23 ديسمبر، 2024 1:10 م

نقد سينمائي ، فيلم .. حياة باي : الذَّات .. فضاءٌ إنسانيٌ فسيحْ،لتقويض ِسُلطة ِالواقعْ

نقد سينمائي ، فيلم .. حياة باي : الذَّات .. فضاءٌ إنسانيٌ فسيحْ،لتقويض ِسُلطة ِالواقعْ

Life of pi
 إخراج   :  انج لي 
كتابة     : دايفيد ماغي
بطولة   : سراج شارما – ايرفان خان
انتاج    : 2012

قراءتنا النقدية لبنية الشريط السينمائي(باي) تشيرإلى أن سردية خطابه الجمالي قد إستعارت حبكتها الدرامية من تركيبة معمارية سوَّغت حضورها القيمي عبر مقاربة حركية للبناء السمفوني،تهيكلت منظومتها البصرية والسمعية على قاعدة بنائية تآلفت فيها في أربع حركات (سريعة ،بطيئة ،سريعة ،بطيئة) ،هذا السياق الفني الذي أجترحه خطاب الفلم ابتغى من خلاله استدراج المتلقي في كثافة أزمنة ٍ متوالية (ماضي وحاضر) تعالقت فيها الحكاية في مستوياتها وارتداداتها الى مواجهة عميقة مع ذات قلقة جامحة وهي تتأمل وتنفتح على الآخرفي بؤرة مركزية فضائها براءة الطفولة البشرية في تفردها الديني المُتمَنّع عن الانغلاق والانزواء، فأنسابت حكاية الفلم لتكشف في نسقها الذاكراتي امكانية تواشج الميراث الروحي ( الاسلامي والهندوسي والمسيحي ) سعياً ً من صنّاع الفلم العثورعلى نقطة التقاء تتجلى فيها معاني الوحدة الانسانية بين البشرعلى اختلاف منظوماتهم الدينية،هذا اضافة الى ماتوفر فيه من جنوح كبير في استثمار المؤثرات التقنية ( فن الكرافيك ) في تقويض سلطة الواقع والوصول الى ابعد نقطة في استثمار المخيلة البشرية للحاسوب بإيجاد بديل رقمي تتوفر فيه كل ماتصبو إليه رؤية الفنان من صور جمالية معبأة بأنساق لونية وبصرية يكتمل حضورها الآسر في عالم كرافيكي يعجز الواقع عنها وهذا ما رشحه لأن ينتزع جائزة الاوسكار للمؤثرات البصرية .
الحركة الاولى
بعدأن إستعادت الحكومة الهندية أرضا ًمؤجرة من قبل عائلة  كانت قد اقامت عليها حديقة للحيوان يضطر ربُّ الاسرة الى اتخاذ قراره بالسفرالى كندا مع جميع أفراد عائلته لغرض بيع الحيوانات مقابل مبلغ من المال يكفيهم للبدء بحياة جديدة هناك،وشاء القدرأن تغرق السفينة في عرض البحر بمافيها من طاقم وركّاب وحيوانات بأستثاء ناج ٍ واحد هو:باي الابن الاصغر للعائلة مع مجموعة صغيرة من الحيوانات مؤلفة من نمر وحمار وحشي وضبع وقرد .
