قراءة في المجموعة القصصية (بيت جني) للقاص حميد الربيعي قصة انتشاء أنموذجا.
يسعى القاص حميد الربيعي عبر مجموعته القصصية (بيت جني ) الولوج الى عمق المضمرر الثقافي المتمثل في إشكالية العلاقة الكامنة في طبيعة الثقافة الأبوية (الذكورية ) بكل ما تحمله من ابعاد ثقافية واجتماعية ظلت ولفترة طويلة تتخذ من العادات والأعراف الدينية والقبلية ملاذ آمن يفرض شروطه على الوعي الاجتماعي من خلال السعي الدائم الى وصل كل ما يرتبط بطبيعة هذه الإشكالية برباط ديني حكائي مقدس مما جعل من هذه الاشكالية عقبة ثقافية في وجه التحرر والانعتاق من سطوة هذه الذكورية و الرؤية الادبية التي تبحث عن الجمال في النص عبر المتخيل لكن تضمر خلفها أنساق ثقافية تساهم في أعادة أنتاج الواقع عن طريق السرد . تتميز المجموعة القصصية (بيت جني) الصادرة سنة (2015)عن دار امل الجديدة /سورية-دمشق والمكونة من أربع عشرة قصة باشتغالها مابين واقع مثقل بالإشكاليات الاجتماعية والنفسية و بين منظومة ثقافية ذكورية التوجه عبر المتخيل الحكائي المتمثل في الرواية والقصة ، حيث يسعى الكاتب من خلال السرد بقلب آليات التصور والتفكير عبر فضاءات القص عن طريق العودة بالقص من المتخيل الى الواقع اي الولوج للواقع عبر المتخيل وذلك بجعل أحداث قصصه تبدأ من لحظة المتخيل الذاتي المرتبط بحكايات متواترة عبر أجيال مضت يتداخل فيها الوهم والخيال وذلك للهروب من سطوة الواقع المشوه ولان هذا المتخيل الحكائي نتاج متخيل ثقافي لذلك هو ايضا نتاج نمط ثقافي ذكوري حامل للأنساق النفسية والفكرية التي شكلت هذا المتخيل عبر نتاجاتنا الادبية القديمة والحديثة . تبدأ كل قصة بمتخيل سردي حكائي يروى عن طريق سارد عليم خارجي كلي العلم او بلسان إبطالها التي جلهم من النساء، تخضع القصص وتتأثر بحتمية الواقع وتحولاته رغم غرابة أحداثها وهي قصص تميل الى الواقعية السحرية في اغلبها بداء من عنوان المجموعة(بيت جني) الذي يمثل دلالة واضحة على غرابة الواقع المعاش و (امرأة من ماء) وتنتهي بقصة (في البدء ) تتشارك جميع قصص المجموعة فيما بينها بحس نقدي يحاول كشف وتعرية انماط ثقافية سائدة من خلال لغة تحفظ خصوصية كاتبها وطريقة سرده لعوالم قصصه عبرنصوص تعتمد الغرائبية و التهكم والسخرية من السائد الثقافي فقد استطاع الكاتب من جعل فضاء قصصه يرتكز على بنية ثقافية ذكورية التوجه والفعل تنفتح بدورها عل مكان وزمان واقعي هو نتاج صراعات تاريخية وسياسية وثقافية ذكورية وهو قلب العراق النابض (بغداد ) بكل تنوعها الثقافي والديني والأخلاقي كونها البوتقة التي انصهرت فيها كل الطوائف والأعراق والديانات لذلك تتميز بكونها عراق مصغر وبنية ثقافية متكاملة وما نعنيه بالبنية الذكورية :هو الميل للتمركز حول مرجعية ثقافية معينة ذات نمط عيش وتفكير تسلطي استبدادي تتشكل عموديا من السماء الى الأرض تبدأ من أله ذكر ،وزعيم،وقائد…وأمام، ولكي لا نقع في فخ التنظير والإسقاطات الفكرية دون أدلة نصية تؤكد على ما ذهبنا أليه اعتمدنا قصة (انتشاء) كنموذج سردي تتضح فيه كل أنماط الثقافة الذكورية .
