23 ديسمبر، 2024 7:26 ص

نقرتان باليمين

نقرتان باليمين

“لكم دينكم  ولي  دين”. هي احدى آيات القران الكريم التي يستدل منها  عند البعض على حرية المعتقد بصرف النظر عن نتيجة هذا الاعتقاد وذلك لكون هذا النص الشريف ورد مطلقا واضحا وليس مقيدا غامضا, لكن البعض يرى في هذا القول جهل  بأدوات  ومنهج التفسير الذي اغفل هنا اسباب النزول, أو السياق  فيضيق المعنى بل ويغير اتجاه اللفظ الى  الجهة الاخرى ليجعله  براءة من المشركين الكافرين لعلم الله  تعالى المسبق بعدم الايمان منهم. لقد تناول القرآن الكريم ذاته هذه التوجهات المتعارضة عند الناس في قوله تعالى :
“لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة” .وهذا منهاج لا يضمن احد عدم  تأويله  هو الاخر الى جهة اخرى قد تخرجه من دلالاته اللغوية  والمعنوية.
يذكر القرطبي آراءا عديدة في مسألة واحدة  تشير بوضوح الى جدل كبير وخلاف  بيّن , اخترتها لطرافة موضوعها فلا أحد يسال عن تعريف الفاكهة في ايامنا هذه .صحيح ان البعض يقول ان الطماطم منها لكن ذلك لن يغير في سعرها سواءا كانت الطماطم منها أو من سواها , لقد اخترتها من بين آلاف من القضايا المتنازع عليها …فان اختلفنا فيها فما بالنا الا نختلف في الدستور وفي شكل الدولة  ونظامها وقد ضمنا ه (اي الدستور) نصوصا تتناغم مع الشريعة او في الاقل حصّنا الدولة  بمنع أي  تشريع مناف للشريعة.
 قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة، لأن الشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره وهذا ظاهر الكلام. وقال الجمهور: هما من الفاكهة وإنما أعاد ذكر النخل والرمان لفضلهما وحسن موقعهما على الفاكهة، كقوله تعالى: “حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ” وقوله: “من كان عدوا لله وملائكته
ورسله وجبريل وميكال” وقيل: إنما كررها لأن النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر(طحين القمح) عندنا، لأن النخل عامة هو قوتهم، والرمان كالثمرات، فكان يكثر غرسهما عندهم لحاجتهم إليهما، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها، فإنما ذكر الفاكهة ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما
وكثرتهما عندهم من المدينة إلى مكة إلى ما والاها من أرض اليمن، فأخرجهما في الذكر من الفواكه وأفرد  الفواكه على حدتها. وقيل: أفردا بالذكر لأن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكه، ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا حلف أن لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث. وخالفه صاحباه القاضي ابي يوسف وزفر وسائر والناس.
من المفيد ان نصنف القضايا  الأبتلائية الى صنفين: صنف تدويري وصنف مستقيم  ,فالأول يتصف بالتقاء البدايات والنهايات وبهذا يقع الدوران كالليل والنهار والصيف والشتاء وسائر المناسبات التي تتكرر دورتها في الزمان اما الصنف الثاني فالتسلسل فيه مستمر كسلسلة الاعداد الا ان هناك نوعا من التداخل بين الصنفين لا مجال لتناوله في هذا المقال.
ان تحديد الوسط  والمنتصف يلزم تحديد كل من البداية والنهاية  ففي الآية القرآنية (حافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ (وقع خلاف حول ماهي الصلاة الوسطى فمنهم من ذهب الى انها الفجر ومنهم من زعم انها الظهر والكثرة تدعي العصر واخرون يذهبون انها المغرب ولا احد يقول انها العشاء. ان ذلك مرده الى اختلاف الاسانيد في الروايات من جهة ومن جهة اخرى الخلاف المنهجي العقلي الذي يختلف بشأنه المفسرون. وعلى الرغم من السلسلة الدورية  للأعمال العبادية عموما كالصلوات الخمس فان هذا مثال تتضح فيه السلسلة المستقيمة ضمن اليوم الواحد . وعلى هذا فتحديد موقع النصف قد يبدو اكثر سهولة  منها في قضية اليمين واليسار رغم ان اشكالية العدل والاحسان ستظهر في هذه المرحلة. فالأنصاف من النصف  والمنتصف  والعدل  يعرف بانه وضع الامر في نصابه وهو عكس الظلم  اما الاحسان فهو مرتبة اخرى مضافة من المراتب العدلية  علما ان العدل من اصول الدين عند بعض الفرق الاسلامية والاستحسان  وهو اصطلاح مصدره (حسن) ومنه الاستحسان عند غيرهم  من مصادر التشريع .