بعد أكثر من عشرين عام على حادثة الغرق يأتي كاتب روايات كندي ليزور باي في بيته بكندا التي أستقر فيها،لأجل أن يسمع منه تفاصيل ماجرى ،جاء اليه بعد أن سمع بقصته قبل عدة أعوام عندما ذهب في رحلة الى الهند ليؤلف كتابا ًوهناك التقى عن طريق الصدفة في مقهى مع مدرب باي للسباحة (ماما جي) أيام كان طفلا صغيراً،كان هذا المدرب مغرما بأحواض السباحة ولايمكنه مقاومة أي حوض يراه إلاّ ويسبح فيه،لكن حوضا للسباحة في باريس بقي عالقا بذاكرته واعتبره أجمل حوض رأه في حياته وكان اسمه(بيسين موليتور باتيل) ولشدة اعجابه به أوصى صديقه والد باي أن يسمّي أسم طفله القادم على أسم الحوض ،فسمى باي(مختصر بيسين) تيمنا ً بذاك الحوض إلاّ أن خطأ في لفظ الحرف الاخير من قبل أصدقائه في المدرسة حوّل أسمه الى(بيسيج)بدلا ً من بيسين ليتحول بذلك معنى الاسم من حوض جميل للسباحة الى مرحاض هندي وسخ،فكان ذلك
 يثير سخرية الاطفال منه ،بل إن المدرسين أنفسهم باتوا هم ايضا ًينادونه بالاسم الخطأ،ولم يعد يجدي نفعا كل المحاولات التي كان يبذلها لتصحيح اللفظ حتى عندما استعدَّ في فترة العطلة الصيفية بشكل جيد فجمع معلومات جمّة عن معنى ودلالات أسمه، توزعت مصادرها مابين الجغرافية والتاريخ الاغريقي الى علم الرياضيات،ولمّا إبتدأ العام الدراسي إستعرض أمام طلاب المدرسة الذين كانوا يتجمعون في قاعة الدرس مع المدرسين لمراقبته وهو يكتب المعلومات الغزيرة على السبورة بعد أن كان قد حفظها عن ظهر قلب،ولم تجد نفعا كل محاولاته تلك لتصحيح الخطأ كما لم تفلح أيضا سخرية الطلاب في ثنيه عمّا كان يبحث عنه من التصالح والتسامح  بين الاديان داخل ذاته القلقة رغم صغر سِنِّه،إذ كانت موضوعة الاله المعبود من البشر بتسمياته المختلفة وفقا ًللاديان التي يمثلها هي التي قد استولت على تفكيره وأمست مصدر أهتمامه الوحيد مثلما كانت هواية جمع الطوابع ولعبة الكريكت مصدر إهتمام شقيقه وبقية الاطفال،خاصة وأن البيئة التي يقطنها كانت تتعايش فيها الديانات الهندية والاسلاميةوالمسيحية، فقد ولد(باي) في حي هندي مجاور لحي يسمىَّ بالمنطقة الفرنسية لأن من كان يقيم فيه فقط هم من الجالية الفرنسية،فيما بعد استلمتها الحكومة الهندية من البريطانين بعد نيل الاستقلال عام 1954،يجاورهذه المنطقة الجميلة التي  كانت تبدو وكأنها قطعة من جنوب فرنسا حي آخر يسكنه مسلمون وآخر يسكنه هندوس،أما عن الديانة المسيحية فقد تعرف عليها  باي عندما كان يذهب سنويا ً مع عائلته في العطلة الصيفية وهوفي عمر لم يتجاوز الثانية عشرة لزيارة اقارب لهم يقيمون في قرية سكانها من زارعي الشاي تقع في منطقة مونارالجبلية،ولأنه كان يشعر بالملل هناك مع شقيقه الاكبر أبتكر الأثنان لعبة تحديٍّ بينهما من باب التسلية وقضاءالوقت،تقتضي أن يذهب باي الى كنسية معزولة تقع على مسافة قريبة من القرية وأن يدخلها ليشرب من الماء المقدس،وبعد أن شرب الماء إلتقي برجل دين مسيحي طلب منه باي أن يفسر له :”لماذا أرسل الله إبنه المسيح ليدفع الثمن عن ذنوب عامة الناس “. فيجيبه القس :”لأنه يحبنا، فالاله جعل من نفسه بشريا ً ليتواصل معنا ولنتمكن من فهمه،فنحن لانستطيع أن نفهم الاله وكماله،لكننا نستطيع أن نفهم إبن الاله ومعاناته،فيما لوكنّا أخوة ”
