صلاة الجمعة في كربلاء كما هو معروف تقيمها ممثلية مرجعية السيستاني، ذلك بعدما قام المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق (لاحقا المجلس الأعلى الإسلامي العراقي) باحتكار منبر جمعة النجف منذ أول صلاة جمعة بعد سقوط الديكتاتورية أقامها محمد باقر الحكيم، ثم واصل ذلك القيادي في المجلس الأعلى صدر الدين القبانجي. فاتخذت المرجعية من الصحن الحسيني في كربلاء منبرا للتعبير عن مواقف مرجعية السيستاني، والذي يعد عرفا بالمرجع الأعلى للشيعة.
عندما استمعت إلى مقطع من خطبة ر صلاة جمعة، ذلك في 28/07/2017، فهمت منها ضوءً أخضر أو رخصة شرعية – ولو بالعنوان الثانوي – لنقد الدين الإسلامي.
لكن ابتداءً لا بد من توضيح نقطتين، لإزالة ما يمكن أن يحدث من خلال العنوان والمقدمة آنفا من سوء فهم.
الأولى: ليس هناك فتوى مباشرة من مرجعية السيستاني بجواز نقد الدين عموما، ناهيك عن نقد الإسلام على وجه الخصوص، مما أزاوله أنا على سبيل المثال. بل هو استنباط شخصي من قبلي من النص الذي ذكره خطيب جمعة كربلاء مؤخرا، ومن قبيل تطبيق الفتوى على الموضوعات الخارجية، حسب المصطلح الفقهي المتعارف عليه، والذي هو أي تشخيص الموضوعات الخارجية من مهام ما يعبر عنه بلغة الفقه بالمكلف، وليس من مهام مرجع التقليد.
الثانية: عدم حاجتي شخصيا لفتوى بهذا الخصوص، لعدم إلزامية الفتوى لي، كوني غير ملتزم بعموم الشرع الديني، لأنني دينيا لاديني، وسياسيا أعتمد الديمقراطية العلمانية الليبرالية. بل حتى في السنوات الأخيرة من إيماني بالدين الإسلامي، والتزامي الدقيق بأحكامه، وآخر سني عضويتي في حزب إسلامي، توصلت إلى رأي فقهي معتبر، بعدم إلزامية فتوى الفقيه بالقضايا الاجتماعية والسياسية، لأنها من الموضوعات الخارجية، علاوة على اعتمادي آنذاك مبدأ التبعيض في الاتباع الفقهي، من أجل ألا أقول التقليد، كما هو المصطلح الشائع عند الشيعة، وهذا أي التبعيض هو مما ذهب إليه المرجع الراحل محمد حسين فضل الله، الذي كنت وكيله لعشر سنوات في ألمانيا، حتى أعلنت تخلِّيَ عن التوكل عنه، عندما تحولت سياسيا إلى علماني، رغم بقائي في البداية مؤمنا بالإسلام ملتزما بأحكامه، لأني رأيت كسياسي علماني لم يعد يناسبني أن أكون وكيلا لمرجع تقليد، علاوة على اختلافي وقتذاك مع المرجع الذي كنت وكيلا له، كونه كان إسلاميا، وأنا أصبحت علمانيا. كما إن التبعيض كما توصلت إليه آنذاك هو الأصل، بحكم أصالة اليسر، علاوة على ضعف أدلة وجوب التقليد بالطريقة المتعارف عليها في الوسط الشيعي، حتى في ضوء الفقه الشيعي نفسه، حسب رؤية من رؤاه.
والآن لننظر كيف استنتجت، أو استنبطت جواز نقد الإسلام من كلام ممثل المرجعية. طبعا هذا إذا كان كلامه يمثل الرأي الفقهي للمرجع الذي يتكلم باسمه، مع إنه لا أحد يشك في ذلك، ولكني أقول ذلك، من قبيل فرض المحال، بأنه تكلم باجهاده هو، مما يستبعد كل الاستبعاد.
