في لحظة تاريخية حرجة، وبين دخان المعارك وجراح الذاكرة، يعود محمد عابد الجابري ليقف أمامنا، لا كمفكر نقدي فقط، بل كصوت صارخ في برية الهلاك العربي.
ثلاثيته الشهيرة: القبيلة، والغنيمة، والعقيدة، لم تكن توصيفًا لماضٍ سحيق، بل كانت ، وما تزال ، خارطة ذهنية لكل الخراب الممتد من المحيط إلى الخليج .
والسويداء اليوم، تلك المدينة التي حملت على كتفيها تراث الموحدين الدروز، تتحول إلى ساحة اختبار قاسية لهذه البنية العقلية التي ما زالت تحكمنا .
فحين تُستدعى القبيلة لا بوصفها رابطة اجتماعية أو ذاكرة مجتمعية، بل كأداة قمع وقتل، تتحول إلى قوة فوضى لا تعرف قانونًا ولا تعترف بحق .
وما نشهده في السويداء هو استدعاء مقصود وممنهج لهذه البنية، عبر تسليح جماعات متطرفة تحت لافتة “الفزعة العشائرية”، بينما الواقع يكشف عن تحريك منظم لمليشيات ذات طابع داعشـي، تتبع لهيئة تحرير الشام بزعامة الجولاني، تحت غطاء محلي أو تسويغ مناطقي .
إن القبيلة هنا تتحول من درعٍ اجتماعي إلى خنجرٍ طائفي يُشهر في وجه مكون أصيل من مكونات الهوية السورية، في أبشع مشهد للتواطؤ بين السلاح والعصبية .
ومن رحم هذه العصبية تولد الغنيمة .
ليست غنيمة حرب فحسب، بل غنيمة وجود، وغنيمة جغرافيا، وغنيمة سلطة فوق الأنقاض .
تُعامل السويداء لا بوصفها منطقة متمردة، بل باعتبارها “أرضًا سائبة” يُعاد تشكيلها سياسيًا وطائفيًا بالقوة .
إن ما يطمح إليه الجولاني وداعموه ليس فقط إخماد أصوات المعارضة، بل فتح الطريق لهيمنة فكرية، مذهبية على منطقة نأت بنفسها طيلة سنوات عن الطائفية، وبقيت تقاوم مشاريع الأسلمة السياسية سواء من النظام أو من الجماعات المسلحة .
الغنيمة هنا ليست ماديات، بل روح المكان، وقرار أهله، واستقلالهم الهوياتي والسياسي، الذي يراد سحقه .
أما العقيدة، فتدخل هذا المشهد لا كإيمان خاص أو معتقد شخصي، بل كأداة تكفير وإقصاء .
يُمارس على الدروز اليوم إرهاب رمزي وجسدي مزدوج، يبدأ بالتشهير وينتهي بالإذلال العلني عبر حلق لحى وشوارب الشيوخ في مشهد مُهين ومدروس، يهدف إلى تحطيم الهيبة المعنوية للطائفة بأكملها .
هذا لا ينتمي لأي صراع سياسي، بل يعيدنا إلى منطق “الفتح” الذي لا يرى في المختلف إلا عدوًا أو عبدًا، ولا في الطائفة إلا ضلالًا يجب تصحيحه بالقوة، أو إبادته إن اقتضى الأمر .
لقد تحولت العقيدة ، كما وصفها الجابري ، من أداة للسمو إلى وسيلة للقتل الممنهج، ومن مبدأ أخلاقي إلى فتوى تبرر سفك الدم .
وسط كل هذا، يقف الإعلام العربي صامتًا، متواطئًا، أو منشغلًا بتزييف الصورة .
تُمارس أكبر جريمة تطهير طائفي منذ سنوات، لكن دون كاميرات، ودون ضجة، ودون إدانة.
لا حديث عن قطع الكهرباء، ولا عن منع الماء، ولا عن الحصار الغذائي والطبي .
لا صور للقتلى، ولا لأجساد الشيوخ التي أُهينت، وكأن هناك قرارًا غير مكتوب بأن ما يجري في السويداء لا يستحق أن يكون خبرًا .
الإعلام الطائفي منحاز للمجرم، أما الليبرالي فيلوذ بالصمت، ربما لأنه لا يعرف من الضحية، أو لأنه خائف من أن يُتّهم بـ”الاصطفاف الطائفي” إن قال الحقيقة .
إن ما يحدث في السويداء ليس مجرد اشتباك، بل علامة دامغة على أن العقل العربي لم يخرج بعد من كهف الجابري. ما زال رهين القبيلة التي تقتل، والغنيمة التي تُنهب، والعقيدة التي تُكفّر .
الفشل في تجاوز هذه البنية لم يعد ثقافيًا أو فكريًا فقط، بل صار جريمة دموية بحق شعوبنا.
لقد آن أوان مواجهة الحقيقة كما هي، دون مواربة أو تجميل .
السويداء ليست مدينة محاصرة فقط، بل مرآة لسقوط الدولة والعقل معًا .
وإن لم نجد فيها مذبحة جديدة، فسنجد ما هو أخطر: موت الضمير.