بالنسبة له كان هذا جواباً غير منطقي ! فما معنى تضحية الأبرياء للتكفير عن خطايا المذنبين !؟ . مما دفعه لأن يتسائل مع نفسه  :”مانوع هذا الحب ؟ “. .لكن ذلك الابن( المسيح)المضحي تكفيراً عن خطايا الاخرين لم يستطع أن يخرجه من رأسه،وبقي يتأمله ويفكرفيه،لتستيقظ في داخلة أسئلة أخرى:” إذا كان الاله كاملا ونحن لسنا كذلك فلماذا أراد أن يخلق كل هذا؟ لماذا يحتاجنا ؟”. .ليجيبه القس في زيارة أخرى :”كل ماعليك معرفته أنه يحبنا  “. وكلما إستمع باي الى الكاهن خلال زياراته التي تكررت،كلما أحب إبن الاله. .يقول باي اثناء سرده لسيرته :”اهتديت لطريق الايمان من خلال الهندوسية ووجدت حب الاله عن طريق المسيح،لكن الاله لم ينتهي مني بعد،وفي إحدى المرات يمر باي بالقرب من أحد الجوامع فيشاهد المصلين المسلمين وهم يؤدون فريضة الصلاة، فيجد الاله هنا ايضا مرة أخرى وهو يقدم نفسه اليه مجدداً،ولكن هذه المرة بأسم آخر ( الله )فيدخل الى الجامع ويبدأ بالصلاة مع جموع المصلين المسلمين .هنا يعترف باي أمام الكاتب الكندي وهو يسرد له قصته في هذه المرحلة من طفولته :”رغم أن لغتي العربية لم تكن جيدة لكن الصوت والشعور بالكلمات قربتني أكثر الى الاله،وبأدائي للصلاة،أمست الارض التي كنت ألمسها بجبهتي أرضا مقدسة،كما أنني وجدت شعوراً بالسكينة والاخوية”.
هذا الحوار يأتي تفسيرا ًلأول جملة كان باي قد نطق بها مع  بداية الفلم عندما قال :” أفعال الفرد هي التي تحدد مصيره.
والد باي كان له أثر كبير في أن يكون له عقل متفتح ليس من السهل خضوعه لكل الحكايات والاساطيرالتي تتحدث عن الالهة،فكان يقول له ولشقيقه وهما يسمعان ويقرأن قصصا ً عن الالهة :”لاتدعوا القصص والاكاذيب الجميلة تخدعكم ياأولاد . . الدين مُظلم ” فكانت ثقافته هذه جزء من ثقافة الهند الجديدة التي ولدت بعد الاستقلال، كما أنها جاءت بعد تجربة مريرة كان قد مر بها (والد باي )عندما كان طفلا مصابا بشلل الاطفال وأعتاد أن يستلقي على السرير مستسلماً محطماً وهو يتألم ويتسأل: أين الاله؟.. في النهاية الاله لم ينقذهُ، بل أنقذه الدواء الغربي.!
وفي واحد من المشاهد المؤثرة التي يستذكرها باي،عندما كان صغيراً ،مشهد كان قد جمعه سوية مع أفرادعائلتة اثناء تناول الطعام،في هذا المشهد وقبل الشروع بتناول الطعام يبدأ باي بأداء طقوس صلوات الديانات  الثلاثة التي عرفها(المسيحية والهندوسية والاسلام)،وهذا ما يدفع والده لأن يقول له متندرا ًبعد أن انتهائه من اداء الصلوات :” أنت بحاجة الى أن تتحول الى ثلاثة أديان أخرى،وعندها سوف تقضي حياتك كلها في عطلة “. ثم يكمل شقيقه بنبرة ملؤها السخريةماكان قد بدأه والده من ملاحظة:”هل انت ذاهب الى مكة هذه السنة ايها المعلم يسوع ؟ أم إلى روما من أجل الاحتفال ،كالبابا بيوس ؟
والدة باي سيدة تنتمي الى طبقة برجوازية بخلاف والده الذي ينتمي الى الطبقة المتوسطة ،تحمل وعياً عاليا ً بذاتها دفعها الى معاندة أهلها والزواج ممن تحب رغم الفارق الطبقي بينهما،وكانت قد التقت به حينماجاء لتنفيذ مشروع حديقة للحيوانات داخل جزء من الحديقة العامة التي كانت هي تشرف عليها في المنطقة الفرنسية،لأنها كانت تحمل شهادة جامعية في اختصاص علم النباتات الطبيعية.
