بينما ينخرط طيف من العراقيين بمناقشة بدائل الإسلام السياسي بعد فشله الذريع في إدارة البلاد منذ 2003، وينشغل طيف آخر بمواصلة النقاش حول الاصلاح ومساراته المفترضة، يسلّم العراق مقاليده رويدا رويداً الى دائنين دوليين باتوا يحكمون قبضتهم على مصائرنا.
للآن لم نعرف تفاصيل الاتفاق الذي أبرمته الحكومة العراقية مع صندوق النقد والبنك الدوليين. فالمؤسستان الماليتان باتتا تراجعان اداء السياسة المالية والخطط الاقتصادية والتنموية في العراق، وتفرضان شبه وصاية على حكومة ودولة غارقة في الفوضى والتخبط، وعاجزة عن حماية رعاياها. ويتعهد رئيس الوزراء أمامهما بمواصلة اصلاحاته الاقتصادية.
لكنّ السياسات الأخيرة التي تفرضها حكومة العبادي، منذ عام تقريبا، تكشف بعض البنود التي يجهلها حتى البرلمان، ويتم فرضها بطرف ملتوية تحت يافطة الاصلاحات الاقتصادية ومحاربة الفساد، ومواجهة الأزمة المالية.
وبإمكان المراقب تلمسّ الآثار الخفية لهذه السياسية بالعودة لتقصي الاجراءات الحكومية التي إتخذت خلال العامين الماضيين، كاستقطاع 4.8% من رواتب الموظفين، وخفض الدعم عن الفئات الضعيفة المشمولة بشبكة الرعاية، الى محاولة فرض خصخصة الكهرباء بطرق ملوتية، فضلا عن حجب الدعم للبطاقة التموينية.
وليس بعيدا عن ذلك، سياسة إغراق البلاد بالقروض الكبيرة، وآخرها القرض البريطاني البالغ 12 مليار دولار. وتذهب هذه القروض لسدّ عجز الموازنة المزمن جراء إصرار على التوسع بالنفقات الحكومية، وتحديد معدلات عالية لتصدير النفط، أثبتت الايام فشل بلوغها بسبب عدم حل الخلاف مع الإقليم.
على أن المرعب في الأمر، إن اغلب هذه الديون، التي تجاوزت 110 مليار دولار منها 70 مليار قروض خارجية، تذهب لدفع مرتبات الموظفين وليس لدعم الزراعة او الصناعة، او تشجيع القطاع الخاص.
والافظع من ذلك كله، ان يتم تخصيص 5 ترليونات دينار، ضمن موازنة 2017، لتسديد فوائد هذه الديون التي بات يتحمل تبعاتها كل وليد عراقي بمعدل 5 آلاف دولار.
كل هذه المؤشرات تكشف بما لا يقبل الشك عن المصير المحتوم الذي تسير نحوه الحكومة لتسليم الاقتصاد المحلي الى مندوبي النيوليبرالية المتمثلة بشركات النفط العالمية، التي ترفض تعديل شروط التعاقد، وتفرض على الحكومة الطعن ببند في قانون الموازنة يلزم بإعادة التفاوض لتحسين شروط التعاقد.
تخيلوا حجم الورطة العراقية. بلد غارق في الديون، نفطه مرتهن بيد شركات عملاقة لا يهمها سوى الربح. لا ترى هذه الشركات نفسها ملزمة لا بخفض نفقاتها الباذخة، ولا بصرف مخصصات المنافع الاجتماعية على أهل المناطق التي تعمل فيها، كما تنص الفقرات المعلنة من العقود التي ترفض وزارة النفط كشفها.
لقد بدأت الحكومة العراقية بتنفيذ حزمة سياسات مالية واقتصادية، بعيدا عن رقابة البرلمان، ورغما عن الشعب الذي يجهل، حتى الآن، سبب ذهاب جزء من مرتبه الشهري لدعم اندية كرة قدم لايشاهد مبارياتها!
ولم تتوقف تداعيات النهج النيوليبرالي، الذي باتت تعتمده الحكومة، عند هذا الحد، بل تجاوزت الى رفع اليد عن الزراعة المحلية، وعدم اطلاق 2 ترليون دينار هي مستحقات الفلاحين عن محاصيلهم المسوّقة للعامين الماضيين. ومؤخرا رفضت الحكومة شراء أكثر من 200 ألف طن من حنطة واسط التي تنتج 600 ألف طن.
طبعا سيضطر العراق الغارق بديونه، والذي يقترب من نفاد عملته الصعبة، الى تعويض النقص بمحصولي الحنطة والشعير عبر الاسواق العالمية، او ترك المواطن تحت رحمة حيتان السوق.
وفي سياق التحوّل النيوليبرالي، الذي يعتمده رئيس الوزراء وفريقه الاقتصادي، بتنا نسمع همساً يدور حول مشروع “النفط مقابل البناء والاعمار”، في مؤشر على سعي الشركات العملاقة للعب دور مباشر في اقتصاد البلاد بعد ان انتظرت طويلا، كما تنص اتفاقية القرض البريطاني، في وقت لازالت الحكومة تماطل في سداد نحو 5 ترليونات دينار كديون مستحقة للقطاع الخاص العراقي!
للأسف، اليوم العراق يعكس صورة قاتمة للتحوّل السياسي والاقتصادي الذي ينذر بكوارث انسانية واجتماعية وشيكة، لايبدو أن الحكومة الحالية ولا الطبقة السياسية واعية ومدرِكة لمخاطرها.
نقلا عن المدي