تمثل قصة (انتشاء) واحدة من القصص التي ترتكز في بنائها على ثقافة تراتبية يتزعمها الذكر وتتذيلها الأنثى وهي تعكس نمط عيش وتفكير سائد في مجتمعاتنا اليوم ،الذكر بوصفه عقل وقوة والانثى بوصفها جسد وعاطفة وحاجة غريزية انتجتها ثقافتنا الذكورية تقول المرأة وهي تسرد حكايتها ( الأمر لم يكن بيدي ،فأنا منذ اصطبغت بالألوان صرت مشاعة من حق الآخرين ) ، تبدأ احداث القصة بجملة تعبر عن واقع مكتنز بالإخفاقات والعجز التام الذي يحيط عالم المرأة حيث يفتتح القص على لسان البطلة (اشعر بالقرف ) لتضعنا أمام شعور أنساني مشبع بالانكسارات النفسية والثقافية وهي جملة ثيمية اعتمدها الكاتب لجعل المتلقي أمام لحظة تدين الواقع عبر المتخيل والذي يعود على جملة بعدها (رغم أني جميلة و أتبواء مكانا مرموقان في البيت ) لكن سريعا ما يعود هذا المتخيل للعودة والاستسلام للواقع ( هذا القرف لم يأتي دفعة واحدة ، لقد تسرب رويدا ، في الليالي الاولى )وهو تاكيد لفعل التخيل المؤقت الذي تفتعله البطلة (كنت اترفع عنه بإغماض العينين) لكن سريعا ما سيكتشف المتلقي انه أمام تخيلات وأوهام شخصية تعكس حجم العزلة التي تشعر بها البطلة الأنثى من واقع مثقل بالإقصاء لذلك تعمد الكاتب من تجريدها من اي هوية سوى أنها أنثى تختزل بداخلها العديد من الإناث حيث تدور إحداث القصة حول فتاة تروي كيف انتهت في بيت رجل غني جاء من أحدى المدن ذات النمط الصحراوي البدوي ،لكن هذه النهاية جاءت بعد فشل صديقها الشاب المتعلم في الحصول على وظيفة مما دفعه للعودة الى مضمراته الذكورية الاولى والتي تصور الأنثى سلعة لتبادل المنفعة تقول : (كان قد باعني شاب فشل في الحصول على وظيفة مهندس ديكور فقرر ان يكون سمسارا او قوادا ) ان فعل تسخير الأنثى لأطماع الذكر وعلى فعل الاستلاب (لم اسمع ما قال ، بيد اني حزرت كلماته الضائعة ، التي هي تعزية عما ستؤل أليه لوحة جميلة بيد بدوي يرعى الجمال !!!) في أشارة واضحة على فشل اجتماعي اتخذ من البداوة الفكرية مرجعية ذكورية لا هم لها سوى قتل كل أشكال التفكير والجمال والاختلاف ( اني لرجل قادم من جوف الخواء ) ليظل هذا التاجر الرجل أسير غرائزه وبداوته التي يفقد معها وجوده كانسان .
استخدم الكاتب تقنية الفلاش باك في سرد الأحداث اي الروي بالعودة من الحاضر الى الماضي على طريقة الحكايات (في الليلي الاولى ) وهو تأكيد على أننا لا نزال نرزح تحت رحمة وعي ماضوي ذكوري في أشارة واضحة على زمن حكايات ألف ليلة والليلة وغيرها من الحكايات التي تداعب ذكوريتنا المفرطة . استخدم الكاتب تقنية الكامرة في الوصف بكل ما تحمله من دقة ووضوح لكن وصف مكثف مشحون ببعد دلالي تأويلي عميق ينفتح على العديد من الانطباعات والتفسيرات النفسية والفكرية (صالة البيت تتسع لأشخاص كثر حيطانها جرداء إلا من نصف آية مجتزأة بغلط إملائي واضح في موقع الهمزة ) فوجود آية ذات خطاء إملائي له دلالة ثقافية أكثر منها فنية تكشف حجم استغلال الدين من قبل المنتفعين وأصحاب السلطة فوجود الآية هو وجود شكلي ظاهر للعيان لإخفاء نقص وعجز ثقافي ذكوري مستشري يتحرك بغطاء ديني معلن وغطاء ذكوري نفعي مضمر . اعتمد الكاتب آماكن ذات دلالات رمزية ذكورية تستدعي عبر المتخيل الحكائي صور ولحظات ترسخت في عمق تراثنا الأدبي حينما كانت مدينة الخلافة تعج بالقصورلذلك كان مدلول القصرار يستدعي دلالات ثقافية وتاريخية أدبية