والدة باي كانت قد انتبهت ألى مايشغل ابنها من اهتمامات بعيدة تماما عن اهتمامات اقرانه،لذا كانت تقول عنه إنه :” مايزال يبحث عن طريقه”.لكن والده كان يجابهه برأي آخر:”لايمكنك اتباع ثلاثة اديان في نفس الوقت،لأن الايمان بكل شيء في نفس الوقت هو نفسه كعدم الايمان بأي شيء على الاطلاق،وليس من السهولة العثورعلى الطريق ّإذا لم يخترالانسان مسارا  ما، وعليه بدلا ًمن القفز من دين إلى آخر،لماذا لاتبدأ بسبب ما؟ فالعِلمٌ قد جعلنا نفهم الكون بصورة كبيرة أكثر من الذي فهمناه من الدين خلال عشرة الاف سنة،وبنفس الوقت أنا لاأفضل أن يجعلوك تؤمن بأشياء كثيرة غير متوافقة بل أفضِّل أن يجعلوك تؤمن بشيء أنا غير موافق عليه عن قبولك لكل شيء بشكل أعمى،وهذا يبدأ بالتفكير المنطقي ”
إلاّ أنَّ والدته كانت تؤكد له بأن :” العلم يعلمنا فعلا اشياء كثيرة لكنه لايستطيع ان يعلمنا اشياء في داخلنا .” 
يبقى باي  طيلة فترة طفولته ومراهقته باحثا ًعن شيء ما يجلب له معنى لحياته،وكان لقائه بأندي الفتاة الجميلة التي تعرف اليها في حلقة لتعلم الرقص الهندي التقليدي الذي هو جزء من طقوس العبادة الهندوسية التي يعبد فيها أكثر من 33 مليون إله،عندما حلَّ باي مكان معلمه الذي كان يدرسه الموسيقى بالعزف على آلة الطبل والذي غاب في أحد الايام ليكتشف حقيقة مهمة من خلال ماكانت تقوله مدربة الرقص من أنَّ “عدم التركيز لن يُمكِّن الانسان من التعبيرعن حبه للأله من خلال الرقص،وعلى الراقص أن يشعر بالارض تحت أقدامه،وأن يفتح نظرَه للافق،وأن يدع الطاقة الروحية تمر من خلاله الى العالم في أي مكان وكل مكان.”
تأتي لحظة التحول الكبرى في حياة العائلة المستقرة بعملها الناجح في ادارة حديقة الحيوان عندما يقررمجلس المدينة إيقاف الدعم للحديقة واستعادة الارض المؤجرة لهم،فيقررالاب مغادرة الهند الى كندا ليبيعوا الحيوانات هناك. . وبعد مشهد ِوداع ٍوحيد لحبيبته لن يحظى بمثله بعد ذلك مع كل احبتة الذين سيفقدهم فيما بعد في رحلته،يرحل باي على متن باخرة يابانية مع عائلته إضافة الى الحيوانات .
ترحل السفينة اليابانية لتمرَّ في أعمق نقطة في البحر بالقرب من أحدى جزرالفلبين،وهنا تأتي عاصفة رعدية هوجاء في تمام الساعة الواحدة وخمس عشرة دقيقة بعد منتصف الليل بينما كان الكل نيام بأستثناء باي ،الذي يجد نفسه مندفعا بفرحٍ الى سطح السفينة،مستهينا بالبرق والرعد والعواصف، وغير مدرك لخطورة مايجري من حوله، فيواجه البحرالهائج برقصة بريئة يعبِّرفيها عن دهشته وفرحته بما يرى،وماهي إلاّ لحظات حتى تبدأ أمواج البحر بأغراق السفينة،فيجبره طاقمهاعلى النزول في قارب إنقاذ صغير سرعان ما ينفلت الحبل الذي كان يربطه بالسفينة لتأخذه الامواج الهائجة بعيدا ًعنها وليجد نفسه وحيدا ً وسط البحرمع حمار وحشي وقرد وضبع ونمرٍ متوحش،ومن بعيد يرى السفينة تغرق ويبتلعها البحر بكل افراد عائلته ولم يتسنى له فرصة توديعهم .
