها . فالمؤرخون يحذرون من الهوى في تناول الاحداث ، ويـرون في التحليل خروجاً على الموضوعية .. ولـكن هل يقف النقد والتقييم والتحليـل والاستنتاج عند حد انتقاء الروايات من مصادرها وتقييمها ، ام ان للمؤرخ اطاراً يضع فيـه الروايات التي ينتقيها ؟ وهـل يكتفي المؤرخ بنقل ما ينتقي ام انه يتصرف ببعضه ليناسب الوجهة التي يراها ؟
هـذا التساؤل يدعو الى عدم الاكتفاء بتقييم المصادر كلاً على حـــدة كسبيل لفهم ما جرى في ” الفتـنة ” مثلاً ، بل دراسة مصادرها دراسة مقارنة لتتبين وجهة كل من المؤرخين الذين تناولوها ، للتعرف الى منـاهجهم واساليبهم بصورة دقيقة .
ان هـذا المنهج يُمكن من التعمق في فهم احداث الفتنة من جهة ومن التعرف بصورة ادق على مـؤرخيها من جهة ثانية . ولعـل مثل هكذا دراسات تلقي الضوء على قيمة المصادر التاريخية الاولى في فترة بدأ البعض يشكك في مصداقية هذه المصادر وفي قيمة رؤياتها . ويدعي انها لا تمثل روايات الفترة التي تتحدث عنها ، بل انها من وضع فترة متأخـرة ، وتمثل اهواء تلك الفترة واتجاهاتها .
كمـا انطلق البعض في دراسة هذه المسألة من مقتل عثمان وأوصلها الى مقتل علي ، وهـو رأي فيـه كثير من السداد ، ولكـن هذا لا ينفي الرجوع بالمسألة حسب رأينا الى يوم السقيفة . وهـذا مـا يقترحه بعض من كتب في هذا الموضوع ، فـلا يمكن في رأيهم الكلام على الفتنة دون العودة بها الـى اصولها ، أي دون الانطلاق بها من يوم السقيفة ، ولعـله محق في ذلك . فالنصوص المصدرية تعطي رأيـه كثيراً من الوجاهة .

* الجــذور الأولى للفتنة
لـم يقترن لفظ بحدث في تاريخ الدولة الاسلامية مثلما اقترن بلفظ ” فتـنة ” بمقتل عثمان بن عفـان (35هـ/656م) وبالوقائع التي تلته ونتجت عنه . وقـد وصفت الفتنة غالباً بكونها كبرى لقتل المسلم اخاه المسلم لاول مرة فـي تاريخ الاسلام ، ولظهور العصبيات الجاهلية القديمة تحت غطاء الدين بعـد ان خمدت نارها مرة اولى بعد فتح مكة (8هـ/629م) ثم ثانية بعد حروب الردة في عهد ابي بكر الصديق . فـلم يعرف التاريخ الاسلامي في مختلف مراحله فتنة بهذا الحجم .
ولـئن حددت الفتنة تاريخاً بمقتل عثمان ثم بوقعتي الجمل وصفين ووقعة النهروان ، فـأنها قد بدأت فعلاً في نظرنا مباشرة بعد وفاة النبـي ، اذ عظمت بوفاته مصيبة المسلمين ، كمـا تقول عائشة زوج النبي واجتماع السقيفة كان مؤشراً اول لنشؤ الخلافات من اجل الخلافة بين المهاجرين والانصار .
كـان اجتماع السقيفة سنة (11هـ) مؤذناً اول بتفرق الامة ، وهو يمثل مرحلة فاصلة بين عهدين ، عهد النبوة في اجلى مظاهره وعهد الخلافة بايجابياته وسلبياته . ورغم اهمية هذا الحدث ، فان الدارسين لم يعيروه من الاهمية مـا يكفي ، لانهم ربطوا مفهوم الفتنة بأراقة الدم وتكفير المسلم اخاه المسلم ، كمـا ربطوه بظهور الفرق الاسلامية عامة وفرقة الخوارج بصفة خاصة لما كـان بينها وبين علي من خلافـات ادت الى اراقة الدماء وموت مئات المسلمين من الطرفين في معركة النهروان ، ولئـن خلا اجتماع السقيفة من سفك الدماء فانه زرع فـي النفوس البغضاء والحقد وجعل المسلمين شقيـن ، شق الانصار وشق المهاجـرين ، والانصار اوس وخزرج وهمـا قبيلتان متناحرتان متباغضتان في الجـاهلية ، طامحتان الى السيادة بعد الدخول في الاسلام .
والسـيادة غير السيادة التي كانت في الجاهلية ، وذلك ان السلطة قبل الاسلام كـانت لا تتجاوز امـر القبيلة ، وستكون بعد الاسلام سيادة على الخزرج والاوس لو آلت الامور الى سعد بن عبادة الانصاري .
إمـا المهاجرون ، فبعضهم من قريش مثل علي وعثمان ، وبعضهم من قبائل صغرى من قريش مثـل ابو بكر وطلحة من تيم وعمر وسعد بن زيد من عديّ وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ابي وقـاص من زهرة ، والزبير بن العوام من اسـد ، وابو عبيدة بن الجراح من فهر .
وحتـى الذين من قريش ، فهم ينتسبون الى عشيرة عبد مناف الابن الثاني لقصي وهذه العشيرة منقسمة بدورهـا الى فخذ هاشم الذين سيعرفون فيما بعد بالهاشميين ، ومنهم النبي وعلي وفخذ عبد شمس الذين سيعرفـون بالأمويين نسبة الى أمية بن عبد شمـس ، ومنهم عثمان ومعاوية .
فـي اليوم الذي توفي الرسول وبقيت الامة بلا خليفة او امام  ، وجب ان ينتخب لها المسلمون خليفــة او اماماً . وقـد نظر المحدثون والفقهاء فيما بعد في فكرة الامام الجائـر لمدة خمسين سنة يكون خيراً  من امة بلا امام سـاعة واحدة من النهار. ولكـن ضرورة الاسراع بتعيين خليفة للمسلمين لـم تمر بلا جروح .
ففـي اللحظات الاولى من بعد وفاة الرسول وقبل مواراته التراب ، اجـتمع الانصار بسرعة تـكشف عما في صدرورهم للبت في امر الخلافة وقطع الطريق على المهاجرين حتى لا يطلبوها . فكان ذلك بدءاً لنشـوء الفتنة الذي يبدو انه سيؤسس الى اختلافات وضغائن واحقاد لن تموت ما دامت السلطة محـل اطماع وتنازع ، وليس اول على ذلك من سعـي الانصار الى اقتسام السلطة بصورة تناوبية (منا امير ومنكم امير) او بصـورة هرمية (من المهاجرين الوزراء ومن الانصار الوزراء) فـلم يكن عدم الانسجام واضحاً بين المهاجرين والانصار فقط وانما برز المهاجرون في شكل مجموعات غير متجانسة يمثلها آنـاس من كبار الصحابة والمقربين من النبي مثل طلحة والزبير وعلـي بن ابي طالب .
 ومهـما كانت المبررات التي تقف وراء غياب علي يوم السقيفة ، فالمؤرخ لا يمكن ان لا يتأول هذه المسألة بما يراه مناسباً او بما يعتقد انه مبرر كافٍ للاقناع .
الحـضور والغياب لهما دلالاتهما السياسية والاجتماعية . وهو ما يوصي  بأن الاسلام لم يوحد الناس بشكل نهائـي اذ لا يزال الناس على قبليتهم وعلى انتماءاتهم المختلفة وكل منهم يـرى نفسه احق بالخلافة من غيره حسب الاسباب اني يراها تبوئه هذه الاحقية .