تتفات الرؤى والتوجهات بين ما يوصف باليمين وما يوصف باليسار ولا اعرف سرا لتفضيل اليمين عن الشمال  لأن الجهات ليست مقدسة لذاتها كما يبدو فقد ورد في الكتاب الكريم” و لله المشرق و المغرب فأينما تولوا وجوهكم فثمة و جه الله”
لكنه نوع من الخيال الذي تلتبس خلفيات الحكم عليه فلسفيا كان ام  دينيا كان او سياسيا ام مكانيا وهذا ما اشار اليه أحد  الكتاب بما انصه
“هكذا التبست علينا مفاهيم اليمين واليسار، فلم نعد نعرف هل اليمين الدّيني هو اليسار التقدّمي من وجهة نظر الدّين؟ أم اليسار الدّيني هو اليمين الاستبدادي من وجهة نظر السّياسة؟ لكن الحلّ في كلّ ذلك بالتّأكيد لا تحدّده الجهات التي هي غير مقدّسة كما أسلفنا في هذه الفنطازيا.” ,مع ان الاستبداد  هو سلوك انساني لا يبدو له علاقة بجهة مكانية ما. انما تحدده مجموعة عوامل خارجة عن اطار هذا التناول.
غالبا ما نجد من يدعوننا او ينصحنا او حتى يملي علينا  المسك بالعصا من نصفها او وسطها ثم يقول لنا  “وكذلك جعلناكم امة وسطا ” ويستطرد بالقول “خير الامور اوسطها”.
ولعل من الطبيعي القول بان اليمين واليسار كاصطلاحين سياسيين معاصرين هما لا يتوافقان مع المفردتين القرآنيتين اليمين والشمال, او الميمنة والمشئمة. وربما انعكس المفهوم تماما .
لقد تطور المصطلح السياسي  كثيرا فلم يكتفوا باليمين واليسار بل اضافوا اليهما ما يمكن ان يجعلهما طيفا مستقيما كاملا حيث ولد اليمين المتطرف وبالمقابل اليسار المتطرف ثم يمين الوسط  ويسار الوسط ..
قد لا يكون  هذا المنهج الوسطي  هو المقبول عند الكثيرين ممن ينعتون بالتطرف  في غياب التحديد الدقيق للمفاهيم  فاين هو موضع نصف العصا وهل النصف ومنه الانصاف مقبول عن الجميع وماهي حد القبول  ونصاب عدمه يعرف المهتمون بعلم الاحصاء ان مجموعة من معايير الانحراف يمكن حسابها والركون اليها في عملية الاستقراء او الاستدلال وبالطبع فانه ليس استقراءا او استدلالا تاما بل يستند الى احتمال معين بشرط معين. فاذا كان الامر كذلك فان النصف قد يقع ضمن حدود 60% واربعون % في قضية معينة باحتمال معين ومادام الامر كذلك فاننا يمكن ان نمسك العصا بنسبة مغايرة كان تكون 80% مقابل 20%, وباحتماليات اقل في قضية محددة وصولا الى الامساك بها ثم التلويح بالضرب بها ولو باحتمالية اقل. وهنا يأتي دور القائلين بالفلسفة التوفيقية وهي مذهب الجمع بين آراء أو مذاهب مختلفة ومحاولة التأليف بينها لتكون مذهباً واحدا, وهذا المذهب غالبا ما يوصف بالسطحية والانتهازية ولذلك فلا أظنها فلسفة قائمة بقدر ما هي منهج خاص وطارئ, اذ ان بعض القضايا لا تحتمل الوسطية وللتدليل على ذلك نفق المانش او نفق القناة الانكليزي الذي اختصم فيه الطرفان الفرنسي والبريطاني حول نظام مرور السيارات في النفق رواحا ومجيئا بسيارات مقودها الى اليمين او الى اليسار حيث ان النظام في البلدين مختلف كما هو معروف .هنا لا يمكن الوسطية في هذه الجزئية بالذات لذلك كان على الطرفين الخوض في افكار اخرى.
كتب  الصحفي  الاديب المصري  احمد صالح عباس كتاب( اليمين واليسار في الاسلام) تناول فيه فهما وتحليلا موضوعيا لمسميات حديثة  ومعاصرة بدلالات تاريخية.
كما ان السيد خماط  تفحص الحل الوسط بين توجهات الاسلاميين والعالمين فخلص بالقول الى ان بعض الاسلامين بدأوا بقبول بعض المبادئ السائدة في النظم العلمانية على اساس قراءة جديدة للنصوص الدينية والتوسع في فهمها ، فقد اقتنعوا بان تلك المبادئ قابلة للتأقلم مع أي مجتمع كالتعددية والدستورية والبرلمانية ، واعتبار الديمقراطية وسيلة يراد بها ادارة الحكم والسلطة ، والقضاء المستقل، والاعتراف بالاخر ،والايمان بالحوار كوسيلة لفض الخلافات وتحريم العنف وتأسيس المجتمع المدني ودولة القانون والمؤسسات.
وخلاصة القول: ان أدلجة المفاهيم وضمها لاتجاه فكري معين في مسائل السياسة هو أمر ممكن ,لكنه من الصعب علينا ان نتخيل توظيفا عمليا يتماشى مع الواعد العامة في نظريات الحكم المعاصرة ويظهر هذا الامر واضحا وجليا في تقديس المفاهيم .
لقد شكا لي  صاحبي يوما ما: لماذا تكون هناك نقرتان باليسار ونقرة واحدة باليمين قلت له: ذلك امر يمكن تغييره في حاسوبك لو كنت يساريا.