الحركة الثانية 
في هذا الجزء من الفلم يعيش باي رحلة قاسية وموحشة لم تكن تخطرعلى باله يتداخل فيها الحلم مع الواقع فكانت :إختباراً لكل ماكان يبحث عنه وامتحانا ً صعبا ً لأرادته وشجاعته وضعفه وانسانيته وهو يواجه أخطارا ً شتى في عرض بحرهائج وحوله عدد من الحيوانات المتوحشة التي تبدأ صراعا ًعنيفا مع بعضها من أجل البقاء حتى يتمكن النّمر من افتراسهم جميعا ليبقى بمواجهة مع باي .
هنا لم تعد تجدي نفعا ًصرخاته في حلكة الليل وسط بحرهائج ولاكلمات الاعتذاروالاسف من والديه .
في هذا الجزء المهم  من الفلم يلعب فن الكرافيك دورا ًكبيرا ًفي صنع بيئة ساحرة بواقيعتها وجمالها وتكويناتها وألوانها، تتألف مفرداتها من سماء وغيوم وبحر وقارب وليل ونهار وأمواج ومايختزنه البحر من أسماك صغيرة وكبيرة،فكانت عملية صنعها متقنة جدا ً،عكست ماتوصل اليه فن الكرافيك من أمكانات هائلة لاحدود لها في خلق ماكان يبدو مستحيلا الى فترة قريبة ً، فبعد فلم (300 محارب) للمخرج زاك سنايدر إنتاج عام 2007 وبكلفة قيمتها 65 مليون دولار عن رواية للكاتب فرانك ميلر والتي كانت معظم مشاهده بما فيها المعارك قد تم تصويرها داخل الاستديو أمام شاشات خضراء ليتسنى بعدها لطاقم الكرافيك من مسحها وإحلال مكانها كل الديكورات والامكنة التي تجري فيها الاحداث،فكان هذ الفلم بداية جريئة وثورية في تاريخ السينما المعاصرة تبعته بعد ذلك تجارب أخرى، فأصبحنا في حيرة من امرنا ّلم نعد نستطيع التمييز في مانراه على الشاشة هل هو عالم كرافيكي أم أمكنة طبيعية؟ بما ذلك مفردات فلم باي (السفينة والبحر والنمر والقرد والضبع والحمار الوحشي والجزيرة والغابات والينابيع ) إضافة الى جمالية الالوان والصورة والتكوينات التي كانت في غاية البذخ والسحر، فكانت أقرب الى الخيال منها الى لوحات انطباعية .
في هذه  المرحلة من الصراع وسط البحر يبدأ باي بتسجيل مذكراته عن المشاق التي بدأ يواجهها دفاعا عن وجوده وحياته وعن حقيقة الاله الذي لم ينسه في خضم هذه المحنة، بل بقي يبحث عنه ، وفي لحظة عاصفة يجد نفسه يخاطب السماء :” أيها الاله أنا أهبك نفسي،أنا خادمك،أيّا ً كان ماسيأتي، أريد أن أعرف  ”
كانت هذه الجملة إختصارا لمحتوى الشخصية الرئيسية التي كانت تبحث عن المعرفة وسط ثقافة دينية متنوعة ومختلفة تتعدد فيها تسمية الأله الذي يعبده البشر وصولا الى الطمأنينة والسعادة .