لقـد قادنا النظر في النصوص القديمة ومقارنة بعضها ببعـض ، الى ان نرجع جذور الفتنة لا الى سنـة مقتل عثمان بل الى اجتماع السقيفة سنة (11هـ/632م) الـذي كان في نظرنا نقطة البداية للتصـدع الذي حصل في كيان الامة الاسلامية ، والنبـي لم يوار التراب بعـد . فقد انقسم المسلمون من جـديد في السقيفة الى مهاجرين وانصار بعد ان آخـى الرسول بينهم وعاشوا فـي وئام اثنتي عشرة سنـة .
وكـان اعلان سعد بن عبادة في اجتماع السقيفة عن مشروعـه السلطوي في غياب كبار الصحابه المهاجرين آيذاناً ببداية الفرقة وظهور الفتنة ، فقد طلب الانصار الخلافة لانفسهم وأصر المهاجـرون على الا يكون الا فيهم ولم يرضوا حتى بالتداول عليها مثلما اقترح الانصار (منا امير ومنكم امير) ، فلـم يكن الخلاف بين المسلمين يومها بالبساطة التي تتبـادر الى الذهن حتى وان حسم الخلاف دون اراقة دمـاء . فليس خافياً علينا ان سعد هيأ كل الظروف لتكون الخلافة من نصيبه من ذلك اختيار المكـان واعداده لخطبة ألقاها باسمه ابنه امام المجتمعين في السقيفة يبرز فيها خصال والده ويدعوهم فيها الـى مبايعته .
فقـد كان سعد حامل راية المسلمين في فتح مكة ، وهـو الذي عذبته قريش بعد بيعة العقبة ، وصبـر على ذلك نصرة للدين الاسلامي ، كمـا كان الناطق باسم الانصار لدى الرسول أثـر غزوة حنين عنـدما حرم قومه من نصيبهم في الغنائـم ، ووزعت على قريش وقبــائل اخرى باستثناء الانصار ، فأعلى النبـي من شأنه وشأن قومه بقوله : (( لو سلك الناس شعباً وسلكت الانصار شعباً لكنت من شعـب الانصار)) فـكانت هذه المزايا مشجعة له لطلب الخلافة زيـادة على مزايا اخرى عرف بها الجاهليـة يشهد له بها الخزرج واعداؤهم الاوس . ولمـا أفشل الثالوث القوي ابو بكر وعمر وعبيدة بن الجراح مشروع ابن عبـادة ، غادر هذا الصحابـي الاجتماع ولم يبـايع ابا بكر الى ان مات .
كمـا لا يخفي علينا ان بعضاً من الصحابة من اولـي الفضل والسابقة والمآثر .. كانوا يتوقون الى منصب الخلافـة ، فاعتبروا تعيين ابي بكر تجـاوزاً لهم وتقليلاً من شأنهم . وهـذا ما أعلنه صراحة علـي بن ابي طالب الذي كان مشغولاً بغسل النبـي وتجهيزه وقت انعقاد الاجتماع ، فـلم يبايع ابا بكر الا بعد ايام من مبايعة المسلمين له .
وكـان يرى نفسه احق بالخلافة من كل الصحابة بـاعتبار السابقة والفضل والقرابة بالنبي ، فهـو ابن عمه وزوج ابنته فاطمة ، زيادة على كونه تربى على يديه وهو حسب الشيعة اول من آمن من الرجال بـالرسالة المحمدية بعد خديجة ، وهو فوق كل ذلك هاشمي من قريش وابو بكر من تيم ، احدى قبائل قريـش الصغرى .
فـلئن فضت المشاكل الناجمة عن اجتماع السقيفة دون اراقـة دماء ، فانها خلقت في النفوس شعوراً بالضيم والحيف والتجاوز ، بـل كانت مصدراً من مصادر الفتنة التي لم تستعر نارها الا بعـد سنـوات قليلة من اجتماع السقيفة . وليـس كل فتنة آيلة الى قتل كما نص على ذلك القرآن . ولذلك كله اعاد بعـض الباحثين النظر في الجذور الاولى للفتنة الكبـرى ، واستنطق نصوصاً لـم يَفَها الدارسون حقهـا من الاستنطاق ، فوجدوا ان الخلاف بين المسلمين لا بيـن القبائل التي اشرأبت اعناقها الى السلطـة ـ على حد قول عائشة بنت ابـي بكر وزوج النبي ـ كـان على اشده بُعيد وفاة الرسول . فقد تـاق اليها زيادة على سعد بن عبادة الانصاري وعلي بن ابـي طالب الهاشمي ، طلحة بن عبيد الله ، وهـو من تيم التي ينتمي اليها ابو بكر . كما ارادها لنفسه الزبير بن العوام من بني عبد العُزَّى ، وهو الموسوم بحواريّ الرسول ، وامـه عمة النبي . ولم لم يرتضها لنفسه عثمان بن عفان الامـوي وسليل بني عبد المطلب مـن جهة النساء ، وخَتـَنُ النبي ، وأحد المسلمين الاوائل . وقد اكدت بعض المصادر ، ان العـباس عم الرسول سعى الى ان يُوغـر صدر علي على ابـي بكر ، فدعاه الى ان يمد يده لكي يبايعه . وكـذلك ، فعل ابو سفيان بن حرب عدو الاسلام والمسلمين قبل اسلامه عندما دعا علياً بدافع النعرة القبلية الى عدم مبايعة ابـي بكر .
ان هـذا التململ الكبير في صفوف كبار الصحابة وفي صفوف من سيؤول اليهم تدبير شؤون الدولـة الاسلامية في المستقبل ، سيحدث شرخ في كيان هـذه الدولة وسيكشف بجلاء عن هذا الشرخ اجتماع اهـل الشورى بعُيد موت عمر لاختيار خليفة المسلمين من بيـن ستة صحابة كلهم من قريش وكلهم بـدريون باستثناء عثمان الذي ألحقه الرسول بهم كلهم من اهـل السابقة والفضل ، وممن لم يحمـل السلاح على نبي الله ، وممن فارقوه وهو عنهم راضٍ . وستقضي اعمال هذا المجلس الى نتيجة غير مرتقبة مـن آل البيت ، لان فيها ارضـاء لبني أمية وأقصاء من جديد لبني هاشم الذين حرموا من الخـلافة في السقيفة لتكون الكلمة الاخيرة للسابقة والفضل على حساب القـرابة بالنبي ، واقصوا عنها بعد مقتل عمر اعلاء لمبداء الشـورى ، ودعماً للمسار الشوروي الذي دعــا اليه عمر وطبقه عبد الرحمن بن عوف .
كـل هذه الاحداث والمواقف قـد ولدت ضغينة وحقداً وشعـوراً بالضيم والحيف وساهمت مع مـرور الزمن في تعميق الخلاف بين المسلمين وتلويـن الفتنة بألوان متعددة ، فأذا الفتنة في حقيقـة الأمر فتن متـعاقبة ، لا تهدأ واحـدة حتى تظهر اخرى دافعة المسلمين الى الافتراق حيناً والى الاجتماع حيناً آخر ، والى اللجوء الى العنف والقوة طوراً والى المفاوضات والحلول السلمية طوراً آخر .