ففي خطبة الجمعة الأخيرة دعا ممثل المرجعية عبد المهدي الكربلائي إلى ضرورة التعايش السلمي بين كافة مكونات المجتمع العراقي، فبعدما أشار إلى أن «مسألة تكفير الآخر أسالت الكثير من الدماء في العراق»، قال إن «المطلوب التعامل بعقلانية وواقعية وعدالة مع التعددية»، كما بين إن «المشتركات بين المذاهب والأديان تفرض علينا احترام الآخر، حتى نتمكن من التعايش السلمي والابتعاد عن الفتنة»، مؤكدا – وهنا بيت القصيد فيما يتعلق بمقالتي هذه – أن «من حق صاحب أي فكر مهما كان الدفاع عن فكره لاثبات أحقيته، ومحاولة إقناع الآخرين به بأسلوب علمي، ولكن من دون المساس بكرامة من يخالفه في الفكر وجرح مشاعره، بما قد يؤدي إلى الإخلال بالتعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد».
هنا باعتباري أتوفر على ثقافة فقهية من خلال خلفيتي لثلاثين سنة، علاوة على أني أزعم أني أتمتع بملكة الاستنباط، فإن نقد ودحض الدين الإسلامي، حسب أغلب الفقهاء من المحرمات بالعنوان الأولي، ولا أظن المرجع السيستاني يختلف في ذلك. ولكن ما قاله الكربلائي معبرا عن موقف المرجعية في ذلك، يمثل بلا شك الحكم الشرعي بالعنوان الثانوي، لوجود ضرورة كبرى في حقن الدماء، وإشاعة التعايش السلمي، التي لا بد أن يكون أي التعايش السلمي عند الفقيه أهم، ليتحول بسببها إلى الحكم بالعنوان الثانوي.
إن عبارة «أي فكر مهما كان»، لا بد أن تشمل الفكر اللاديني، أو الفكر الناقد للدين، لأنه قال «أي فكر» ولم «أي فكر ديني». ولكن قد يقال إن هذه الرخصة في نقد الإسلام، التي أستنتجها من القول أعلاه، بالعنوان الثانوي، مشروطة بعدم مساس كرامة ومشاعر من يخالفه في الفكر، حسبما جاء في الخطبة. وهنا بلا إن المعنيين هم المسلمون الذين يرون في نقد دينهم مساسا بكرامتهم ومشاعرهم. لندع المساس بالكرامة جانبا، لأنه غير وارد على الأقل فيما يمارس من نقد علمي متوازن، ولكن بكل تأكيد إن نقد الإسلام والتشكيك بإلهيته، بل نفيها، هو مساس بمشاعر الكثير من المسلمين، إذا لم نقل كلهم. لكن هذا الشرط للرخصة الشرعية هو الآخر، أعني الشرط، مشروط بعلته، وهو «بما قد يؤدي إلى الإخلال بالتعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد»، معنى ذلك يزول حكم الاستثناء بزوال علته، وهو الإخلال بالتعايش السلمي. واستخدام كلمة «قد» يجعل هذه النتيجة محتملة، وليست قطعية الحدوث، وبما أنها محتملة، فهي خاضعة لتقدير الممارس لعملية النقد. ومن هنا أقول إن نقد صاحب الخلفية الاجتماعية الإسلامية، أي المولود من أبوين مسلمين، من دون تحوله إلى دين آخر؛ نقده للإسلام لا يعد مما يخل بالتعايش السلمي، إنما الذي يمكن أن يخل بالتعايش السلمي، هو نقد أتباع دين ما لدين الآخرين، أو نقد الشيعي للمذهب السني، وبالعكس نقد السني للمذهب الشيعي، ولكن نقد الشيعي، أو ذي الخلفية الاجتماعية الشيعية غير المتحول إلى المذهب السني للمذهب الشيعي، كما نقد السني، أو ذي الخلفية الاجتماعية السنية غير المتحول إلى المذهب الشيعي للمذهب السني، لا يعد مما يخل بالتعايش السلمي. طبعا كل هذا بلحاظ واقعنا الاجتماعي والثقافي، وإلا ففي مجتمع ليبرالي حر حداثوي، ينبغي ألا يؤدي نقد أي دين أو مذهب إلى الإخلال بالتعايش السلمي، كما هو الحال في أورپا وعمو العالم الحر. من هنا كان قول ممثل المرجعية دقيقا، فهو يأخذ واقعنا العراق، أو الشرقي بنظر الاعتبار.