رحلة التأقلم مع البحر بدأت عندما باي بقراءة كتيب صغيرعثرعليه بين صندوق أغذية معلبة وجده في زاوية من القارب،كان الكتاب عبارة عن مجموعة من الارشارات والنصائح لمن يجد نفسه وحيدا ًفي عرض البحر فكانت تنصحه بأن يبقى منشغلا،وأن يتجنب المجهود الغيرضروري،لذا عليه أن يُشغِل العقل بأوراق اللعب أوالاجابة عن العشرين سؤال الموجودة في الكتاب أوالغناء، بأعتباره طريقة آخرى لرفع الروح المعنوية،وقبل كل شيء أن لايفقد الامل،وفي ذروة الصراع الشرس بينه وبين النمر،  يبدأمرحلة ترويضه ويفلح في ذلك،ليصل الى نتيجة مفادها :”لولا وجود النمر لما شعر بالطمأنينة والسلام”.
ثم تأتي عاصفة قوية يجد فيها باي نفسه وكأنه يرى وجه المسيح وسط البرق والرعد والمطروالغيوم الكثيفة والبحر الهائج، فما كان منه إلاّ أن يخاطبه :”أيها المسيح أنا أحتاجك،أيها الاله،اشتقت لكلماتك،أيها الرحيم العطوف “.  . كان باي فرحا جدا ًساعتها،حتى أنه بدأ يخاطب النمر :” أخرج من مخبئك لترى كم هو جميل،إستعد لقد جاء من اجلنا “. .  لكنه عندما يجد النمر خائفا جدا ً يشفق عليه فيبدأ بمخاطبته محتجاً .:” لماذا تخيفهُ، لقد خسِرتُ عائلتي .. انا أستسلم .. ماذا تريد غير ذلك “

الحركة الثالثة
في هذا الجزء  من الفلم يصل باي الى غابة خضراء هي أقرب الى صورة من الخيال منها الى الواقع،بقعة لايتواجد عليها بشر، فقط اشجار وأعشاب وبرك مياه عذبة وأعداد هائلة جدا من حيوان صغيرأليف أسمه السرقاط وليكتشف باي بعد ذلك،أن اشجارالجزيرة ليست سوى أكلة ٍللحوم البشر، وأن كل ماموجود على الجزيرة خلال النهارمن مياه عذبة يتحول في الليل بفعل مادة كيميائية الى حوامض تحلل الاسماك،كما أن صوت حيوانات السرقاط المخيف يدفع النمرإلى أن  يجري هاربا نحو القارب ليبيت فيه طيلة الليل مقابل الجزيرة، وعندما أراد باي أن يأكل ثمرة إحدى الاشجار إكتشف سناً ً بشريا ً داخلها ولم يكن سوى سن إنسان مسكين تائه مثله،وجد نفسه على الجزيرة في يوم ما فأعتقد متوهما ًبأنه سيبقى حيا ًالى الابد في هذا المكان، لكن ماأعطته أياه الجزيرة في الصباح أخذته ليلا .
وكأننا هنا أمام احدى حكايات الف ليلة وليلة لاعلاقة لها بالمسار الواقعي الذي ابتدأت به حكاية الفلم . وهذا جزء أساسي من حبكة الفلم الجمالية التي زواجت مابين الحلم والواقع والذي يلتقي مع طبيعة باي الشخصية الرئيسية للفلم التي تحيا في منطقة متأرجحة مابين الواقع  واحلامه التي تنأى به بعيدا جدا فتتوحد فيها البشرية بأديانها وطقوسها .
 يواصل باي حديثه للكاتب الكندي فيقول :” لم احتمل أن أموت رغم الوحدة التي سأقاسيها،لذا كان علي أن أعود الى العالم أو الموت مُحاولا ً”. ليكتشف  بعد تجربة السِّن الذي عثرَ عليه،أنَّ الاله حتى بعدما تخلى عنهُ كان يراقبه ويدعمه،وعندما كان قد فقد الأمل بالنجاة أعطاه الدعم وأعطاه إشارة لكي يتابع رحلته. 