وقـد دفع المسلمون جميعاً ضريبة هذا الامر فـي وقعة الدار وفي معركة الجمل ، كما دفع الخـوارج أثر التحكيم في صفين ضريبة شق عصا الطاعة على الخليفة علي وتكوينهم لحزب معارض للنظام الحاكم .
حـدثت اذن بين سنة (11هـ) وهي سنة وفاة النبي وانعقاد اجتماع السقيفة وسنة (40هـ) وهـي سنة مقتل علي ، احداث جسام قتل فيها المسلم اخاه المسلم ، واغتيـل فيها صحابة من الرعيل الاول مـن ذوي الفضل والسابقة وقادة جيوش وسادة قبائل وقراء للقرآن ، وانـقسمت بين هذين التاريخين فـي فترة خلافة علي بالخصوص ، الامصار ، الى امصار موالية للنظام المركزي بالكوفة وامصار مناهضة معادية ، وطفـت من جديد على السطح السياسي المصالح الذاتية والعصبيات القديمة تحت غطاء الديـن ، وبدعوى العمـل بكتاب الله وتعاليمه ونصرة الحـق والعدل والاقتداء بسيرة ابـي بكر وعمر .

* نصـوص السقيفـة
 هـناك نصوصاً لم تستنطق ، وهـي على غاية من الاهمية تشهد بأن الفتنة قـد بدأت قبل سنة (35هـ/656م) فقـد اورد المؤرخون وغيرهم من الرواة نصوصاً مهمة لا يمكن اغفالها مهما كانت الرؤى ومهما كـانت التساؤلات حول هذا الموضوع ، وهـي معروفة بنصوص السقيفة . وهي نصوص متعـددة الروايات ولكنها تجمع على انفصام الامة واختلاف الزعـامات حول مسألة الخلافة .
 فقـد انقسم المسلمون الى فرق ونحل ، واستعد كـل من رأى نفسه الأحقية و وراءه رأفَّـة من القـوم تسند ظهره للمطالبة بالخلافة لنفسه .
فيمـا يأتي ايراد لاهم هذه النصـوص :
ـ النص الاول : ذكـره ابن هشام (السيرة ج4/ص654) يقول النبي (( ايها الناس سعرت النار وأقبلت الفِتنِ كقطع الليـل المظلم وأني والله ما تمسكون عليّ بشيء ، انـي لم احِلَّ الا ما احلَّ القرآن ولم احرم الا ما حرّم القرآن)) .
ـ النص الثاني : ذكـره البلاذري (انساب الاشراف ج1/ص581) ويتضمن قولة لللانصاريين معن بن عدي وعويم بن ساعدة ، وكـانا من اصحاب ابي بكر المخلصين ، قالاها يوم قبض الرسول واستعد الانصار لمبايعة سعد بن عبادة جاء مـا نصه (( بينا المهاجرون في حجـرة رسول الله وقد قبضه الله اليه وعلي بن ابي طالب والعباس منشغلان بعد اذ جاء معن بـن عدي وعويم بن ساعدة فقالا لابي بكر ” بـاب فتنة ان لم يغلقه الله بك فلن يغـلق ابداً ، هذا سعد بن عبادة الانصاري في سقيفة بني ساعدة يريدون ان يبايعوه ” .
ـ النص الثالث : ذكـره البلاذري ايضاً على لسان ابي بكر عند مبايعة علي له بالخلافة قال (( سمع العباس وعلـي التكبير في المسجد ولم يفرغوا من غسل رسول الله ، فخـرج علي يقول يـا أبا بكر ألم تر لنا حقاً في هذا الأمر ؟ قال ـ بلا ولكنـي خشيت الفتنة ، فقال علي ـ كان لنا حق ولم نستشر والله يغفر لك )) وبايعه .
ـ النص الرابع : يتعـلق بموقف عمر بن الخطاب من سعد بن عبادة بعد ان بويع ابو بكر وفسد مشروع سعد السلطوي . جاء في (انساب الاشراف) ان ابا بكر لما انتهى من القاء خطبته في اجتماع السقيفة بايعة عمر وبايع الناس وازدحموا على ابي بكر فقالت الانصار (( قتلتم سعداً وقد كادوا يطرحونه ، فقال عمر ” اقتلوه فانه صاحب فتنة ” .

* جعيط وكتابه الفتنـة
 يـعد كتاب هشام جعيط من اهم ما كتب حديثاً في هذا الغرض . فقـد تناول مسألة مهمة في تاريخ الاسلام والمسلميـن ، وهي مسألة الفتنة الكبرى ، وهـي وجهة نظر جديدة في مسألة الفتنة الكبـرى تتناسب وظروف العصر ، فلعلنا نفهم ماضينا بصورة تسمح لنـا بالاعجاب به ، فنحن معجبون بالماضي الى النخاع حتـى اننا لا نستطيع ان نتجاوزه كما لو ان مستقبلنا لا يـوجد الا في ماضينا وانما بتفهمـه وتفحصه للمضي قدماً في صنع التاريخ والمساهمة في بنـاء الحضارة الانسانية مثلما ساهم الاوائـل .
 وقـد ساعد تكوين جعيط الاكاديمي من ناحية وتخصصه فيمـا يعرف بالتاريخ الوسيط للدولة العـربية والاسلامية من ناحية ثانية على دراسة الفتنة الكبرى دراسة علمية معمقة ومن حصر اهم خصائصها وابعادهـا السياسية والدينية والفكرية . ولـكن جعيط اغرق في نظرنا في التفاصيل التي استخـرجها بصفة خاصة من (انساب الاشراف ـ للبـلاذري) ومن (تاريخ الامم والملوك للطبـري) زيادة على كونـه ربط الفتنة على عكس ما نرى بأراقة الدم متخـذاً من مقتل عثمان بداية لظهورها بين المسلمين .
 ولئـن كان مقتل عثمان وما سيعقب ذلك من هزات منعرجاً خطيراً في تاريخ الدولة الاسلامية الفتيـة ، فانه لم يكن منطلقاً للفتنة بقدر ما كان نتيجة من نتائج ظهورهـا بين المسلمين الاوائل عقب وفاة الرسـول في اجتماع السقيفة الذي خلف في النفوس الحقد والضغائن ، واعلن عن بداية الفرقة . وهـي ضغائن واحقاد ستظل تنمو وتتجذر في النفـوس الى ان آلت الى ما آلت اليه فتفجرت الاوضاع بمجرد اتهام الخليفة الثالث بـاعراضه عن طريقة الشيخين .
 لقـد قصد جعيط في كتابه ، كمـا يقول : هو وضع كتاب رجل تربى في كنف التقليد الاسلامي ، عليه ان يكـافح في وقـت واحد ضد الرؤية التقليديـة للأمور وضد حداثة تبسيطية . لقـد ساعدني التـاريخ ، التاريخ الصحيح والتقويم في هذا المشروع الصعب حين جعلني أقيم مع هذه المرحلة التأسيسيـة للهوية الاسلامية ، علامة معرفية يخترقها التعـاطف والتوادد في اعماقها حيث يتمازج المعرفي والمعاش ، العـلم والحياة ، ان احياء جانب من التاريخ الاسلامي في حقيقته وكثافته ، انما هو جـزء من مسيرتي الوجودية الطويلة . فهـل وجدت دائماً النيرة الصحيحة ، وهل اوضحت المسائل على الدوام ، وهـل تسلحت دائماً بحكم شديد .