وصلتنا عن طريق كتب ومؤلفات مشهورة مثل كتاب الأغاني وغيره الذي صور بأسلوب أدبي ،الجواري ،والقيان في عصر الخلافة الإسلامية كرمز ثقافي ارتبط بالسلطة الذكورية التي ترسخت في اللاوعي الجمعي لشعوبنا العربية لذلك ارتبط مكان القصر في القصة بجوار السلطة ( المخفر) وهي دلالة الهدف منها دفع المتلقي لاستدعاء لحظات تاريخية معينة استمر تداولها بفعل القصص والحكايات القديمة حول قصور الأغنياء وأصحابها وكأن لسان حال الكاتب يقول : ما أشبه اليوم بالبارحة لذلك جعل من مكان القصر المجاور لمخفر الشرطة له دلالة تاريخية تتضح على لسان البطلة وهي تصف شعورها بالعزلة والدونية من انها تحولت في القصر مجردة حاجة او لوحة لقضاء المتعة لصاحب القصر البدوي ( ترسب في داخلي القرف مما يفعله يوميا ,لقد بات الرجل لا يغادر قصره ، الذي اشتراه بالقرب من مخفر الشرطة )وهو تعبير عن حجم الابتزاز النفسي والجسدي الذي تتعرض له المراة في هذه الدول أفضى بالمرأة العزلة والاستتار عن الحياة الذكورية كونها خلقت لإرضاء الذكر اي جسد وانتشاء ولذة خاصة فقط. استخدم الكاتب لغة صورية تعتمد المشهدية في سرد الأحداث حيث يضعنا الكاتب امام مشاهد تعتمد التداعي الجسدي والنفسي للشخصية لا لغرض الاغراء وشد القارئ وإشعال شبقه الجنسي كما يتصور البعض عبر احداث او مشاهد جنسية تشعره بالانتشاء وإنما لوضع القارئ أمام فعل التهميش والاستلاب للأخر كانسان فاعل له طاقة خلاقة استنزفناها وأفرغناها من محتواها الفكري تقول ( ما أن يدخل طقسه الليلي . لا يستعجل الحركة أحيانا يدنو مني لحد الملامسة ، أصابعه الخشنة تمر اولا على جيدي ثم تنزلق بسرعة نحو منبت النهدين ، عندئذ تمسي حركته رعناء ، اذ يتخبط بكل الاتجاهات وكأن ثمة من يطارده فيسرع راغبان بالتهام ثديي والجوع يتجسد في نظرته الملتهمة ) حيث يتكرر مشهد التداعي والاستلاب اكثر من مرة تأكيدا على طبيعة التملك والاستحواذ والاستلاب الذكوري الذي يتضح اكثر من غيره في علاقة الذكر مع الأنثى (في داخلي تحول القرف الى لعنة ابدية على الفنان الذي رسمني وجعلني لوحة معلقة على حائط صالة )استعمل الكاتب تعابير تدلل على الفعل الذكوري مثل : اخرج قضيبه ، توعدني ، بداء يداعبه ، يوقضه ،يجأر …الخ) لابراز هذا النسق الفحولي المنقاد وراء نرجسيته وأوهام الذكورية.
استنتاج سردي
اشترح الكاتب عوالم ورؤى ذات توجه ثقافي نقدي يحاول من خلالها أحداث إزاحات فكرية ونفسية في البنية الاجتماعية والنفسية للواقع عن طريق المتخيل المحايث للواقع لا المفارق اي إعادة انتاج الموروث الحكائي المتخيل الذي شكل ذائقتنا الثقافية والأدبية عبر مراحل تطورها ولكن برؤية وأسلوب معاصر ينتزع من الواقع تابواته وأصنامه الثقافية ومن ثمة تكسير هذه التابوات عبر تفكيك وفضح أنساقها المعرفية والنفسية عن طريق المتخيل الحكائي للكشف عن مضمرات الواقع بكل تمثلاته اليومية والثقافية والنفسية لكن باللسان المغلوب او المستلب نفسه وهي التفاتة موفقه من الكاتب استطاع الكاتب عبرها وبحس نقدي ان يجعلنا نحس ونشعر ونشجب فعل الاستلاب بكل تجلياته وانكساراته النفسية والاجتماعية . وعليه نجد ان ثقافتنا الذكورية قد أسهمت بشكل لا يقبل البس في قتل وضياع كل الطاقات البشرية والفكرية حتى بتنا شعوب لا تجيد إلا فن الإقصاء والاستبداد الذكوري في الرأي ظنا منا أنها صاحبت الأصل في البطولاتنا الأسطورية .