يصل باي بقاربه إلى الساحل المكسيكي خائرالقوى،وينزل النمر بهدوء على رمل الساحل متجاوزا ً باي المطروح على الساحل ،متجهاً نحو الغابة دون أن يلتفت إليه، وليختفي إلى الابد، ولم يتسنى لباي توديعه هو الآخر كما حصل مع بقية افراد عائلته.
وما أن يصحو من غيبوبته بعد أن يتم العثورعليه من قبل الصيادين حتى يبدأ في البكاء كما لوأنه طفل صغير ضائع وليس ذاك الشاب الشجاع الذي واجه البحر والعواصف،لذا يقر باي أمام ألكاتب بما كان والده قد قاله له:” النمر لم يكن صديقا لك لتقترب منه ” جاء حديث والده هذا بعدما كان باي قد تسلسل دون علم والده برفقة شقيقه الاكبر،وذهب الى قفص النمرفي الحديقة، محاولاً إطعامه قطعة لحم، فأمست المسافة قريبة جدا بينهما  وأمسى الموت قريبا جدا منه كذلك . .
ماترك فيه من أثر مؤلم هو:عدم وجود فرصة لقول كلمة ،وداعا، “أنا أشعر بالألم لأنني لم أتمكن من شكروالدي على كل ماتعلمته منه،ولأخبره أيضا ،أنني بدون دورسه التي علمني أياها  لم اكن لأنجو أبدا ً، أعلم أنه ليس سوى نمر، لكنْ ، كنت أتمنى أن أقول له شكرا ًلقد نجونا ، شكرا لك لانقاذك حياتي ، انا احبك، ستكون معي، لكنني لاأستطيع البقاء معك ”
كثافة الجمل الاخيرة هذه تحمل جوهرالافكارالانسانية العميقة التي حملها خطاب الفلم،بدعوته الصريحة الى المحبة العميقة بين بني البشر رغم تعدد اديانهم،ولن تكون عقائدهم المقدسة عائقا لتفاعلهم وتواصلهم مع بعضهم ومع كل الموجودات التي تحيط بهم إذا ما ولدت الرغبة الحقيقة والصادقة الى ذلك ولن تمنعهم أديانهم من العيش معا متألفين منسجمين حتى وإن كانت لاتتشابه مع بعضها في تسمية الاله والطقوس التي يتعبدونه فيها فالذات الانسانية أوسع من أن تكون سجينة فكرة واحدة .
الحركة الرابعة والاخيرة
في هذاالجزء يصل وفد مؤلف من شخصين يمثل الشركة اليابانية المالكة للسفينة التي غرقت الى المستشفى المكسيكي الذي يرقد فيه باي لمعرفة ماجرى. . وبعد أن يستمعوا لتفاصيل القصة التي يرويها لهم باي بكل تفاصيلها التي حدثت لم يصدقا ماسمعاه، وأعتبروا كلامه خاليا من المنطق :” نحتاج الى قصة أبسط “. لذا طلبوا منه أن يحكي لهم قصة أخرى اكثر قبولا ومعقولية لدى المسؤولين في الشركة عندما يرفعا التقرير إليهم،   ومابين دهشته من هذا الكلام وحزنه العميق على عائلته التي فقدها،لم يجد بدا ًمن تأليف حكاية أخرى لاتقل غرابة عن الاولى تتوفر فيها تفاصيل مؤلمة تحكي عن وحشيةالبشروقسوتهم ومايمتلكونه في داخلهم من عنف ورغبة في القتل عندما يوضعون في ظرف ما،فبدت هذه القصة معقولة ومقبولة لدى وفد الشركة .
وبعد أن ينتهي باي من سرد حكايته للكاتب الكندي يلتفت اليه ليقول له :”
أخبرتك قصتين، فمالقصصة التي تفضلها أنت ؟ .فيجيب الكاتب بعد أن يذرف دمعة على خدِّه :”إنها القصة الاولى .