 ان مـا قام به المؤرخ والمفكر العربي التونسي هشام جعيط فـي كتابه الاختلافي(1) الصادر بالفرنسية اولاً وبالعربية تـالياً ، يكشف عن طبيعة الروايـات ويغني البحث التاريخي . وقد اعتمدنا في دراستنا هـذه للكتاب على الطبعة الفرنسية دون العربية ، كونهـا تحوي مقدمة منهجية تحليلية لمادة الكتـاب ابتسرتها الطبعة العربية .
 كتـاب جعيط هذا ، أثار وقت صدوره وما زال اسئـلة عديدة كأي كتاب هام يقاس بأهميته بحد ذاتـه اولاً وبضخامة الاسئلة التي يثيرها في مجاله المعرفي ثانياً . من هذه الاسئلة ما يتعلق بمنهجية كتابة التاريـخ المتبعة من لدن المؤلف ، ايثـاره السردية الحكائية المشبعة بالتساؤلات والتحليلات والمتـوفرة على جاذبية للكتابة ، منهـا ايضاً ما يتعلق بتقييمه الخاص للوقائع وبعض الشخصيات .
 لقـد بدأ جعيط التفكير بموضوع الكتاب والتهيئة له منذ عام 1962-1963 . فمنذ تلك الفترة والقـرن الهجري الاول وفتنته تشغلان تفكيره ، يطـرح اسئلته الاولى على وعيه كمفكر ومؤرخ شاب .
 ولمـا لا . الموضوع كبير (الفتنـة) بلا نعت ولا صفة او ما اسماهـــا المرحوم طه حسيـن بـ الفتنـة الكبرى . تلك التي ادخلت امة محمد اليافعة في دوامة من الازمات والحروب الضاربة والانشقاقات الدينية ـ السياسية .
  هـذه الفتنة لازالت حاضرة في الوعي الاسلامي كمرجعية ، كعـلامة من كبرى علامات التاريخية الاسلامية ، لكنهـا غير معروفة حقاً في آلياتها وتطوراتها ، فهي قد جرت في فترة الخلافة الراشـدة التي يعتبرها المسلمون كفترة رحم ذات معنى سامي ، وكمثل اعلى للحكم الخليفــي الحق والعادل ، انمـا توجد ايضاً تيارات تدين الاسلام المبكر ، اسلام الاصول ، بسبـب هذه الفتنة ذاتها ، وتشير ببنـاه الى كل هذا الخضم من التناحر والتقاتل حتى يصل بها القـول : ان هذا الاسلام انما هو اسـلام سياسي حسب ، بل هو عهد المحسوبية والتنـافس على الحكم والعنف المرير .
 ان اهـم ما ركز عليه جعيط في كتابه بوجه خاص هو الخلافـة الاولى ومرحلتها الاخيرة (الفـتنة الكبرى) التي شهدت طيلة خمسة اعـوام وحتى اكثر ، تمزق الامة . وهذا ما حاول دراسته ومعاودة قراءتـه في مختلف تطوراته وشتى اشكاله ، فهـذه الحقبة حقبة الازمة اولاً والحروب الاهلية ثانيـاً التي دارت في النصف الثاني من خلافة عثمان حتى اغتيــال علي وارتقاء معاوية بعد ذلك بقليل الى سدة الخلافة الاسلامية وبـالتالي حتى تأسيس الدولة الاموية .. إنمـا كانت حقبة أمْاَّ لانها اثارت انقسامات الاسلام الكبـرى بين مذاهب السنة والشيعة والخوارج مباشـرة او على امد قريب او بعيد حتى ان فـي الامكان ان تعُزى الى تلك الحقبة الام ، كل تطورات الاسلام السياسي والاسلام الديني تقريباً وامتداداتهـا في العصر الكلاسيكي الطويل .. قيـام الدولة الاموية ، النزاعات السياسية – الدينية في القرن الهجري الاول ، إطـاحة العباسيين بتلك الدولة ، وبالتالي تصور جـديد لتوازن القوى الايـديولوجية والاثنية ، ادى في القرن الثالث الهجري /التاسع الميلادي الى طرد العرب واستبعادهم من ساحة السيـادة التاريخية .
 هـنا يقف المؤرخ ليدرس الحقائق في الأعماق ، مـا الذي كان يسري تحت الفتنة ؟ هـل يمكن لنـا ان نتفهمها بتحليل دقيق ونقدي للمصادر ؟ مـا هي التغيرات الاجتماعية ، وتصورات القوى السياسيـة والقوى الدينية على السواء ؟
 لعـل دراسة الفتنة التاريخية قد تحولت في بعض الأحيان الى فتنة باحثين وقراء لانها من المـواضيع التي تعيد الى الوعي كثيراً من المشاعر والأفكار الكامنة في باطن النفوس ، ولانها مسألة مركزية في تـاريخ العرب والمسلمين .
هـل منها ولدت الانقسامـات المعاصرة ؟
هـل حسم مسألة انتقال السلطـة من سقيفة بني ساعدة كان هو السبب في تكدر الخواطر واندفان الضغائن ؟
الاخبـار عن الفتنة الكبرى التي هزت الدولة الاسلامية وهـي في اوج قوتها وعز سؤددها كثيـرة جداً توزعتها كتب التاريخ والطبقات والتراجم وقـد تلونت بشتى الالوان لاختلاف الروايات وتصارع الميول والـولاءات .. فلا يُعدم المؤرخ معلومات في (انساب الاشراف) للبلاذري ولا فــي (تاريخ الامـم والملوك) للطبري ولا في غيرها من المصادر الاساسية عن مقتل عثمان بن عفان الخليفة الراشدي الثالث وعما نتج عن ذلك من تكـريس للاغتيال السياسي في صفوف المسلمين من اهل الفضل والسابقة ، ومـن ظهور للعصبيات القديمة ولبعض الجاهلية التي منها الاخذ بالثأر تحت غطاء الشرعية وبـدعوى اقامة الحدود ومن تبلور لمفهوم المعارضة فـي صفوف القراء المتصلبين الذين صاروا على حد قول جعيط (( على علاقـة متينة بالنص القرآني الذي خّول لهم انطلاقاً من فهم مخصوص تجاوز الدولة بـاعتبار امتلاكهم لهذه المرجعية الدينية الاولى التي تفوق كل المرجعيات )) .
وقـد اعتمد الدارسون المحدثون الذين أكبوا على دراسة الفتنة الكبرى على هذه المصادر الاسـاسية منطلقين في التاريخ لها بمقتل عثمان غاضين النظر في اغلب الاحيان عما سبق سنة (35هـ/656م) من احداث ، وكـأن مقتل ذي النورين لم تمهد له ولم تُعن عليه سوى تصرفاته في السنوات الست الاخيرة من خلافته . وهـي اقوال وافعال عابها عليه جمهور المسلمين عامة وقراء الـكوفة بصفة خاصة ورأوا فيها زيغاً عن طريقـة الشيخين أبـي بكر وعمر .
وعـن ذلك تقول بعض المصادر الخارجية النادرة (( .. فعمـل عثمان بالحق ما شاء الله ست سنيـن وهو في ذلك دون صاحبيه والمسلمون لـه مجامعون ومؤازرون يعلمون ان طاعته عليهم واجبة حتى بسطت له الـدنيا وفتحت له خزائن الارض فاحدث احداثاً انكرها المسلمون ولم يعرفوها من سيرة نبي الله ولا من سيرة ابـي بكر وعمر من تعطيل الحدود وادالة المال بين الاغنياء واستعمـال السفهاء من قرابتـه وتحريف كتاب الله ، ونفي ابي ذر الى الربذة ، وضرب عمار بن ياسر الى ان فتق بطنه ، وضرب عبد الله بن مسعود الى ان كسـر اضلاعه ومات من ضربه . ومن ثم كـان تآلبهم عليه والفتك بـه في وقعة الدار ))(2) .
المصـادر تقدم لنا مادة خاماً فحسب ، وهذه المادة متأخرة بأكثر من قرن عن الإحداث . فـالمؤرخ يغربل ويصفي ، لكن دون أن يبتعد عن دقائق الأمور . هـو يحاول التفهم والربط وسير المنطـق الذي حكم هذه الفترة المتشنجة ، ولذلك نجده يبتعد عن التـأويل المجحف بقدر ما يبتعد عن السرد الرتيب ، إنمـا يحاول عبر روايته للإحداث ان يدس فيها تحليلاته وتأويلاته .
يـقول جعيط : نعرف جميعاً اشياء كثيرة عن الخلفـاء الراشدين ، فهذا التاريخ بمعطياته الايجابية والسلبية قـد غذانا ، الا انه كلما تقدم في البحث كان يكتشف الحاجة الى اعادة النظر في أشياء وأفكـار يتفق عليها الجميع ، فهـي مكرسة مثبتة وجامدة إلى هذا التعميم القديم العهد على مـراجعة القرن الأول انضافت لـدى الشروع بالكتابة عناصر للرغبة أخرى .
هنـاك أولاً الرغبة بأن يقدم للجمهور في مختلف فئاته ومستوياته رؤية واضحة لتلك الحقبة المعقدة والتي هـي بالنسبة إلى المسلمين حقبة اساسية مـا فتئوا يرجعون اليها باعتبارها مرحلة تأسيسية . وهناك ايضاً الرغبـة بإثراء المعرفة في المجال الإسلامي .
ولـكن هناك ايضاً قراءة لعهد الخلافة القديمة الاولـى حركتهما معاً لحظة الفتنة الدامية التي اقتـادت اهل السنة فيما بعد الى اضفاء القدسية على كل المرحلة حين اعلنوا الخلفاء الاربعة كخلفاء راشدين وجعلـوا قسماً من عقيدتهم هذه الاعتراف به جميعاً فـي سياق تعاقبهم على الخلافة ـ ابو بكر ، عمر وعثمان ثـم علي .
ان تـلك الظاهرة هي التي قادة التشيع للتكون للتطور ثم للاستقرار فـي مختلف فروعه ، التشيـع الذي لا يعترف الا بـ علي كخليفة حقيقـي مسقطاً الاخرين في الرفض والانكار .
اخـيراً مذهب الخوارج لا يعترف خلافاً لأهل الشيعة والسنة الا بخلافـة الشيخين الخليفتين ما قبـل الفتنة ، أي ابي بكر وعمر .
لقـد استقر الوجدان الاسلامي عبر العصور على تلك المرحلة الاستثنائيـة لينهل منها معنى ما معتبراً انهـا كانت امتداداً للميتا تاريخ النبوي المحاط بهالة روحانية وانها مثلت الحكم الحقيقي حكم الخلافة الحـق والشرعية .
كـان جعيط ، شديد الاهتمام بهذه الفتنة في الاسلام الاول ، فـي حركتها الصاعدة منذ الازمة فـي عهد عثمان حتى المعارك الملحمية التي دارت في البصرة وصفين . فقد كانت اكثر من حرب اهليـة او حرب دينية . انهـا مركب قوي راح يهز عناصر لا متناهية وشيء مـا تطور وطور بُني وتراكيب بـالغة التنوع تكاد تكون حديثة مثل ولادة الاحزاب ومؤتمـر التحكيم . ومثلهـا مثل الثورات الكبرى كان للفتنة ايقـاع لاهث وكانت تشرف عليها سماء الافكار وقد اقحمت في مشروعها الاعداد الهائلة من البشر وبـالتالي وسعت مفهوم السياسي .
لقـد حاول جعيط ان يمارس تاريخاً تفهمياً الى حد بعيد ، وان يغـوص حتى قلب المناخ الذهني والعقـلي للعصر ، وان يسعى لفهم كيفية تفكير اهله وما كانت عليه اصنافهم ومقولاتهم وقيمهم ، وحتى انه حـاول الكلام بلغتهم ، ومن ناحية ثانية فان جعيط  حين حاول ان يدرك بوضوح كثرة المعطيات ، وان يحلـل البنى ، وان يكتب تاريخاً شمولياً ، انمـا اراد ايضاً ان يروي ان يخبر واكتنه من خلال الرواية هـذه المرحلة الغنية بالرجالات والاحداث وتوصل في نهـاية المطاف الى ان يعيش مع هؤلاء الناس وهاته الاحداث .
انـنا نجد مؤرخين للاسلام كثيرين سواء في الغرب او في العالم الاسلامي نفسه ، ومع هذا فـالمؤرخ لا يخامره الانطبـاع بأن الحقبة المعنية قد درست جيداً . فقد اكد جعيط ، انه لا يعرف في اللغات الاوروبية كتـاباً واحداً عُنى عناية كافية بهذه المرحلة التي يعود اليها تصور الامة الاسلامية والتي غذت المتخيل الجماعي . وقـد ذهب الاعتقاد ، الى ان بعض المستشرقين ممن اهتم بالموضوع قد توصل فـي بحثه عن تاريخ الفتنة الكبرى الى ضبط منطلقاتها الاولى وتبين اسبابها الظاهرة والخفية .. ولكنهم لم يتجاوزوا النظـر في السياقات التي ظهرت فيها لفظة فتنة دون محاولة جادة لفهم الاسباب التـي ادت الى تصدع كيان الدولة الاسلامية وهـي في عز سؤددها . فلـم يرجعوا بالفتنة الى ما قبل مقتل عثمان وقصرها على معناها المتـداول : حرب اهلية واضطرابات كبرى . وهـو فهم قاصر في نظرنا لان جذور الفتنـة الكبرى وارهاصاتها الاولى ـ كما اسلفت ـ قـد سبقت مقتل عثمان بحوالي خمسة وعشـرين عاماً .
ان كتـباً عديدة وضعت في شخصية الرسول ، وتواريخ كثيرة للاسلام ، لكن ليس ثمة عن الراشــدين دراسة جامعة واحدة . وحده طه حسين عكف على قراءة هذه الفترة فـي كتابة ” الفتنة الكبرى ” (3) وعدنان محمد ملحم في كتابه ” المؤرخون العرب والفتنة الكبرى ” (4) حيث تناول دراسة مواقف اربعة مؤرخين عاشوا القرنين الثالث والرابع الهجريين . ودرس خلفياتهم الاجتماعية والثقافية والسياسية ، وبحث فـي مصادر رواياتهم عن ” الفتنة ” وميول رواتها واتجاهاتهم ، واثر ذلك على مواقفهم منها . واوضح مفهوم ” الفتنـة ” عندهم ، واكد وجود ترابط وثيق بين تراث المؤرخين الفكري وعلاقاتهم السياسية واتجاهاتهم . وكـذلك كتب محمد المختار العبيدي ” قراءة جديدة للفتنة الكبرى “(5) الذي ارجع الفتنة الكبـرى الى يوم السقيفة وليس الى يوم مقتل عثمان واوصلها الى مقتل علي .
يقول جعيط ، عن كتاب طه حسين ” الفتنة الكبرى ” انه عندمـا اعاد قراءته لدى شروعه بوضع كتابه ، لفـت انتباهه مرة اخرى طابعه الادبي العالمـي ، ولاحظ فيه ايضاً تقدماً كبيراً بالقياس الى المعرفة التاريخية . ومع هـذا فلم يشعر ازاءه بالاكتفاء حقاً .
ان كلمـات : كالاكتفاء او الارتواء او الشبع .. هي هنـا في مكانها تماماً . فقد كان الامر يتعلـق بجوع ، بعطش ، بفهم التـاريخ .. تاريخ ، نجدنا مجابهين فيــه بموقفين متكاملين في قصورهما ، متكاملين في سلبيتهما . هناك اولاً ازدراء الغرب الصريح احيـاناً لتاريخنا القديم منه والحـديث . وثانياً النرجسية المضخمة لدى العرب ومغالاتهم في تمجيد الماضي من دون معرفة حقه بدقائقه وتفاصيله . هـذا كله دفع المؤلف جعيط الى تجريب بحث علمي ، واثبات ، ان وضع دراسة تاريخية للقـرن الهجري الاول ممكنة تماماً .
ان اشكـالية الروابط بين الدين والسياسة من خلال دينامية الفتنة كانت على امتداد هذا الكتاب مـركز اهتمام المؤلف وشواغله ، تجعلنا نطرح الاسئلة : هل كان الأمر متعلقاً بصراعات سياسية ام بصراعات دينية ؟ هـل كان يتعلق بسلسلة مطامح من هنا وهناك ، بغية الاستيلاء على الحكـم ، أم انه كان متعلقاً بـأهواء وانفعالات دينية خالصة ؟
إن الأمـر يتوقف على مراحل تطور الفتنة ، كما يتوقف ايضاً على المتنازعين من ابطال القضية ومحركيهـا . فالقراء او المقاتلون ـ القارئون للقرآن ـ المسببون الاوائل للفتنة ، كانوا يقاتلون بولع  في سبيل تطبيق القراآن الكريم في شؤون المسلمين . لكن معاوية في اخر المرحلة كان قد كشف عن مطامحه فـي الوصول الى السدة العليا للحكم . كـذلك كان علي يدافع عن شرعية خلافته بأسم سابقته فـي الاسلام ، أي كان ينافح عن سلطـة سياسية بأسم مقولات وقيم دينية .
وحقيقـة الأمر ، ان الديني والسياسي ممتزجـان او من الطبيعي ان ترجع الى الديني اولاً ، امة قـامت على اساس دعوة دينية في البداية ، على ميتاتاريخ نبـوي ، على كتاب مقدس ، وان يظهر لها دينياً كل شـيء بما في ذلك وبشكل خاص السياسي . لكن كل واحد من المتنازعين له تأويله الخاص لهذا الديني الموظـف في السياسي . فقد كان القراء الذين قتلوا عثمان ، الخليفة الشهيد في نظر الآخرين ، يتمسكون بحرفية الكتـاب ولا زمنيته ، ليـنهلوا من معينه كل طاقتهم الثورية ويتخطوا قيم القيادة التاريخية دون ان يكون لديهم فـكرة واضحة عن أي شكل آخر للقيادة والزعامة . فبعدما قتلوا عثمان سيقـفون الى جانب علي لينتهوا الى اعلان وقوفهم ضده ، حيـن شكلوا اول حزب سياسي ـ ديني في الاسلام ـ حزب الخوارج ـ .
كـان القراء يمثلون قوة جديدة مؤدلجة جداً ، شديـدة الانطباع بالقرآنية ، ويمثلون في آن واحد الجـانب الثوري والوجه الارهابي للفتنة . اما القـوى الاخرى في التاريخية الاسلامية ، فكانت مجسدة بشخص الاموي معاوية واتباعه في سوريه . فقـد كان هو ايضاً يحارب في سبيل فكرة مُقنَّعة بحجاب الـدين ، اذ لم يكن ثمة من يقـاتل في خلال الفتنة دون معتقد او قناعة ، كـان معاوية يحارب في سبيل رفع الظـلم عن عثمان وفقاً للقصاص الذي يأمر به الله .
لقـد كان طارئاً جديداً بمقدار عدم اشتراكه ومساهمته في المأثرة النبوية ، وبقدر ما كانت أسرته بالذات قد حاربتها ، لكنه كان يمتلك قوة ضاربة كبيرة ، وكان ممتلكاً لقضية لها ما يبررها ولحس استراتيجي مرمـوق . وخلافاً للقراء ولمعاوية كانت عائشة ام المؤمنيـن وطلحة والزبير من جهة ، وعلي بن ابـي طالب من جهة ثانية ، هم بالذات رموز الاسلام التاريخي ، المجللَّين بالمناقب والمفاخر .
ثـمة شيء يتعين تميزه ، هو ان تلك الانقسامات الاساسية فـي قوى الفتنة المتنازعة ، لـن تبني وفـقاً لمنطق الجديد والقديم بل وفقاً لدينامية ادق ، بحيث يكون امامنا تسلسل الاحداث التالي : القراء يقتـلون عثمان ، الخليفة الثالث ، بأسم بعض الافـكار ، يقع اعلان علي خليفة ، والقراء مثل اكثريـة الامة ينضون تحـت رايته ، عائشة ارملة الرسول ستثور مع الصحابين البارزين طلحة والزبير ، الممثلين همـا ايضا للاسلام التاريخي ضد علي ، يطالبان بالثأر لـ عثمان ، بعـد هزيمتهم ، يدخل معاوية في اللعبة بـأسم المطلب عينه ، ويقدم نفسه لأمد طويل كخصم لـعلي ، اتباع علي ينقسمون على انفسهم ، ومن هذا الانقسام تتولد حركة الخوارج ، وفي النهاية يقتل علي على ايدي هذه الحركة الخارجية بالذات . والامة في حال من الانقسام لا مخرج له .
اخيـراًً ، ينتقل الحكم الى معاوية ، مما يعني ان قضية عثمـان قد فازت في نهاية المطاف ، ولـكن ما هو ادهى واشد هو انها انتصرت بمفارقة لـم تتوقف عن هز الوجدان على حساب علي ، ابن الاسلام المحض ، وعلـى حساب القراء ايضاً الذين كانوا قد اعتقدوا انهم سيصلحـون حكماً منحرفاً باللجوء الى احكـام الكتاب وتعاليمه . الامر الذي يعني ان بذور المطالب والمنازعات المقبلة كامنة هنا وانهـا تنتظر الظهور والبروز بموجات تشنجية ، ومع ذلك ، قـامت الدولة الأموية بأعباء الامبراطورية في صفائهـا الأثني ووسعتها في غضون ما يناهز القرن ، كمـا انها ارست قواعد الحضارة الاسلامية ومرتكزاتها .
هـذا من حيث الطرح ، فماذا عن المنهج ؟
لقـد اتجه جعيط في مساره البحثي نحو اتجاهين :
الاول ـ اتجـاه فكري وفلسفي يعالج فيه القضايا الكبرى المطروحة على الضمير العربي في السياسة والمجتمع والدين .
والثاني ـ اتجـاه نحى فيه منحى المؤرخ الصارم للاسلام المبكر .
 مـنهج جعيط يدخل في الاتجاه الثاني ، أي اتجاه الباحث والمؤرخ الا انه بالرغم من الصرامة النقدية للمصادر وسعة الاطلاع على المراجع العربية والغربية على السواء ، والألتزام بمنهجية تاريخية صميمية فهو كتاب يداخله في طيات العرض والتحليل فكر وتفكير ونظرة ، بقدر ما يبتعد عن الادلجة والمواقف الايديولوجية ، والتأويلات العريضة الواهية .
 هـذه الطريقة هي التي تواخاها هشام جعيط بحسه العربي والاسلامـي العميق وتكوينه التاريخـي الصميم ، مؤهل لاخراج كتاب بهذا الطرح والتناول ، بعيـد كل البعد عن التقليدية كما عن أي فكر تحديثي تبسيطي .
يـقول جعيط بهذا الصدد : إن باحثاً ، خصوصاً في التاريخ لا يضع اهدافاً لدراسته بادىء بدء ، بل يتبع اذا جاز التعبير روحه ، ويرى الى النتائج وهي تتجلى اثناء العمل . المنهج هو اعدادك انت الدارس ـ يقول جعيط ـ انه تجربتك ، توجهاتك . مع هذا ، فقد كان هناك بعض العناصر الواعية . يذكر منها ، التشبث بقراءة منصتة للمصادر ، قراءة للقراءة ، قراءة نقدية ، مفكر بها ، متفحصة ، تقييمية . وكذلك التصميـم على تقديم تاريخ شامل . بمعنى تاريخ مجتمع تجتمع فيه خيـوط السياسي والديني والانتربولوجي والاجتماعي والاقتصادي .
هـذا هو ما يدعى بالتاريخ الشـامل ، والتعبير ليس من المؤلف كما ذكر به هو نفسـه وانما هـو صيغة قائمة ومتعارف عليها . يـكون هنا ملتقى روافد عديدة . وعلى المؤرخ ان يشغلها دون ان نشعر بـذلك . بمعنى انه لا يقـول لنا في لحظة معينة انه الآن بصدد تناول الجانب الديني ، وفي لحظة أخرى الجـانب السياسي ، وفي سواها البعد الانتربولوجي ، بـل يدفع جميع هذه الخيوط الى اللعب من دون ان يثقل على القارىء ، ومـن دون ان يهز له اجراساً منبهة في كل مرة .
مـن هنا ، أيثار جعيط للطريقة السردية او لتقنية رواية التاريخ . قال بهذا الصدد : ان هذه الطريقة شهدت فـي العقود السابقة بعض الانحسار ثم عادت بقـوة منذ اكثر من عقدين . يتعلق الامر ضـمن هذا التناول او الاسترجاع السردي او الحكائي بتجميع هذا العالم الدينامي ، والتعريف بهذا الوجه من وجوهه ، وتحـديد ذاك ، والدخول بل العيش في الطور التـاريخي رهن الدراسة .
اراد جعيط هنا ، ان يمنح القراء خيطاً يقودهم في قراءة الحقبة المعنية . مهما كان هؤلاء القـراء ، علماء عارفين بالموضوع المعالج او جـاهلين بهذا كله ، لا يتمتعون الا بثقافة عامة . وكان يتعين تناول الحقبـة منذ بدايات الاسلام ، فقد كان من المتعذر توضيح مـا هي ـ الفتنة ـ من دون عرض مـا سبقها وما كان يعمل وراءها من بنيات اجتماعية من جديـد ، وإذا كان المؤرخون قد أخفقوا فـي نظر المؤلف حتى الآن في معالجة ـ الفتنـة ـ ضمن حجمها الحقيقي ، فلانهم لم يأخذوا بنظر الاعتبـار الكامل المسيرة الاسلامية وجميع عناصرها المكونة . هـذا كله دفع المؤلف الى مراجعة بعض الافكار الثـابتة والاعتبارات العنيدة التي واجهها اثناء بحثه .
أراد جعيط اخيراً ان يقدم ما يقترح دعوته بـ ـ التاريخ المفهـوم ـ تقديم مسيـرة قابلة للفهـم والتعقل بالمعنى الهوسرلي ، الفلسفي ، للكلمة . يقصـد بالفهم ، الانفتاح الى الحقبة المعالجة موضوعة الدراسـة . وهنا يكمن في رأيه الحس الخاص بالمؤرخ . الانفتـاح الى الحقبة لا انطلاقاً من آرائـنا وسلم قيمنا وإيديولوجياتنا المعاصرة وانما التطلع الى العناصر الفاعلة فيها وهـي تتحرك انطلاقاً من قناعات الحقبـة ومعاييرها وقيمها الخاصة . لكـن بالمقابل ، فان الهموم المعاصـرة ، هموم الحاضـر ، تظل حاضرة ايضاً ، ومـن هنا اهمية التاريخ كميدان او علم . هذا خصوصاً عندما تكون الحقبة المدروسة حقبة أنموذجاً ، كمـا هي عليه الحقبة المدروسة في كتاب جعيط . حقبة ما فتئت تستوقفنا وتستنطقنا ، خصوصاً في العقود  الاخيرة .
ويشيـر جعيط ، بأنه لم يعن هنا بتقديم عبرة مباشرة للحاضر ولكنه يقدم بين الفينة والفينة تـلميحات واشارات حرة يمكن ان يستخدمها كمـا يشاؤون كل من يريدون قراءة حاضرهم . وفـي أساس هذا الحاضـر يقوم في الايجاب كما في السلب تاريخ عقـود الاسلام الاولى .
وينـبه جعيط هنا الى غياب مؤسف . ان التـاريخ الاسلامي العريض وفي جميع اندفاعاته الحضـارية وانتكاساته واستعاداته من العصر الاموي والعباسي حتـى الامبراطورية العثمانية ، ليس حـاضراً في اذهان الكثيرين منا حضور هـذا القرن الهجري الاول وبالاخص السنوات الخمسين الاولى منه .
هـكذا يعرب جعيط عن أسفه من غياب هذا التاريـخ الطويل وغموضه في الأذهان على كثرة الـدراسات الموضوعة حوله ، وفـي الوقت نفسه فهو يؤكد انه لم يغب عن باله ابداً وهو يعالج موضوع بحثه ، انـه انما يعالج  حقبة وذات حضور قوي في ذاكرة الجميع .
هـذه هي ابرز التوجهات التي قادت مؤلف الفتنة في عمــله ، الذي قال في خاتمة كتابه : إن مـا طمح اليه هو تقديم قراءة نقدية لهذا التاريخ . ذلـك ان قراءة الطبري او ابن الأثير مرة او مرتين هي شـيء وممارسة القراءة النقدية الفاحصة هي شيء آخر . وهنـا يرجو جعيط كل من يتوجه لقراءة التـاريخ هذا الا يكتفي بقراءة خـارجية بل وحتى دينيـة ، وإنما  يقرأة في عبقريته الخاصة ويمارس النقد لان مـا يمارس اليوم بإزاء هذا التاريخ لا يعدو ان يكون تـلاعباً بالتاريخ وبالخطابات . انها اخيراً دعـوة يوجهها  جعيط لتسريع ولادة جديدة او نهضة لهـذا الوعي التاريخي الأصيل .
ان اطـروحات جعيط تطرح سؤالا عميقا ، الا وهو كيف يمكن ان يكون المرء مؤرخاً فـي المجتمع العربـي ـ الإسلامي الراهن ؟ ذلك ، ان الحقبة التي درسها جعيط ، وهذا ما أشار اليه بنفسه ، هـي من الاهمية التأسيسية بحيث لا نقدر ان نغفـل الوشائج المباشرة التي تربطها بالتاريـخ المتحرك الذي نعيش .
أننـا من خلال قراءتنا لكتاب جعيط وافتتاننا به ، نطـرح ملاحظة منهجية انطلاقاً من استخدامه مفردة ـ القـراءة / بالفرنسية Lecture ـ باعتبارها الحركة الاساسية لكتابه . حيث ان هذه المفردة تنطلق مـن تراث فرنسي في الصميم منه . وان هـذه المفردة غير قابلة للترجمة العربية بهذا المعنى ، وقـد اعتاد الفكر العربي ان يستخدم محلها مفردة اخرى هي ” التـأويل ” كل قراءة هي تأويل ، مسيرة متناسقـة متألقة يتأمل فيها القارىء ، وهـو هنا المؤرخ ، الوقائع التي إمامه وعليها يحكم .
إذا سلمنـا بهذه الحقيقة ، فـالمشكلة في نظرنا تتعقد اكثر في حالة القراءة التي يقدمها جعيط  لـلفتنة الكبرى ولمجمل القرن الاسلامي الاول . فهو لا يقدم قراءته لهذا التاريخ فحسب وإنما قراءته متأخرة لهـذا التاريخ . لان الوثائق المتوفرة لدينا عن تـلك الحقبة والتي يعتمدها كمصادر لبحثه ، ليست شهـادات مباشرة لأناس عاشوا الوقائع وعاصروها ، وإنمـا تواريخ وضعها أناس لاحقون ، الطبري وغيره . وهنـا ، ينبغي الأخذ بنظر الاعتبـار بحقيقة كونهم يقدمون قراءاتهم الشخصية لما وصلهم من تـواريخ شفهية تحمل هي الاخرى بصمات رواتها وأثار قراءاتهم الشخصية لما وصلهم من تواريخ شفهية تحمل هي الاخرى بصمات رواتها و وأثار قراءاتهم وأهوائهم الشخصية .
قـراءة لقراءات . اذن ، مع كل ما يتضمنه هذا من مزالق وصعوبات ومفارقات . وفي أولها مفـارقة الرواية التي تتقدم باعتبارها مباشرة ، وهي ليست في الواقع كذلـك . يورد الطبري مثلا : قالت عائشة … ولـكن من يثبت ان عائشة في زمنها الذي هو ليس زمن الطبري قالت ذلك ؟ ينعتون أبا بكر مثـلا بأنه خليفة الرسول ، لكن النقود الأموية التي بقيت لنـا لا تورد للخلفاء مثل هذه الصيغة ، ولو كانت موجودة فـي عهد الخلفاء الراشدين فلم لم يؤخذ بها بعدهم ؟
هـذا كل هو الذي في نظرنا الى تحبيذ الصيغـة الأدبية والروائية ، وهي موجودة ، قبل جعيط ، لـدى الطبري نفسه ، بل حتى لدى فيلهاوزن معاصرنا . صيغة أدبية تمنح الكتاب وثائقه ، لانه لو حلل جميع الوثـائق بالتفاصيل لكسر سحر الكتاب ، وعطـل فعل القراءة ، واعاق مساهمة القارىء . لكـن على الرغم من ممـا سبق ذكره … فإن المؤرخ فـي عمله يسقط الكثير من الأقوال والوقـائع التي لا يراها منسجمة مع منطق الحقبـة ، مع خطابها ، ومع معنى الحدث الذي هو بصدد معالجته . ما يهم المؤرخ هـو استنباط المعنى والعناية بالتشكيلات الكبرى للتاريخ المدروس ومنطقه العميق . والوقوف على خطاب الحقبة هـذا انما ينتج معاشرة طويلة للنصوص ، وقـــراءة مرهفة للعناصر تجعل المؤرخ لا يأخذ بالكثير ويتمسك بالقليل … لأن قـراءة النصوص ليست بالأمر الهين ، فالنص يقول اشياء ويخفي اشياء .
لقـد حاول جعيط ان يمارس تاريخاً تفهمياً الى حد بعيـد ، وان يغوص حتى قلب المناخ الذهني والعقلـي للعصر ، وان يسعـى لفهم كيفية تفكير أهله ، ومـا كانت عليه أصنافهــم ومقولاتهم وقيمهـم . وحتى انه حاول ـ كما أشـار ـ الكلام بلغتهم . ومن ناحية ثانية ، فـأنه في الوقت الذي حاول أن يدرك بوضوح كثـرة المعطيات ، وان يحلل البنى ، وان يكتب تاريخاً شمولياًً ، أنمـا أراد ايضاً ان يروي ، ان يخبر ، مكتنهاً من خلال الرواية ، هـذه المرحلة الغنية بالرجالات والإحداث ، وأن يتوصل في نهاية المطـاف الى ان يعيش مع هؤلاء الناس وهاته الإحداث .  

* خـاتمة
 ان البـحث الذي تجشم جعيط الخوض فيه ليس من سهل المواضيع ولا من جديدها ، ولكنه مـوضوع يظل مع ذلك بكراً وكل تاريخنا سيظل بكراً ما لم نجرد القلم بلا خوف ولا مواربة لنبشة والسريان في شـرايينه كما يسري هو في شرايين وجداننـا . وليس المهم ان نتفق وانما المهم ان نسعـى الى الاتفاق لا في النتائج وانما في المناهج .
ـ فهـل نكتب التاريخ العربي الاسلامي بقداسة ؟
ـ هـل تتحكم فينا القداسة الى درجة ترجيح مـا يدعم القداسة حتى وان كان ضعيفاً ام نتجرد من ذواتـنا لنكتب تاريخاً او نعيد تـركيب الاحداث وتفهمها على اقرب صورة مما حدث في الماضي فعلاً ؟

ليـس الامر باليسير الهين ولكن البحث مغامرة شجاعة لا يهابها الا عاجز او مهزوم .
ولـعل دراسة الفتنة التاريخية قد تحولت في بعض الاحيان الى فتنة باحثين وقراء لانها من المواضيع التـي تعيد الى الوعي كثيراً من المشاعر والافـكار الكامنة في باطن النفوس ، ولانها مسألة مـركزية في تاريخ العرب والمسلمين .

ـ هـل تولدت الانقسامات التي ستحدث فيما بعد ؟
ـ هـل هي المسؤولة عن الانقسامات المعاصرة ؟
ـ هـل حسم مسألة انتقال السلطة في سقيفة بني ساعدة كان هو السبب في تكدر الخواطر واندفان الضغائن ؟

* الاحالات
1- كتـاب هشام جعيط الطبعة الفرنسية :
Hicham Djait – La Grande Discorde , Religion et Politique dans L, Islam
        des Origines , Gallimard , Paris , 1989 .

الطبعة العربية : هشام جعيط ـ الفتنـة ، جدلية الدين والسياسة في الاسلام المبكر ، ترجمة ـ خليل  احمد خليل ، ط4 ، دار الطليعة ، بيـروت ، 2000 .
2- القلهـاتي ـ خلافة عثمان وعلي (من كتاب الكشف والبيان) ، تحقيق ـ محمد بن عبد الجليل ، حوليات الجامعة التونسية ، العدد 11 (1974) ص 188-190 .
3- طه حسين ـ الفتنة الكبرى ، ط6 ، دار المعارف ، القاهرة ، 1966 .
4- عدنان محمد ملحم ـ المؤرخون العرب والفتنة الكبرى ، دراسة تاريخية منهجية ، ط2 ، دار الطليعة ، بيروت ، 2001 .
5- محمد المختار العبيدي ـ قراءة جديدة للفتنة الكبرى ، ط1 ، مؤسسة الانتشار العربي (بيروت) ودار محمد علي للنشر (تونس) ، 2008 .

[email protected]